تقييم المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية : القسم الأول ـ ميزاتها وخصائصها

بقلم ممدوح نوفل في 25/09/1992

تقييم المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية خلال عام
ميزاتها وخصائصها، مسيرتها، نتائجها، آفاقها اللاحقة

مقدمة: 25/9/1992
في 30 اكتوبر القادم تكمل عملية السلام العربية والفلسطينية- الاسرائيلية عامها الاول. وخلال هذا العام عقد المتفاوضون 6 جولات من المفاوضات الثنائية والمتعددة الاطراف، وسابعتها ستعقد في 21 اكتوبر القادم. كما عقدت جولتان من المفاوضات المتعددة الاطراف. وبجانب ذلك كله وفي العام ذاته بذلت جهود مضنية وكبيرة، وعقدت لقاءات متعددة، وتمت اتصالات سرية وعلنية، شارك فيها الكثير من الدول والافراد على أعلى المستويات. وقبل وخلال جولات المفاوضات أعدت عشرات الدراسات والمشاريع، شارك فيها عشرات بل مئات من الباحثين والخبراء، وعدد غير قليل من مؤسسات الابحاث والدراسات. وهذا كله تم كما هو معروف في اطار البحث عن السلام في الشرق الاوسط على قاعدة المبادرة التي أطلقها الرئيس الامريكي بوش في آذار 91.
في هذه الدراسة سنحاول القيام بتقييم اجمالي للمفاوضات على امتداد عام، مركزين على المفاوضات الثنائية باعتبارها هي الاساس، وعلى دور الراعي الامريكي باعتباره صاحب وراعي المبادرة، وعلى مواقف طرفين من أطراف النزاع اسرائيل والفلسطينيين باعتبارهما قطبي الصراع. معتمدين في ذلك على ما توفر من وثائق ومعلومات عامة او خاصة تتعلق بالمفاوضات. آملين ان تتمكن الدراسة المساهمة في تقييم الجهد الضخم المبذول حتى الان. وان نقدم للقاريء صورة موضوعية عن واقع ومجريات المفاوضات. وان تساهم في رسم صورة أولية عن آفاقها ومستقبلها.. ولتسهيل ذلك فقد تم تقسيم الدراسة ألى أربعة أقسام: الأول يبحث في ميزات وخصائص العملية الحالية والثاني يبحث في مسيرة المفاوضات ومواقف الاطراف خلالها، والثالث: يتعلق بالنتائج التي اسفرت عنها، والرابع يستقريء آفاق العملية ومستقبلها.
وكمقدمة لذلك كله يمكن القول اذا كان من المتعذر الان استقراء كل النتائج التي ستتركها والمتغيرات التي ستحدثها مفاوضات السلام العربية-الاسرائيلية مستقبلا على اوضاع دول وشعوب المنطقة، وعلى نمط علاقات بعضها ببعض، فليس عسيرا على كل من تابعها وراقبها رؤية التفاعلات السياسية والفكرية والاجتماعية الاولية التي بدأت تحركها في في المنطقة منذ الان.
فالمعروف أن مؤتمر السلام بشقيه الثنائي والمتعدد الاطراف انطلق في 30 اكتوبر 91 من مدريد آخذا على عاتقه معالجة كل أوضاع منطقة الشرق بعقدها التاريخية، وصراعاتها المستفحلة، وعلاقاتها العدائية المستحكمة. وسار بها برعاية أمريكية (وأمريكية روسية اسمية) نحو مرحلة جديدة تختلف في نظمها ومفاهيمها وعلاقاتها السياسية والاقتصادية والامنية والفكرية والثقافية اختلافا جوهريا عن تلك المفاهيم والعلاقات التي سادت المنطقة مدى نصف قرن من الزمن.
ومنذ الافتتاح أثار مؤتمر السلام الكثير من التساؤلات. القليل منها وغير الحاسم، أجابت عليها جلسات المفاوضات التي عقدت حتى الان. أما الاسئلة الاخرى الهامة والمعقدة فلا زالت بدون اجابات شافية حاسمة. قبل عام من الان طرح في الساحة الفلطسينية والعربية والدولية سؤال هام، هل ستتواصل المفاوضات ؟ وهل سيتمكن مؤتمر السلام من تحقيق الاهداف التي حددت له في مبادرة بوش وفي رسالة الدعوة (1) ورسائل التطمينات أم أن مصير هذه المحاولة سيكون كسابقاتها؟. ومنذ ذلك التاريخ وحتى الان لا زال هذا السؤال مطروحا على كل المعنيين بعملية السلام.
