عسكرة الإنتفاضة زاد في الخسائر وسهل على شارون بناء الجدار

بقلم ممدوح نوفل في 27/09/2004

اواخر شهر ايلول/ سبتمبر 2004 أكملت “الانتفاضة” عامها الرابع. وتبقى ذكرى انطلاقتها مناسبة لمراجعة المواقف واستخلاص العبر والدروس المستفادة. وتفحص مسيرة “انتفاضة الأقصى”، كما سماها البعض أو “انتفاضة القدس والاستقلال” كما سماها آخرون، يبين انها حملت في ثناياها خصائص ميّزتها عن الأحداث الكبرى الأخرى التي شهدها كل من عاش سنين النزاع الفلسطيني الاسرائيلي الطويلة، بما في ذلك انتفاضة1987 التي دامت بضع سنين. وأبرز ميزات هذه الانتفاضة، هو أولا، اقتران الفعاليات والتحركات الشعبية بأعمال عسكرية كثيفة، وارتفاع وتيرة الخسائر البشرية والاقتصادية بين الطرفين وطغيان العمليات “الانتحارية” او الاستشهادية، على ما عداها من فعاليات واشتراك المرأة فيها. وثانيا، مشاركة النظام السياسي الرسمي في الانتفاضة بقوة عبر حزبه الرئيسي حركة “فتح” وكادرها العسكري، ومشاركة أجهزة السلطة الأمنية والمدنية فيها.

لا مجال في هذا المقال للبحث في أسباب طغيان تبجيل وتمجيد الذات الحزبية في الفكر السياسي الفلسطيني، ولا ضرورة أيضا في هذه الفترة بالذات لتركيز البحث في انجازات الانتفاضة الكبيرة والصغيرة. وأعتقد ان أكبر خدمة تقدم للانتفاضة على عتبات العام الخامس هي تسليط الاضواء على سبل تعزيز صمود الناس وتقليص خسائرهم. وثانيا، استعادة زخم التحركات الشعبية في الانتفاضة ومعالجة مشاكلها وثغراتها وتخليصها من الظواهر المرضية التي أثرت في مسيرتها وتؤثر في مستقبلها. وثالثا، تفهم ابعاد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2000 على النزاع الفلسطيني الاسرائيلي، وانعكاس الحرب العالمية المعلنة ضد “الارهاب” على اشكال النضال في الانتفاضة.

في بداية الانتفاضة أكدت القوى الوطنية والاسلامية أهمية الحفاظ على طابع الانتفاضة السلمي، وبقاء الحجر والتحركات الشعبية المتنوعة بمثابة السلاح الأساسي في مواجهة قوات الاحتلال. وتركيز الجهود ضد الحواجز والمواقع العسكرية على مداخل المدن والقرى والمخيمات وضد المستوطنين وتحركاتهم في الضفة والقطاع…الخ لكن هذه العقيدة السليمة لم تعمر طويلا، ونجحت المؤسسة الامنية الاسرائيلية في استدراج القوى الوطنية والاسلامية الى ملعب العمل العسكري حيث تتفوق، وتتقن فنون العمل فيه، ومنه تستطيع رفع كلفة الانتفاضة وزيادة الخسائر البشرية الفلسطينية، دون ردات قوية فعل في صفوف الرأي العام الدولي ومن قوى السلام في اسرائيل.

وبدخول الفلسطينيين هذا الميدان “تعسكرت الانتفاضة” ولعبت السلطة وحزبها السياسي “حركة فتح” وذراعها العسكري “كتائب شهداء الاقصى” دورا رئيسيا في إدخال “اللباس العسكري” في صورة الانتفاضة، ولم تقصر حركتي حماس والجهاد الاسلامي والجبهة الشعبية في تكريس صورة دموية. وارتبطت ميزة “العسكرة” بتراجع المشاركة الشعبية في فعاليات الانتفاضة وفقدت صفة الحركة السلمية سلاحها “حجر” نظيف. وحلت العمليات الانتحارية مكان المظاهرات والاعتصامات الجماهيرية والمقاطعة الاقتصادية..الخ وتحول الناس في الضفة والقطاع من جمهور يحرك الانتفاضة ويتفاعل مع نداءات قيادتها، الى قطاع من المراقبين المتفرجين اليقظين، ينتظرون سماع الخبر المثير وظهور البطل في عملية عسكرية ضد الجيش الاسرائيلي او تنفيذ عملية انتحارية في مطعم او باص او ملهى في شوارع المدن الاسرائيلية..وصارت الانتفاضة وفعالياتها بعد العام الاول شيئا آخر مختلف تماما عن الانتفاضة الأولى وابتعدت عن توجهاتها ومنطلقاتها الاساسية، وتحولت إلى مواجهات حربية كلاسيكية بين قوتين ميزان القوى مختل بشكل فاحش لصالح الطرف الاسرائيلي.

