ممدوح نوفل

بقلم خير الله خير الله في 25/07/2006

لم يكن ممدوح نوفل، الذي غاب قبل أيام إثر مرض عضال لم يمهله طويلاً، مجرّد قائد عسكري فلسطيني شريف خاض معارك الثورة الفلسطينية كلها، التي أوصلت إلى استعادة بعض الأرض. فقد كان ممدوح قائداً عسكرياً أيضاً عرف كيف ينتقل إلى السياسة، وأن يتحوّل لاعباً في هذا الميدان الصعب، الذي عجز معظم القياديين الفلسطينيين عن ولوجه. قلّة فقط من القياديين عرفت معنى العمل السياسي وكيف يكون العمل السياسي وكيف يمكن توظيف الامكانيات الفلسطينية وجعلها في خدمة القضية.

امتلك ممدوح، الذي ولد في قلقيلية في العام 1944، ما يكفي من الشجاعة والنضج السياسي كي يتطور باستمرار بعيداً عن أي نوع من الانتهازية في وسط لا يعرف، معظم الذين يتحرّكون فيه، غير الانتهازية. بدأ حياته النضالية باكراً في حركة القوميين العرب التي خرجت “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” من رحمها. وعندما حصل انشقاق داخل “الجبهة الشعبية” ولدت منه “الجبهة الديمقراطية”، التحق ممدوح عن طيبة قلب بالمنشقين، كان على رأسهم السيّد نايف حواتمة الأمين العام لـ”الديمقراطية”.

صعد نجم ممدوح نوفل داخل “الجبهة الديمقراطية” وصار القائد العسكري لقوات الجبهة، التي كانت تؤمن بالماركسية- اللينينية، وعضواً في مكتبها السياسي الذي يعتبر الهيئة القيادية الأعلى في هذا التنظيم الفلسطيني. وقد شاءت “الديمقراطية” منذ تأسيسها اقامة علاقات وثيقة مع الاتحاد السوفيتي، في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، لعلّ ذلك يؤمّن لها دوراً ما، علماً بأن عين موسكو كانت دائماً على “فتح”؛ لأنها التنظيم الذي يشكّل العمود الفقري للثورة الفلسطينية.

خاض ممدوح نوفل مغامرات الثورة الفلسطينية في الأردن ولبنان ولعب دوراً رئيسياً في التخطيط لعمليات فلسطينية كبيرة بينها واحدة نُفّذت انطلاقاً من جنوب لبنان في 15 أيار 1974 قتل فيها عشرات الطلاّب الاسرائيليين في مستعمرة معلوت (ترشيحا) القريبة من الحدود اللبنانية. قُتل الطلاب بعد رفض السلطات الاسرائيلية التفاوض واطلاق سراح عدد من الأسرى الفلسطينيين. ومنذ ذلك التاريخ، صار اسم ممدوح نوفل على لائحة الاغتيالات الإسرائيلية. لكنّ ذلك لم يمنعه من التطور في ضوء التجربة التي مر فيها الفلسطينيون في لبنان.

بدأ فكر القائد العسكري لـ”الجبهة الديموقراطية” يسير في اتجاه مختلف، مع اكتشافه لأهمية ياسر عرفات والقرار الفلسطيني المستقل، الذي كان الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني يتمسّك به الى أبعد حدود. ولم تمض سنوات قليلة على الخروج الفلسطيني المسلّح من لبنان صيف العام 1982 حتى التحق ممدوح نوفل بعرفات في تونس، صار عرفاتياً خالصاً ومخلصاً من دون أن ينضم إلى “فتح”.

تغيّر ممدوح كلّياً، ابتداء من منتصف الثمانينيات، ولم تعد لديه أية أوهام في شأن العمل العسكري والعمليات الخارجية. ومنذ العام 1988 صار من المطالبين باستثمار نتائج انتفاضة أطفال الحجارة من أجل تحقيق حلم الدولة الفلسطينية المستقلة. وفي هذا السياق، لعب دوراً في الاعداد لاتفاق أوسلو، وكان بين مجموعة صغيرة على علم بالمفاوضات السرّية الدائرة في ضواحي العاصمة النرويجية.

أهمّية ممدوح كانت تكمن في تلك القدرة على التطوّر والانفتاح من دون عقد على العالم المتحضّر، وسمحت له هذه القدرة بالانتقال من وضع القائد العسكري الذي حُمّل مسؤولية عملية معلوت (ترشيحا)، إلى عضو في فريق متابعة مفاوضات أوسلو، إلى عائد لأرض فلسطين أخيراً بفضل أوسلو، ثمّ إلى سياسي ناضج يستوعب أنّ لا حلّ في فلسطين إلاّ عبر المفاوضات.

كان ممدوح نوفل قبل أن يشتدّ عليه المرض في الأشهر الأخيرة إلى جانب محمود عبّاس، رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، وكان يدرك نقاط القوة والضعف في شخصية “أبومازن” مثلما كان يعرف شخصية “ابوعمّار” بشكل عميق جعله يبدي باستمرار مخاوفه من النتائج التي ستترتّب على غياب الرجل الذي أراد أن يختصر كلّ المؤسسات الفلسطينية في شخصه.

في السنوات الأخيرة، خصوصاً تلك التي تلت توقيع أوسلو، عمل ممدوح، مع آخرين، على تطوير مؤسسات السلطة الوطنية، بما في ذلك الشرطة الفلسطينية، وانصرف الى الكتابة ووضع كتباً عدّة.

سألته مرة ما الذي مكّنه من الانتقال من ضفة الى أخرى، أي من عملية معلوت (ترشيحا) الى المشاركة غير المباشرة في أوسلو؟ أجاب أن ما سهّل عليه ذلك استيعابه للأخطاء التي ارتكبتها الثورة في الأردن ولبنان. كانت أخطاء في حقّ الأردنيين واللبنانيين لم تؤد الى التقدم ولو خطوة باتجاه فلسطين. قال لي: هناك من يريد أن يتعلّم من هذه الأخطاء، وهناك من يرفض ذلك.

كان يعرف معنى التوقف عن بيع الأوهام للفلسطينيين والخطر الناجم عن اطلاق الشعارات مستحيلة التحقيق.