في الاجابة على هذا السؤال انقسمت مواقف أهل المنطقة وكل المراقبين والمهتمين بقضايا الشرق الاوسط بين متفائل ومتشائم. ولم يخلو الامر من وجود بعض المتشائلين. والان وبعد مضي احدى عشر شهرا على بدء عملية السلام، لا زال الاختلاف والانقسام قائما، وبذات الحدة تقريبا مع تسجيل حركة تنقلات خفيفة بين الموقفين او الثلاثة مواقف. وبالتدقيق في مقومات ومستندات المواقف المتباينة، يتبين ان لكل منهما ما يبرره، ومعه من الحقائق والوقائع ما يلزم لدعم واسناد موقفه. ولعل عدم توصل المتفاوضين (حتى الان) الى اتفاقات ملموسة، وعدم ظهور الدخان الابيض فوق اي محور من محاور المفاوضات العربية الاسرائيلية الثنائيات منها او المتعددة الاطراف يساعد على بقاء مثل هذا الانقسام، ويمكن كلا من الموقفين المحافظة على وحدة وتماسك انصاره ومؤيديه، ويزيد من صعوبة اعطاء تقديرات حاسمة حول النتائج النهائية لمؤتمر السلام. وأظن ان كل محاولة للجزم منذ الان بصحة ودقة اي الموقفين والرأيين سيكون فيها شيئا من التسرع وكثير من الامنيات والرغبات الذاتية.
الا أن عدم القدرة على اصدار أحكاما جازمة حول قدرة مؤتمر السلام على وصول محطته النهائية وقطع كل المسافات الزمنية(2) بتوقيتاتها المحددة، وتجاوز المنزلقات والمنعطفات الحادة الكامنة في طريقه الطويل، والمحافظة على استمرارية مشاركة كل الاطراف المعنية بالصراع وكل الاطراف الملتحقة للمساعدة …الخ. فان كل ذلك لا يمس دقة الحكم القائل بان العملية التفاوضية الجارية تتمتع بسمات وميزات لم تتوفر لأي من المحاولات التي سبقتها. وانها بسبب هذه الميزات استطاعت الصمود حتى الان وضمنت لنفسها التواصل عاما كاملا، متخطية الكثير من الصعوبات وعمليات الاعاقة والعرقلة الطبيعية والمتعمدة التي تعرضت لها.

القسم الأول
خصائص وميزات العملية السياسية الحالية:
بتفحص عملية السلام الحالية يمكن رصد الخصائص والميزات التالية فيها:
1) غياب الاستقطاب والتجاذب السلبي الخارجي:
بانهيار المعسكر الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة اصبحت الولايات المتحدة الامريكية القوة المهيمنة على الوضع الدولي، وضمنت لنفسها افضلية في القرار الدولي واحتفظت لنفسها من تحديد أولويات التنفيذ. في ظل هذا الوضع أطلق الرئيس بوش مبادرته بتاريخ 6 /3/91 حول الشرق، محددا فيها معالم سياسة ادارته على النحو التالي: حل ازمة الشرق الاوسط على اساس قرارات الامم المتحدة 242 و 338، والارض مقابل السلام، الامن والاعتراف باسرائيل، الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني.
