مرحلة ما بعد عرفات الانتقالية خطيرة وشديدة التعقيد

بقلم ممدوح نوفل في 17/11/2004

يتفق الفلسطينيون خصوم وانصار ابوعمار على انه نجح في طبع مرحلة كاملة من التاريخ الفلسطيني بختم عرفاتي يصعب محوه. ولم يعد ممكنا الحديث في القضية الفلسطينية بمعزل عن سيرته الشخصية والنضالية، خصوصا دوره في قيادة الحركة الوطنية منذ عام 1964 وحتى رحيله يوم 11/11/2004 . وأظن ان وفاة أبو عمار ودفنه في “المقاطعة” تجسد نهاية مرحلة طويلة وبداية مرحلة جديدة يصعب تقدير مدتها. وإذا كان حركة التاريخ تشير إلى أن انتقال الشعوب من مرحلة نوعية إلى أخرى شبيهة يستوجب المرور في مرحلة انتقالية، فان مسيرة الشعب الفلسطيني لن تشذ عن هذه القاعدة.
والتمعن في ملامح المرحلة الانتقالية يشير إلى أنها تحمل في طياتها مخاطر كبيرة لا تقل عن تلك التي مرت بها القضية الوطنية والنظام السياسي الفلسطيني في آخر 4 سنوات من حياة عرفات. واي باحث موضوعي في وقائع المرحلة الماضية يجد نفسه امام حقائق كبيرة بعضها حلو يبعث في النفس نشوة وسعادة، وبعضها مر كالعلقم يبعث على الحزن والأسى. وفي هذا السياق لا احد ينكر أن عرفات عجل في بلورة الهوية الفلسطينية، ولعب دورا محوريا في تحويل مخيمات اللاجئين إلى بؤر للنضال، وساهم بقوة في تحوّيل ناسها من متسولين على أبواب وكالة الغوث إلى مناضلين يعتزون بكرامتهم الوطنية. ونجح ابو عمار في اعادة اسم فلسطين الى خريطة المنطقة الجيوسياسية. وكرس استقلالية الحركة الفلسطينية واستقلالية قرارها الوطني. وساهم في نفض الغبار عن القضية واقناع دول العالم بعدالتها، وبحق هذا الشعب في الحرية والاستقلال وبناء دولته المستقلة.
وعبر قيادته مسيرة النضال الوطني أربعون عام، بنى عرفات الوضع الفلسطيني السياسي والتنظيمي والعسكري والمالي بصيغة يصعب على اي انسان بعده التحكم به منفردا. وكرس نمطا من العلاقات العربية الفلسطينية يصعب نسف أسسها وجذورها. وراكم رصيدا نضاليا كبيرا لا يمكن لاي باحث تجاوزه. واحتفظ بشخصية مزدوجة؛ شخصية عرفات السياسي البراجماتي الواقعي المرن الذي يصيب ويخطأ، وشخصية ابو عمار المناضل الرمز. وكثيرا ما اصطدمت الشخصيتان، خصوصا لحظة اتخاذ القرارات الصعبة، واظن ان ابو عمار الرمز سوف يبقى حاضرا في الذهن الفلسطيني سنوات طويلة.
وأيا يكن رأي الآخرين في مواقف عرفات فقد مثل تيار الاعتدال في الساحة الفلسطينة، وتصدر قيادة هذا التيار في جميع المنعطفات والمحطات المفصلية الخطرة والحساسة. ونقل شعب فلسطين من التطرف إلى الواقعية، وأحدث تحولا في الرأي العام العربي أزاء الصراع مع أسرائيل والصهيونية العالمية. وأجاد فن المناورة والتكتيك، وحافظ بحنكته السياسية وثقله المعنوي والروحي على جملة من التوازنات داخل الساحة الفلسطينية وداخل فتح ذاتها وفي العلاقات الفلسطينية العربية والدولية.
وبصرف النظر عن النوايا والرغبات الذاتية، فلن يكون بمقدور خليفة عرفات ان يملأ الفراغ الذي أحدثه غيابه. وسوف يرث الخليفة حملا سياسيا وتنظيميا ونضاليا ثقيلا، بعضه يتعلق بتراث أبو عمار الرمز وموقعه المعنوي في الشارع الفلسطيني وفي صفوف حركة “فتح”. وبعضه الآخر خلقته الظروف والأسس التنظيمية والإدارية التي بنى عليها ياسر عرفات النظام السياسي الفلسطيني الرسمي.
