ما يشبه وداعاً للمقاتل

بقلم غسان زقطان في 24/07/2006

أمس، شيعت رام الله “ممدوح نوفل”، مجندون فتيان وقفوا على المفارق المؤدية الى المقاطعة حيث اقيمت مراسم عسكرية هادئة للجثمان القادم عبر الجسر، كان يمكن، ايضاً سماع هدير الطائرات الحربية التي تنطلق نحو الشمال ليتحول الامر كله بعد دقائق الى “خبر عاجل” على شاشات الفضائيات عن تدمير جسر او بيت او غرفة او برج كهرباء في لبنان!.. فيما يشبه مشهداً قديماً يتكرر منذ الازل.

في صيف 1982، تحديداً في مثل هذه الايام، كان ممدوح نوفل يتجول بجسده المكتمل في مناطق التماس، محاطاً بمجموعة مختارة من المقاتلين الذين احتفظ بهم للحظة الاخيرة، كانت الحرب هي المشهد الوحيد في ذلك الصيف، وكان حصار بيروت قد اكتمل تماماً، وبدا ان مجزرة هائلة تتقدم من الجبال والبحر ونقاط التماس وبواباته، وكانت قذائف الطائرات وهديرها يحرثان الجزء المحاصر من المدينة، حيث كنا نتنفس ونواصل المشي في شوارع تضيق وتتضاءل وتنسحب من تحت اقدامنا مثل حصائر قش منسولة:
لا يمكن تذكر بيروت في ذلك الصيف دون ان نجد مكاناً ملائماً لـ”ممدوح نوفل”، الحيوية الاستثنائية واليد التي تصل الى كتفك مثل نهاية سعيدة، الغبار الذي ستتركه مغادرة القائد متبوعاً بمجموعته المختارة، الابتعاد عن مناطق الاستعراض وتأليف غرف العمليات وارتجال الحركة السليمة في اللحظة القاتلة،.. لم نكن قريبين تماماً، ولكنني كنت اراقبه من مقعدي البعيد، قليلاً، عن الحرب، بينما كان هو ابن هذه الحروب الشرعي، وكان يتصرف بقوة تلك البنوة الغريبة وشرعيتها!
كان مروره الخاطف في الليل المتأخر اشارة ضرورية الى أننا احياء، وأن الامور بخير، وبينما كان وقع قدميه متبوعاً بمجموعته المختارة تلك، وهو يغادر في العتمة كان الامر برمته – نحن وهو ومقاتلوه السبعة- اشبه بثغرة في سياج تلك الحرب واطواقها المتلاحقة!

فيما بعد، سألتقيه في “حرب الجبل” وهي حرب منسية تماماً حدثت في خريف 1983، وكانت ارتال المقاتلين تندفع نحو بحمدون وعاليه، وتنحدر في طريق ترابية نحو بيصور للاحاطة بـ”سوق الغرب”.. وكانت دبابات الاحتلال تتراجع نحو الساحل.
فجأة، ظهر من العتمة على الطريق الى “بحمدون”، وكان يقف هناك وحيداً على طرف الطريق، وكان من الصعب تفسير ذلك الظهور الغريب، كان معنياً بكل شيء كيف يتحرك المقاتلون، شدة القصف، الخبز، الماء، سخونة الطعام…. المنامات! قبل ان يعود الى سيارته التي تركها تحت دغل على جانب الطريق ويندفع في تلك الجبال، حيث تحترق القرى وترتفع اعمدة الدخان من الوديان!

بعد عودته الى رام الله، التي احدثت ضجة واعتراضات شديدة من اجنحة متنفذة في حكومة رابين، اجرى انعطافة عميقة في اهتماماته، وبدأب المقاتل القديم وعناده واصل بحثه ودراسته، واسس لنفسه مكاناً واضحاً كباحث ومتخصص في الشأن السياسي الفلسطيني.

بهدوء غادر ممدوح نوفل مقعده، بشجاعة من احب الحياة واحبته، وفي ذاكرته اجندة طويلة لحروب الفلسطينيين الطويلة بينما حرب جديدة تعوي في بيوتنا وشوارعنا.
المجندون الفتيان الذين وقفوا على مفارق الطرق المؤدية للمقاطعة، واولئك الذين قاموا بتحية الجسد المسجى قد لا يعرفون الكثير عن القائد الذي فقدناه ولكنه كان سيحب ان يراهم هناك في بزاتهم العسكرية واجسادهم الشابة وكان سيضع يده على اكتفاهم الفتية لو استطاع او لعله فعل ذلك!