وعلى هدى هذه التوجهات تحرك الوزير بيكر الى المنطقة وزار دولها في عدة جولات مكوكية(3). ولم تواجه لا مبادرة الرئيس بوش ولا الجهود الميدانية للوزير بيكر اية منافسة من اية قوة دولية كما لم تواجه جهوده اية عرقلة او مشاغبة خارجية. بل انضم لها ودعمها الاتحاد السوفياتي (سابقا) ودول السوق الاوروبية المشتركة وبهذا تهيأ لهذه العملية وضعا دوليا لم يتهيأ لسواها من قبل. فكل المحاولات الامريكية(4) السابقة التي طرحت لمعالجة قضية الشرق الاوسط كانت تصطدم دوما بقانون الاستقطاب والتجاذب المضاد الذي تحكم في العلاقات الدولية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط سور برلين وتوحد الالمانيتين. واذا كنا لسنا بصدد اجراء مراجعة شاملة لتأثيرات الحرب الباردة على القضية الفلسطينية وعلى الشعب الفلسطيني، فلعل من المفيد تثبيت خلاصة رئيسية تقول اذا كان اغتصاب اسرائيل لمساحات واسعة من الاراضي الفلسطينية في عام 47 وتهجير مئات الالوف من الفلسطينيين واحدة من افرازات الحرب العالمية الثانية، فاحتلال اسرائيل للضفة الغربية والجولان وجنوب لبنان وسيناء وتشريد مئات الالوف في عام 67 وتحول اسرائيل الى قوة اقليمية كبرى وتغذيتها بمئات الالوف من المهاجرين وبكل صنوف المعدات الحربية الحديثة والفتاكة كانت هي الاخرى افرازا من افرازات الحرب الباردة.
2) المشاركة الدولية الواسعة:
في نطاق سعيها لانجاح مبادرتها الجديدة، وبالاستناد لوضعها المقرر في السياسة الدولية، عملت الادارة الامريكية على زج كل الاطراف المعنية بصورة مباشرة وغير مباشرة بالصراع في المفاوضات المباشرة. حيث شاركت ولأول مرة دول المغرب العربي ودول مجلس التعاون الخليجي ومصر واليمن اضافة لسوريا ولبنان والاردن والفلطسينيين واسرائيل. كما اشركت العديد من دول العالم وتجمعاتها، السوق الاوروبية المشتركة والصين واليابان وكندا. وابتكر الوزير بيكر اطارا تفاوضيا جديدا “Multilateral” استوعب كل هذه الدول وحولها الى أطراف مشاركة في المفاوضات ومعنية بالتالي عن تواصلها ونجاجها. وبهذا وجدت الاطراف المعنية بالصراع المباشر نفسها محاصرة من كل الاتجاهات الدولية وواقعة تحت ضغط دولي كبير، لم يقتصر فعله وتأثيره في ارغامها على تجنب تحمل المسؤولية عن انهيار المفاوضات فحسب، بل وتعرض كل من حاول الاعاقة والتعطيل الى نقد وضغط دولي معنوي وسياسي شديد مقرونا بضغوطات اقتصادية. ومثل هذا حصل مع شامير ابان معركة ضمانات القروض، حين رفضت دول السوق الاوروبية واليابان تقديم اية ضمانات بديلا عن الضمانات الامريكية. وفي اطار اظهار اهتمام الادارة الامريكية بعملية السلام وحشد أوسع مشاركة دولية، شارك الرئيس بوش شخصيا في افتتاح مؤتمر مدريد ونجح بيكر في حشد عدد كبير من وزراء خارجية عدد من دول العالم بالاضافة للرئيس (السابق) غورباتشوف ورئيس وزراء البلد المضيف.