وقراءة ملامح مرحلة ما بعد عرفات الانتقالية يبين انها مزيج بين القديم الراحل والجديد القادم. معقدة جدا
وشديدة الخطورة، وسوف تبقى فترة طويلة محكومة بمكونات المرحلة القديمة. تواجه فيها القيادة الجديدة عقبات خارجية وداخلية كبيرة. وقد تتحول إلى مرحلة دامية مؤلمة اذا تسرعت في معالجة الاشكالات الداخلية ولم تتلقى مساعدة داخلية وطنية وفتحاوية وعربية ودولية جدية:
أولى العقبات الخارجية تكمن في موقف شارون وقوى اليمين الاسرائيلي من عملية السلام ومن الاتفاقات التي انبثقت عنها. وأظن ان لا خلاف بين اطراف النظام السياسي الفلسطيني وقوى السلام في اسرائيل على ان معاداة شارون واركانه للسلام مع الفلسطينيين تنبع من قناعتهم الايدلوجية العنصرية وتوجهاتهم السياسية القائمة على التوسع والعدوان. ويخطأ من يعتقد أن اعمال القتل والتدمير والحصار والاعتقال التي مارسوها على امتداد السنوات الأخيرة كانت موقفا تكتيكا اعتمدوه في مواجه “زعيم الارهاب” عرفات، وان غياب هذا الشيطان الرجيم عن المسرح السياسي يعيدهم الى جادة الصواب ويوقف أعمالهم الفاشية. وأجزم ان الجنرال شارون يبحث عن ذريعة جديدة للاستمرار في ذات الموقف حتى نهاية ولايته عام 2006. ويحضر الان اوراقه وملفاتاه لاتهام القيادة الجديدة بالتقصير في محاربة الارهاب.
ويراهن شارون على انفجار صراعات داخلية سياسية ودموية، وانتشار الفوضى الامنية في القطاع وتمددها لاحقا للضفة. وبديهي القول ان شارون ليس حريصا على دمقرطة الوضع الفلسطيني ولن يتوانى عن تعطيل انتخاب رئيس السلطة الوطنية وتعطيل الانتخابات التشريعية والبلدية ايضا، وتأجيج نار الفتنة اذا استطاع. ويتمنى شارون قوع عملية انتحارية او اكثر في المدن الاسرائيلية، كي يتخذها ذريعة للمضي قدما في تنفيذ توجهاته احادية الجانب. وفرض حل انتقالي طويل الامد، واستكمال بناء جدار الفصل العنصري وتحويل اسرائيل الى غيتو كبير.
ويفضل شارون عدم العودة الى طاولة المفاوضات خلال بقية عهده، وتنفيذ خطة اخلاء مستوطنات قطاع غزة واربعة في شمال الضفة واعادة انتشار الجيش دون تنسيق مع الجانب الفلسطيني. خاصة انه يعرف ان المفاوضات والتنسيق مع الجانب الفلسطيني يفرضان عليه اولا اجراء تعديلات في خطته تتعلق بالحدود والمعابر والمطار والميناء، وثانيا الاجابة على سؤال ماذا بعد غزة ؟ ويأمل شارون ان ينجح في اقناع صديقه بوش بان دمقرطة الوضع الفلسطيني عملية مستحيلة قبل القضاء على الارهاب، ولا جدوى من الانتظار والعودة الى التنسيق مع قيادة فلسطينية عاجزة عن محاربته. مثلما نجح في اقناعه بتجميد المفاوضات في عهد عرفات، واستبدل خريطة الطريق التي طرحتها اللجنة الرباعية الدولية بخطته المزعومة حول الانسحاب من قطاع غزة. وانتزع موافقة بوش على تنفيذها بشكل احادي الجانب.
والعقبة الخارجية الثانية التي تواجه القيادة الفلسطينية الجديدة تتمثل في مواقف بوش واركانه تشيني ورامسفيلد وغونداليزا رايس الداعمة دون تحفظ لسياسة شارون وتوجهات القوى الاسرائيلية المتطرفة. وبغض النظر عن النوايا فان رسائل الضمانات التي قدمها الرئيس بوش لشارون في أيار الماضي حددت سلفا توجهات الادارة الامريكية للسنوات الاربع القادمة ورسمت صورة الحل الامريكي لقضايا الحل النهائي القدس واللاجئين والارض والاستيطان. ووقائع المؤتمر الصحفي الذي عقده بوش مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في البيت الأبيض يوم 12/11/2004 يؤكد هذا الاستخلاص.
واظن ان استقالة الوزير باول وتعين كونداليزا رايس في وزارة الخارجية يؤشر على أن بوش قرر تعزيز

الخط اليميني المتشدد في ادارته، وهذا الخط، الذي يقوده نائب الرئيس ديك تشيني، لا يخفي مساندته لسياسة شارون ويحرص على تلبية رغباته في كل المجالات.
لقد حاول بلير اقناع بوش بوضع آلية عملية لتحريك عملية السلام على المسار الفلسطيني الاسرائيلي واقترح عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الاوسط، لكن الرئيس بوش رفض الاقتراح وتمسك باللجنة الرباعية الدولية، حيث يسهل عليه التحكم في اعمالها. واحبط بوش جهود صديقه بلير لصالح رغبة حليفه شارون وحصر الحركة من اجل السلام على المسار الفلسطيني الاسرائيلي في اطار هذه اللجنة التي فشلت في الزام شارون بتنفيذ خريطة الطريق التي رسمتها.