ومنذ ذلك التاريخ، وبعد طغيان صوت الرصاص والمتفجرات على صوت الحناجر والطناجر..لم يعد بمقدور “قيادة الانتفاضة” إقناع الناس في الضفة والقطاع، ناهيك عن الاشقاء العرب والأصدقاء في العالم بان الانتفاضة حركة شعبية سلمية ومستقلة عن السلطة. وظهر أنصار العمليات وكأنهم يستهدفون جهود العالم من اجل السلام في المنطقة، وإضعاف مصداقية القيادة الفلسطينية وإظهار عجزها، أكثر من إستهداف مصالح إسرائيل. ويسعون إلى استدراج ضربات عسكرية إسرائيلية مدمرة لمؤسسات السلطة وقيادتها ومراكز أجهزتها والبنية التحتية التي بنيت بشق الأنفس.

وأيا تكن النوايا فالعمليات “الانتحارية” التي سقط فيها مدنيون اسرائيليون واجانب ألحقت أضرارا فادحة بالمصالح الفلسطينية العليا في جميع الحقول والميادين. وسهلت على إدارة بوش وبعض الدول الأوروبية، تحميل الفلسطينيين مسئولية تخريب عملية السلام وتعريض استقرار الشرق الأوسط للخطر، ومكنتها من مساواة المجرم بالضحية.

ومع اتساع نطاق “العسكرة” تصاعد استخدام السلاح من جانب إسرائيل وبلغ ذروته باستخدام الطائرات والدبابات في قصف المواقع الفلسطينية المدنية والقيادية، وصار اجتياح القوات الاسرائيلية المدن والقرى والمخيمات وقتل خمسة الى سبعة رجال وشيوخ ونساء واطفال فلسطينيين ونسف نفس العدد من المنازل عادة يومية يتقبلها العالم ببساطة. وارتفعت خسائر الفلسطينيين البشرية والاقتصادية بصورة مذهلة. قابله تطور في “العسكرة” وانتقلت إلى مرحلة استخدام مدافع الهاون و”صواريخ القسام”. وقصفت بلدة سيدروت بصواريخ فاق عددها جميع ما قصفت به كل المستوطنات.. وزادت نسبة الإسرائيليين المطالبين بحل النزاع المتعلق بالأرض والحدود والمستوطنات على قاعدة التعجيل بالفصل من جانب واحد بين الشعبين. وأجاد شارون استغلال هذا التطور في موقف الشارع الاسرائيلي، وانشغال الادارة الامريكية في العراق وفي الحرب ضد الارهاب، وأسرع في مصادرة مزيد من الأراضي وبناء الجدار. صحيح ان نهب الارض ومحاولة فرض الامر الواقع فيما يتعلق بالحدود والاستيطان توجهات ليكودية قديمة، لكن لا أحد يستطيع اعفاء أنصار عسكرة الانتفاضة والعمليات الانتحارية من مسئولية تسهيل طريق شارون لانجاز هذه المهام الاستراتيجية.

لا جدال في ان العمل العسكري الفلسطيني وضمنه العمليات الانتحارية رفع نسبة الخسائر الاسرائيلية وأثبت فشل شارون والمؤسسة الأمنية في توفير الأمن للإسرائيليين، لكن الصحيح أيضا أنها وضعت الشعب الفلسطيني أمام خطر خسارة انجازات هامة حققها في السنوات القليلة الماضية، وخطر وصم نضاله العادل والمشروع ضد الاحتلال بالإرهاب. وعندما تصبح حركتي حماس والجهاد الإسلامي وقوى فلسطينية أخرى في دائرة القوى الإرهابية المستهدفة أمريكيا وأوروبيا وغدا من أطراف في النظام الرسمي العربي..فان ذلك يشكل في الظروف الراهنة المعقدة مأزقا ليس فقط لهذه القوى بل وأيضا للقيادة الشرعية الفلسطينية والشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه.