3) نهوض العملية على أسس متينة:
في جولاته المكوكية التي سبقت افتتاح مؤتمر السلام نجح الوزير بيكر في ارساء مشروعه الكبير على أسس متينة، كفلت له حتى الان الثبات وعدم الانهيار واضافة بعض (المداميك) الجديدة اليه. فقد أقنع كل أطراف الصراع بجدية التحرك الامريكي وتصميمه على الانطلاق في العملية بشقيها وان المتعدد سيعقد بمن حضر(5)، وأقنعها بان المشاركة في مؤتمر السلام ستكسبها كثيرا مقابل تضحيات وخسائر بسيطة لا تذكر. وأفهمها ان المقاطعة ثمنها كبير. أوجد مرجعية قانونية للعملية قرارات 242 و 338. وترك للاطراف حرية تفسيرها وفقا لمصالحها. أعطى للاطراف الحرية في التفاوض المباشر(6)، وأوجد بذات الوقت رعاة للعملية Cosponsors لهم الحق في التدخل لدفع المفاوضات قدما للامام. حاول التجاوب مع الطلبات الاساسية للاطراف، ومالم يستطع تثبيته في رسالة الدعوة ثبته في رسائل التطمينات الامريكية التي اعطيت لكل الاطراف. استفاد من فشل بعض المحاولات السابقة ومن ضمنها فشل مبادرته التي أطلقها عام 89، وفشل مبادرة الرئيس ريغان وكل ماسبقهما، فاعتمد اسلوب الغموض البناء، وتجنب اثارة القضايا الشائكة في المرحلة الاولى مثل القدس وألزم أو اقنع الاطراف بذلك. ركز على المصالح المباشرة والبعيدة للاطراف المشاركة والمساندة، واقنعها بالابتعاد عن المباديء والعقائد والشعارات. درس وحدد نقاط القوة ونقاط الضعف عند كل طرف واستخدمها بفعالية. استخدم اسلوب العصا والجزرة واشهر سيوفه عندما اضطر لذلك ورمى بثقل الادارة الامريكية فوق الجميع.
وفي نطاق هذا الاسلوب وتكيكاته وافق للفلسطينيون على (اختيار اعضاء وفدهم الذين لا يخضعون لفيتو من اي كان رتط). وأعطى لاسرائيل (لا يمكن الزام طرف بالجلوس مع أي أحد لا يريد الجلوس معه رتط). انتزع من الفلطسينين عدم مشاركة منظمة التحرير وبذات الوقت قال لهم اذهبوا وتشاوروا وقولوا ل م.ت.ف في تونس اذا سهلت نسهل واذا عقدت فستدفع الثمن. وترك الباب مفتوحا أمام مشاركة م.ت.ف في مفاوضات الحل النهائي. قال للفلسطينيين لا لأي تغيير في حدود بلدية القدس(7). وقال واعطى للاسرائيليين القدس ستبقى موحدة). تجاوب مع رفض اسرائيل للدولة الفلسطينية المستقلة(8)، وأعطى للفلسطينيين امكانية قيام كونفدرالية مع الاردن. الزم الفلسطينيين بالتفاوض في اطار الوفد المشترك الاردني الفلسطيني وبالمقابل اعطاهم مسارا مستقلا.
هذا وقد أكدت وقائع ومجريات المفاوضات مرونة ونجاعة هذه الاسس، وقدرتها على استيعاب التوترات والاشكالات التي تخللتها حتى الان. منها على سبيل المثال الاشكال الاول الذي تعرضت له المفاوضات حول مسألة الوفد الفلسطيني المستقل والوفد المشترك والمسار الفلسطيني الاسرائيلي وعلاقته بالوفد المشترك وبالمسار العربي الاسرائيلي. وذات الشيء ايضا عندما وقع اشكال حول مشاركة فلسطينيين من الخارج في لجان المتعدد الاطراف، وهو اشكال لا زال معلقا في بعض جوانبه حتى الان.
4) انعدام الخيارات أمام الاطراف:
لا شك أن توقيت الادارة الامريكية واطلاقها لمبادرة صنع السلام في الشرق الاوسط جاءت بعد حسابات دقيقة للاوضاع والظروف المحيطة باطراف الصراع في المنطقة. فانهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه أنهى وجود طرف كان يطمح لمشاركتها في تقاسم النفوذ في المنطقة. وتحول الى طرف ضعيف جاهز لتسهيل سيطرتها عليها مقابل مساعدته على تجاوز حالته وتجنب الانهيار الشامل.