ولم يكتفي بوش بذلك، وحمّل في مؤتمره الصحفي مع بلير الجانب الفلسطينيين مقدما مسئولية فشل التحركات الجديدة وقال: “لن يتحقق السلام قبل إنشاء مجتمع فلسطيني ديمقراطي…وحين ينتخب رئيس فلسطيني جديد يتعهد بمحاربة الإرهاب وبإجراء إصلاحات ديمقراطية فسنحرك العالم لكي يساعد الاقتصاد الفلسطيني وبناء مؤسسات ديمقراطية”.وأضاف: “سنعمل من أجل استكمال خطة “فك الارتباط”. ” ونطمح إلى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، لكن ذلك لا يتحقق إلا عبر الديمقراطية وسيادة القانون”.
إلى ذلك، اعتقد ان هوس اركان الادارة الامريكية بالأمن بعد هجمات 11 سبتمبر في واشنطن ونيويورك وحربهم الشاملة المعلنة ضد الإرهاب، وتورطهم في مستنقعات العراق ورماله الطائفية والعرقية المتحركة وتصميمهم على القضاء على البعبع الجديد أبو مصعب الزرقاوي. واصرارهم على متابعة استراتيجية توجيه الضربات الاستباقية لأعداء أمريكأ، ونشر الديمقراطية بالقوة في الشرق الاوسط..الخ سوف يؤدي الى نشوب مزيد من الحرائق في المنطقة ابان ولاية بوش الثانية. ويزيد في تفاعل بوش واركانه مع رغبات اللوبي الصهيوني الامريكي ورغبات شارون في اخراج سوريا من لبنان، والتخلص من الخطر النوي الايراني، وتدمير “حزب الله” امتداد ايران في لبنان، الذي أعلن انه يمتلك طائرات من دون طيار قادرة على ضرب عمق اسرائيل..وشخصيا لم استوعب الحكمة الكامنة وراء الاعلان وكشف هذا السر؟
ويخطأ من يعتقد ان بوش تحرر بعد الانتخابات من الحاجة إلى مسايرة اليهود لكسب أصواتهم، وسوف يسعى في ولايته الثانية الى كسب ود العرب بأمل مساعدته في الخروج من المستنقع العراقي. وسيخيب ظن كل من يأمل بأن تؤدي وفاة ياسر عرفات إلى وقف دعم الرئيس الأمريكي لشارون. والتمعن في مدلولات وابعاد تراجع الرئيس بوش عن رؤيته حول قيام دولة فلسطينية في العام 2005 وتمديد الفترة الى نهاية ولايته في العام 2008، يؤكد ان اولويات بوش في ولايته الثانية ازاء النزاع لم تتغير.
وبجانب هاتان العقبتان الخارجيتان الكبيرتان سوف تواجه القيادة الجديدة عقبات داخلية متنوعة، أصعبها أزمة حركة فتح وضعف اجهزة السلطة الامنية وضعف قوى السلام الفلسطينية واصرار حركة حماس وباقي قوى الرفض وكتائب شهداء الاقصى التابعة لفتح على مواصلة العمل العسكري والتسابق في عسكرة الانتفاضة. واظن ان دعوة القيادة الرسمية لهذه القوى لقبول هدنة جديدة، لن تجد أذنا صاغية، خاصة إذا جاءت الدعوة قبل ان يلمس الفلسطينيون مواقف أمريكية جدية في مواجهة سياسة شارون، ويشاهدوا على الارض خطوات اسرائيلية عملية تخفف من معاناة الشعب الفلسطيني. وإذا كان أبو عمار رفض حل الخلاف مع هذه القوى بالقوة وتحاشى التصادم معها فان دفع القيادة الجديدة الى معالجة الامر بالقوة تحت شعار تأكيد الرغبة في محاربة الاهاب، يعني تدمير هذه القيادة ودفعها الى الانتحار.
لا شك في ان وصول أبو مازن خليفة عرفات في قيادة م ت ف او اي شخص آخر إلى رئاسة السلطة عبر الانتخاب المباشر يمنح القائد الجديد الشرعية الضرورية للانطلاق في المهمة ويزوده بقوة معنوية كبيرة لمواجهة العقبات الداخلية والخارجية، لكن الصحيح أيضا ان الشرعية التاريخية ومعها الشرعية الدستورية والشعبية لا تكفيان لعبور مرحلة ما بعد عرفات الانتقالية بسلام وامان. ولا مبالغة في القول ان نجاحها مرهون بما يقدمه لها بوش في الشهرين القادمين. ومصيرها الفشل والسقوط إذا سمح بوش والاتحاد الاوروبي والعرب لشارون واركانه مواصلة التحكم في عملية السلام والتلاعب بمصير شعب فلسطين وسرقة ارضه.