وفي هذا السياق لعل يفيد تنبيه قيادة حماس، وجميع أنصار العمل العسكري، مبكرا إلى أن أحد أهداف اغتيال أجهزة الامن الاسرائيلية المناضل المبعد عز الدين الشيخ خليل أحد كوادر حماس في مدينة دمشق، هو أستدراج قيادة حماس إلى ملعب العمليات العسكرية الخارجية، بجانب الأهداف الاخرى المتعلقة بالصراع السوري الاسرائيلي، حيث تتفوق امكانات وطاقات اسرائيل الاستخبارية والعملية على حماس وسوريا ومعهما نصف الدول العربية ان لم يكن كلها مجتمعة. لقد جربت المقاومة الفلسطينية العمل العسكري في “المجال الخارجي” وكانت الحرب الباردة في اوجها، ونجحت الجبهة الشعبية بامتياز في سبعينات القرن الماضي في تنفيذ عمليات نوعية ضد اهداف اسرائيلية وامريكية واوروبية واستعانت المرحوم وديع حداد بمناضلين أممين..الخ لكن قيادة الجبهة الشعبية راجعت موقفها واعترفت بان العمليات العسكرية الخارجية ألحقت اضرارا بالقضية وبالمصالح الوطنية العليا للشعب وبالجبهة الشعبية ذاتها وبعلاقاتها الاقليمية والدولية. وتراجعت عن هذا النمط من العمليات، وقررت اعتبار ارض الوطن ميدان العمل الوحيد. وأظن ان لا داعي لتكرار تجربة، والكل يعرف سلفا أن نتيجتها خسارة وطنية فلسطينية وخسارة حمساوية” صافية.

لا شك في ان تباين مواقف القوى الوطنية والاسلامية ورؤاها الفكرية والسياسية والتنظيمية مسألة طبيعية وظاهرة صحية تماما. وبديهي القول ان الحوار والنقاش الداخلي مهما تعمق وطال لن يحقق إجماع وطني حول الموقف عسكرة الانتفاضة والعمليات الانتحارية. ولكن، إذا كان الإجماع حول هذه القضايا مستحيلا، ناهيك عن كونه ليس مطلوبا، فالمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تفرض، في هذا المرحلة الخطرة، توصل هذه القوى بالحد الأدنى” إلى تفاهم إستراتيجي، أو “مرحلي مشترك”.حول أهداف النضال المرحلية وأشكال النضال المحرمة والمباحة، وبديهي القول إن الالتزام بما يتم الاتفاق عليه لا يقل أهمية عن التفاهم ذاته.

وأجزم ان لا خلاف بين القوى الوطنية والقوى الاسلامية أو بين السلطة والمعارضة حول عدالة الموقف الفلسطيني أو شرعية مقاومة الاحتلال، وأن الانتفاضة ظلت بايجابياتها وسلبياتها في نظر الشعوب العربية، وشعوب أخرى عانت من الاستعمار، حركة مقاومة مشروعة لناس لم يعودوا قادرين بعد اكثر من ثلث قرن على تحمل ممارسات الاستعمار الاسرائيلي فترة أطول. لكن الخلاف الجوهري مع أنصار “الانتفاضة المسلحة” وأنصار “العمليات الانتحارية” يكمن في تقدير الممكن تحقيقه من الأهداف الوطنية في كل مرحلة، خاصة في مرحلة التراجع التي تمر بها الأمة والادق في فترة تدهور وانحطاط النظام الرسمي العربي. وأيضا حول الوسائل والأساليب الأنجع لتحقيق الاهداف الوطنية في مرحلة الحرب على الارهاب.

وبصرف النظر عن ممارسات شارون العنصرية، ليس من حق أحد تحويل النضال الفلسطيني المشروع في نظر العالم إلى إرهاب. وهناك دائما أمام الفلسطينيين وسائل نضال فعّالة ومجدية، وأخرى فعالة لكنها ضارة وقد تتسبب في إلحاق الهزيمة بالأهداف وبالمناضلين من أجلها، وهذه يجب تفاديها حتى لو كانت عادلة ومشروعة. وهناك نوع ثالث يحرمه القانون والمبادئ الأخلاقية وهذا أيضا يجب تفاديه كليا. وليس من حق أحد ان يفرض موقفه ويورط الأغلبية في ما يجب تفاديه، حتى إذا كان الاحتلال لا يتورع (وهو كذلك) عن ارتكاب أبشع انواع والإرهاب. وآمل ان تكون ذكرى انطلاقة الانتفاضة مناسبة لتكريس تقليد تقييم ومراجعة التجربة وتسليط الاضواء بصورة صريحة على الاخطاء والنواقص.