ومع انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفياتي انفتحت شهية شامير والليكود على استجلاب ملايين اليهود وتوطينهم في اسرائيل. ونمت احلامه باسرائيل الكبرى. وزادت حاجته للمساعدة الامريكية في نقل المهاجرين الجدد واستيعابهم. وخلال المفاوضات التمهيدية الاسرائيلية-الامريكية اخذ شامير كل الشروط والاسس التي طلبها مقابل مشاركته في عملية السلام. ولم يبقي له بيكر منفذا للتهرب من المشاركة في مؤتمر السلام. ولم يكتف شامير بما نصت عليه رسالة الدعوة فطالب بتأكيدات خطية تتضمن كل ماقيل له شفويا في المباحثات مع بيكر ونال ما يريد في رسالة التطمينات الامريكية الخاصة باسرائيل. أما الجانب العربي فقد جاء توقيت المبادرة الامريكية ودعي للمشاركة في عملية السلام وهو يمر في ظروف صعبة. فانهيار الاتحاد السوفياتي افقد سوريا ومنظمة التحرير قوة مساندة. وبانتهاء الحرب الباردة فقدت امكانية اللعب على تناقض مصالح الدول العظمى. وحرب الخليج انتهت بتعمق التفكك والانقسام العربي. وبروز الولايات المتحدة الامريكية كقوة ذات تواجد مباشر وكبير في المنطقة. وذات عصا غليظة لم تكتف بالتلويح بها بل استخدمتها.
في ظل هذه الظروف لم يكن امام سوريا ومعها لبنان سوى خيار الاستجابة للمطلب الامريكي والدخول في عملية السلام مبدية استعدادها للتكيف مع الوجهة الدولية الجديدة. واستعدادها للتعامل مع متطلباتها وتوجهاتها على صعيد المنطقة. ويمكن القول ان سوريا دخلت عملية السلام وامامها هدفين الاول محاولة ايجاد تقاطع بين مصلحتها في استعادة الجولان وتعزيز نفوذها في لبنان وبين مصالح الادارة الامريكية في صنع استقرار دائم في المنطقة يضمن لها مصالحها لسنوات طويلة. اما الهدف الثاني فهو التكيف مع متطلبات السياسية الامريكية في المنطقة وتجنب المعاقبة على مواقفها وسياستها السابقة شبه المنحازة للاتحاد السوفياتي قبل انهياره، وعلى امل شطب اسمها من قائمة الدول الارهابية في وقت اخذت المطاردة والمحاصرة تزداد ضد كل المتهمين بالارهاب وحتى لبعض المشتبه بهم.
ولم يكن الاردن في حالة أفضل من الحالة السورية. فحرب الخليج انتهت واصابع الاتهام الامريكية تشير له باعتباره طرفا متهما بمساندة نظام صدام ابان اجتياحه للكويت. وباعتباره طرفا رفض التجاوب والتفاعل مع السياسة الامريكية واعمالها العسكرية ضد العراق ورفض الانضمام للتحالف الدولي العربي الذي بنته الادارة الامريكية لهذا الغرض. وجاء دخوله لمؤتمر السلام في محاولة لفك العزلة السياسية وكسر الحصار الاقتصادي وكتعبير عن استعداده للانسجام مع المتغيرات الدولية وللتوجهات الامريكية الجديدة آخذا بعين الاعتبار وضعه الخاص والمعقد خاصة بعد وصول ما يقارب 300 الف فلسطيني واردني هجروا من دول الخليج. وبعدما اصبح محاصرا سياسيا واقتصاديا من كل الجهات التي كانت تدعمه سابقا.
اما الجانب الفلسطيني فقد جاءته الدعوة للمشاركة في مؤتمر السلام وهو يمر في اصعب واعقد الظروف. فانهيار الاتحاد السوفياتي افقده الدعم والاسناد الذي كان يتلقاه. وحرب الخليج انتهت بتهجير مئات الالوف من الفلسطينيين من دول الخليج، وتوقف كل اشكال الدعم الاقتصادي الذي كانت تتلقاه المنظمة من دول الخليج او الذي كان يتلقاه ابناء الضفة والقطاع من الجالية الفلسطينية هناك. ناهيك عن الحصار السياسي الذي ضرب حول عنق م.ت.ف وتوتر علاقاتها مع العديد من الدول العربية. وكل ذلك جاء مترافقا مع هجرة يهودية واسعة ونمو جنوني في حركة الاستيطان التي اخذت تأكل ما تبقى من الارض.
