ممدوح… محطات للقائد والإنسان

بقلم جمال زقوت في 25/07/2006

في ربيع العام 82 حيث كان في زيارة لبلغاريا مع الشهيد أبو جهاد وسعد صايل وآخرين من أعضاء المجلس العسكري الأعلى للثورة الفلسطينية تحدث الرفيق والقائد بنظرته الثاقبة عن اجتياح محتمل للبنان وأصر بعناد أن قوات الثورة والحركة الوطنية اللبنانية قادرة على التعامل معه وأوصى الجميع بالبقاء على مقاعد الدراسة والحرص على التخرج سيما أبناء الأرض المحتلة، حيث المعركة الفاصلة لتقرير المصير والدولة.

وفي صيف العام 88 وفي خيمة الصليب الأحمر في البقاع اللبناني أتى ليستمع لأخبار وتطورات وخطط وبرامج الانتفاضة الأولى، حيث النقاش المحتدم لبلورة حاضنة سياسية لها، ورغم ما سبق الانتفاضة من معارك فاصلة (حرب المخيمات ومعركة مغدوشة) التي كان من أبرز قادتها دفاعاً عن القرار الوطني المستقل والتي أرخ لها ممدوح لاحقاً…. إلا انه وبخلاف معظم من التقيناهم لم يتحدث عن دوره الشخصي بل كان يسأل ويسأل، ويصغي لكل تفاصيل الإبداع الكفاحي لشعب الانتفاضة والتحولات الديمقراطية في تجربة الكفاح الشعبي ودروسها العميقة ودور قيادتها الموحدة… وكان هاجسه كيف يمكن تسليح هذه الانتفاضة بمبادرة سياسية توصلها إلى أهدافها، وكانت الانتفاضة قد ساعدت في فك بعض حصار مخيمات بيروت والشمال، في تلك اللحظة أدرك أن مركز الثقل في النضال الوطني، حيث الانتفاضة تتحول إلى مركز للقرار، فانتقل للمشاركة في اللجنة العليا للانتفاضة برئاسة الرئيس عرفات والتي بات إسنادها لممدوح بالنسبة له الخبز والهواء والأمل بالحياة والحرية….

وفي خريف العام نفسه التقيته في صوفيا عائداً من موسكو ضمن وفد برئاسة الأخ أبو مازن لبلورة موقف دولي داعم لمبادرة سياسية تشكل حاضنة ورئة للانتفاضة…. فكانت دورة إعلان وثيقة الاستقلال ومبادرة هجوم السلام الفلسطيني في تشرين الثاني العام 1988.
لم تقيده جغرافيا السياسة… يتقدم بجرأة أكبر من عاصمة لأخرى كمن يقتحم مستوطنة عندما كان يمتشق بندقية المقاومة المسلحة.

بعد معركة اجتياح الليطاني آذار 78، أكثر ما علق في ذاكرة والدة شهيد الدفاع عن الثورة والجنوب بشير زقوت هي كلمات المواساة والمحبة والتواضع الذي رددها لها الإنسان والقائد أبو مضر، والتي ظلت تتذكرها وترددها حتى وفاتها وظلت روحها ومحياها ذكرى خففت من آلامنا كلمات أبو مضر واتصالاته اليومية طوال أيام العزاء وهو يسرد بطيبته وإنسانيته معنى فقدان الأم التي كان قد عاشها…

لا يمكن وصف مشاعر ممدوح وتهديدات جنرالات الاحتلال تلاحقنا جميعاً يوم عودته الأولى لغزة برفقة الرئيس الراحل أبو عمار، وإصرارهم على مغادرته أو إغلاق المعبر ومحاصرة غزة وضربها…خيارات صعبة لا يمكن أن يشعر بها إلا من شاهد دموع الرئيس عرفات وهو غير قادر أن يطلب من ممدوح المغادرة …ومشاعر الفدائي والقائد والإنسان عندما يخير بين البقاء في الوطن أو ثمن ذلك تدميره….

وفي عودته الثانية أيضاً لغزة … أذكر مقالة شارون الشهيرة ضد اتفاقات اوسلو وما تلاها والتي أضاءت الضوء الأحمر أن “نوفل معالوت قد يسكن على بعد أمتار من كفار سابا..!!” دون أن يدرك جنرال الموت أن ممدوح المقاتل من أجل الحرية والاستقلال والفخور بقتاله ضد المحتلين، أدرك أن فرصة الاستقلال بالسلام ودون قتل أصبحت في متناول اليد، وأن عقلية المحتل لا بد وأن تدرك ذلك….
اجتماعات ومقالات ورسائل ومشاورات، حذر فيها ممدوح من الوقوع في فخ باراك وشارون، ولكن يبدو أن انحدار الفخ كان أسرع من قدرة التقاط تحذيراته.
اختلف مع الكثيرين وظل صادقاً مع نفسه وفياً لحسه وتقديراته، ومتصالحاً مع نفسه، ويتألم للقادم لإدراكه مخاطره… صنع تاريخاً وظل نخيلاً باسقاً بكرامته، معجوناً بطين أرض قلقيلية الخصبة بتواضعه وتفانيه.

في صيف 2005 وفي ندوة دولية بأثينا لم يتمالك أعصابه في وجه دبلوماسي عربي سابق حاول أن يبدو كمن يعلمنا دروساً في الوطنية عندما كان النقاش محتدماً حول دلالات وأبعاد خطوة فك الارتباط في غزة والذي رآها ممدوح فخاً آخر ينصبه شارون لنا….

اليوم يرحل عنا ممدوح ونحن في أشد الحاجة لرؤيته وشجاعته وقوة دفاعه عن رأيه…. رحل ممدوح الراية التي لا تنكس في زمن محاولات كم الأفواه.. بل والإرهاب الفكري وكأنه لا يكفينا إرهاب وقتل وجرائم الاحتلال.

رحل باكراً وكأنه يستعجل لقاء من أحبهم ومن سبقوه لعله يستنجد بهم لحماية ما تبقى من المشروع الوطني وحلمه بالانتصار في معركة المصير لتقرير المصير. سلام لك يا أبا مضر والحرية والسلام لشعبك الذي عشت وقاتلت وناضلت وكتبت..من أجلك يا أم مضر وأنت يا مضر كل المحبة والوفاء والعزاء. وستظل ذكرى ممدوح عطرة وغنية في ذاكرتنا والأجيال من بعدنا ونبراساً يدلنا على الطريق