في ظل هذه الاوضاع حاولت م.ت.ف جاهدة تحسين اسس وشروط المشاركة الفلسطينية، بما يضمن وحدة الشعب في الداخل والخارج، ويوقف سرطان الاستيطان، وأن تحسن من صيغة التمثيل، وبما يضمن مستقبلا وصول الشعب الفلسطيني لممارسة حقه في تقرير المصير. وتوجهت لمن استطاعت الوصول له من العرب على امل الوصول الى موقف عربي موحد أو على مستوى الاطراف المعنية مباشرة بالصراع وان تصل معها الى اتفاق بعدم الاعلان عن الموافقة علىا لمشاركة في مؤتمر السلام الا بعد انتهاء المباحثات التمهيدية الفلسطينية-الامريكية. وسعت لأن يتبنى بعضهم موضوع القدس بعدما تبين انه سيؤجل للمرحلة الانتقالية، الا ان جهودها اصطدمت بالمصالح الخاصة لكل طرف من اطراف العربية. وبالتمزق والانقسام العربي وتآكل الفكر القومي. ووجدت م.ت.ف نفسها امام احد خيارين لا ثالث لهما. اما القبول بالمشاركة وفقا للصيغة والاسس المجحفة أو الرفض وتحمل تبعات ونتائج ذلك.
وبعد بحث معمق داخل وخارج المؤسسات التشريعية والتنفيذية الفلسطينية، اختارت (9) م.ت.ف المشاركة تجنبا لخسائر كبيرة مؤكدة، وأملا في تحقيق بعض المكاسب غير مؤكدة التحقيق. وعقدت العزم على النضال من داخل العملية مع التمسك بالثوابت وتحسين الموقف التفاوضي الفلسطيني بصورة تدريجية.
وبالتدقيق في ظروف انعقاد مؤتمر السلام، وفي انعدام الخيارات الاخرى امام الاطراف، يمكن القول ان ذات الظروف وذات الاوضاع بقيت تتحكم في مواقف القوى على امتداد الشهور العشرة الماضية من المفاوضات وهي ذاتها التي مثلت عامل ضغط على كل الاطراف للاستمرار في التفاوض، بالرغم من اصطدام المواقف وتعثرها وتحولها في فترة سابقة الى مفاوضات من أجل المفاوضات.
لقد حاول الجانب الفلسطيني اكثر من مرة التمرد على قواعد وأسس العملية وفكر في التعليق أو (قلب الطاولة) الا أن محاولاته وأفكاره تلك اصطدمت بانعدام البدائل والخيارات. وعاد للانضباط قابلا ببعض الانجازات الشكلية التي كانت تقدم لها كترضيات (كما سيتضح لاحقا عند الحديث عن مسار المفاوضات). ولم تتوقف محاولات التمرد على الجانب الفلسطيني وحده، فقد حاول شامير التمرد، وتصادم مع الراعي الامريكي حول الاستيطان، وهرب شامير نحو الناخب الاسرائيلي ونحو الكونغرس الامريكي والجالية اليهودية في الولايات المتحدة آملا في حماية تمرده وتدعيم مواقفه، فكانت النتيحجة خروجه وخروج حزبه من السلطة ومن العملية السياسية واستمرار المفاوضات. والان وبعد عشر شهور من المفاوضات يمكن القول أيضا أن عامل انعدام البدائل والخيارات قد تحول بفعل ميكانيزم العملية ذاتها، ليس فقط عاملا ضاغطا للاستمرار في المشاركة في المفاوضات، بل وايضا عامل يضغط باستمرار باتجاه تحقيق بعض التقدم والانجازات الملموسة حتى ولو كانت محدودة.
5) مراكمة قوة دفع ذاتية:
لا شك أن استمرار العملية وتواصل المفاوضات مدة عام تقريبا، قد مكنها من امتلاك خاصية مراكمة قوة دفع ذاتية لم تتمكن أي من المحاولات الامريكية او الدولية السابقة من مراكمتها. فكل المبادرات التي سبقت مبادرة بوش-بيكر لم تعمر سوى أسابيع قليلة وبعضها ايام معدودة، باستثناء مفاوضات كامب ديفيد التي تواصلت عدة سنوات بعد توجهها نحو الحل الثنائي المصري-الاسرائيلي. فقوة الدفع الاولية الخارجية التي دفعت قطار مؤتمر السلام نجحت في تشغيل محركات ومولدات طاقته الذاتية. وبتشغيلها توفر للعملية طاقة اضافية. ومع تواصل الحركة وغياب الجذب السلبي تنامت هذه الطاقة أكثر فأكثر. صحيح أنها لم تبلغ حتى الان مستوى الاعتماد على الذات، بحكم عدم توصل الاطراف حتى الان الى اتفاقات رسمية أولية، الا أنه من الخطأ تجاهل قيمة وفعل التحول الذي حصل في مواقف معظم الاطراف المشاركة في المفاوضات وأثر ذلك على المسار الراهن واللاحق للمفاوضات. وبتفحص عناصر ومقومات قوة الدفع التي روكمت حتى الان يمكن تثبيت العناصر التالية:
– وقوع تحول في مواقف الاطراف من العملية وتبدل في نظرتها لها. فسقوط شامير ونزوله من قطار السلام وصعود رابين وحزب العمل بدلا منه يجسد بعضا من هذا التبدل الهام. والذي يعني في حده الأدنى نزول راكب أساسي (مشاغب) كان يسعى لعرقلة وتعطيل المسيرة وصعود راكب جديد يتحدث عن ضرورة مواصلة المسيرة وضرورة تقدمها، وهو مضطر بالحد الأدنى لأن يوازن بين أقواله وسلوكه العملي. ومثل هذا التوازن يضمن عدم المشاغبة على الحركة. ويمكن أيضا رصد أن التبدل في المواقف والنظرة قد طال الجانب الفلسطيني والاردني والسوري ومعه اللبناني. فبدراسة المشاريع التي تقدم بها الجانب الفلسطيني يمكن تلمس تنامي شعور فلسطيني وخاصة عند القيمين على عملية المفاوضات بامكانية ليس فقط تجنب خسائر محققة بل وامكانية فعلية لتحقيق بعض الانجازات في الاهداف الاولية الهامة، والتي قد تساهم في تحسين أوضاع وظروف الشعب الفلسطيني داخل الارض المحتلة، والتقليل من معاناته المتنوعة بسبب الاحتلال، وتحسين ظروف وامكانات متابعة النضال لاحقا من أجل الاهداف الاساسية. ومثل هذا التبدل في الموقف والنظرة للمفاوضات يسهم ولا شك في اعطاء العملية قوة دفع ذاتية اضافية، فهو يبدل ويغير الموقف الفلسطيني من عنصر كان يتحرك بفعل الضغط الخارجي الى عنصر تتوفر فيه مقومات الاندفاع الذاتي نحو القيام بحركة نشطة وفاعلة تدفع بالمسيرة خطوات الى الامام.
– تجاوز حالة التردد والتحفظ التي طغت على الجولات الاولى من المفاوضات. وأظن ان دخول الاطراف في مناقشات القضايا الجوهرية كما يجري الان في الجولة السادسة من المفاوضات، وتقديم المشاريع والمشاريع المضادة يعطي أيضا ميكانيزم وآلية عمل تسهم في خلق قوة دفع ذاتية متنامية باستمرار. وكل ذلك يعزز ولا شك قوة الدفع الخارجية والتي ستبقى بمثابة العنصر الحاسم في حركة عملية السلام الجارية ما لم تتوصل الاطراف الى اتفاقات ملموسة ومقبولة. وقادرة على تحويل الرغبة في السلام الى حركة وفعل ذاتي قوي يخفف من الاعتماد على الدفع الخارجي.
ـ بعد هذا التلخيص لخصائص العملية السياسية الجارية منذ عام ولتظهير ميزاتها عن سواها من العمليات والمحاولات التي سبقتها، يمكن القول انها تكمل بعضها البعض، وتشكل مجتمعة سورا قويا ومرتفعا يصعب على الاطراف المشاركة في المفاوضات والمعنية بالتوصل الى تسويات اختراقه او القفز عنه والفرار منه الى خارج حلبة الصراع. واعتقد أن صمود هذا السور (الخصائص) سنة كانت الاعقد والاصعب، يمكننا القول أن عبور المفاوضات ذكراها الاولى بنجاح شق الطريق ومهدها لتحيا عامها الثاني كاملا. وهي بخصائصها وميزاتها تعفي مثل هذا التقدير من الاتهام بأنه درب من الخيال.
ج