«حماس» هل بدأت تتكيف مع نهج التسوية؟

بقلم ممدوح نوفل في 10/02/2006

شكل فوز حركة «حماس» الساحق بغالبية مقاعد المجلس التشريعي، في انتخابات ديموقراطية حرة ونزيهة، صدمة كبيرة لقوى النظام السياسي الفلسطيني سلطة ومعارضة ومنظمات مجتمع مدني. وفاجأت النتيجة قيادة «حماس» وجمهورها مثلما فاجأت قوى المحيط الاقليمي والدولي المعنية بالنزاع الفلسطيني – الاسرائيلي. لا شك في ان انتصار «حماس» في هذه الانتخابات حدث كبير من الوزن الثقيل وستكون له تفاعلاته داخل المجتمع الفلسطيني وعلى مستوى الاقليم. البعض شبهه بزلزال هز المنطقة، آخرون وصفوه بانقلاب جذري في النظام الفلسطيني له ما بعده. وبصرف النظر عن النعوت والأوصاف التي أطلقت عليه، فإن يوم 25 كانون الثاني (يناير) 2006 محطة فاصلة في مسيرة الحركة الفلسطينية ومستقبل الحكم، مثل بقية الأحداث الكبرى التي شهدتها الساحة الفلسطينية، بدءاً من استيلاء الفصائل المسلحة على منظمة التحرير عام 1968، مروراً باتفاق «اوسلو» واتفاق «الاعتراف المتبادل» بين منظمة التحرير واسرائيل عام 1993، وعودة القيادة الفلسطينية من الخارج الى الداخل عام 1994، وانتهاء برحيل ياسر عرفات عام 2004.

يستطيع المؤرخون اعتماد يوم انتصار «حماس» على «فتح» والجبهتين الشعبية والديموقراطية وحزبي الشعب وفدا وجبهتي النضال والتحرير الفلسطينية والمستقلين، باعتباره نهاية مرحلة وبداية أخرى جديدة. ويبدو ان الإحاطة الكاملة بتداعيات هذا الحدث يحتاج الى بعض الوقت، وعلى المحللين الانتظار ريثما يخف انفعال «الحمساويين» الناجمة عن فوز فاق توقعاتهم ولم يحضروا أنفسهم له، وتهدأ خواطر «الفتحاويين» ويتحررون من فورة الغضب والانفعال، ويتعايشون مع الحقيقة المرة التي صنعوها بأيديهم. وأيضاً ريثما تتضح معالم الموجات الارتدادية لخسارة «فتح» وانتقال الحكم الى حزب اسلامي متشدد في بلد يجاور دولة يهودية ويتداخل معها في كل شيء، ويبدو لي ان ذلك ليس بعيداً. والآن، ومن دون انتظار يمكن تسجيل جملة من الاستنتاجات والملاحظات على نتائج الانتخابات الفلسطينية باتت أقرب الى الحقائق.

لا شك في ان ارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات تؤكد ان الناس في الضفة والقطاع تعاطوا مع العملية بكل جدية وتعاملوا معها باعتبارها أداتهم للتقييم ومحاسبة كل من أساء. وبصرف النظر عن رأي البعض بالنتيجة فالواضح ان الناس انتقمت لكرامتها وصوتت لـ «حماس» نكاية باسرائيل واميركا. وذهبت الى صناديق الاقتراع وأعلنت رفضها للشروط التعجيزية الاسرائيلية المدعومة اميركياً ولجميع أشكال الاهانة والتحقير والقمع التي تتعرض لها. وعاقب الناس السلطة وحزبها «فتح» على اساءة ادارة الحكم، وأكدوا رفض كل أنواع الاساءة التي تأتي من أبنائهم واخوانهم العاملين في مؤسسات السلطة. ومن أسهل الاستنتاجات أيضاً، ولا يختلف حولها اثنان، ان الفلسطينيين صوتوا بكثافة لـ «حماس» تعبيراً عن رغبتهم في التجديد والتغيير وتعميق الديموقراطية كناظم للعلاقات. وقالوا بصوت عال انهم ضاقوا ذرعاً بالقيادات العتيقة، ويريدون منح القيادات الشابة فرصة، خصوصاً ان القديمة تكلست وفشلت في تحقيق الحد الأدنى من الطموحات الوطنية، وفقدت القدرة على الابداع وتعيش على التاريخ. وقالوا ايضاً انهم يريدون الاصلاح ولم يعودوا يطيقون وجود رموز الفساد والكسب غير المشروع في مؤسسات السلطة.

في هذا السياق، تخطئ قيادة «حماس» ان هي قرأت الموقف الشعبي قراءة نرجسية منفعلة غير موضوعية. ويكبر خطأها وتكون نتائجه أشد ضرراً إذا اعتقدت ان الناس انتصرت لبرنامجها السياسي «القديم» الرافض للسلام والمعارض للمفاوضات. وهي تدرك أكثر من سواها أنهم لم يصوتوا لصالح برنامجها الاجتماعي والاقتصادي أو خطها النضالي المستند الى الخيار العسكري، وهي، بناء على هذا الإدراك، لم ترفع في الانتخابات شعارات تمجد الكفاح المسلح وتشيد بالعمليات «الاستشهادية»، ولم تدع بعد الفوز الباهر الى تصعيد العمل العسكري ضد إسرائيل والإسرائيليين.

وتبين ردود الفعل على نتائج الانتخابات التشريعية الثانية أن القوى المحلية والاقليمية والدولية مرتبكة في التعامل مع الواقع الجديد الذي أفرزه فوز يصح أن يقال فيه انه لو كان أقل لكان أفضل للجميع. وتميزت «حماس» عن الآخرين بارتفاع درجة الانفعال في صفوفها وعلى كل المستويات. وإذا تجاوزنا المعلومات حول أهداف «حماس»، فإن أقوال عدد من قادتها ان «الحركة خططت في هذه الانتخابات لتسلم السلطة» يبقى صحيحاً ومفهوماً إذا أخذ في سياق الحديث عن برنامجها الاستراتيجي. ومجريات المعركة تبين أنها لم تخطط للفوز بـ74 مقعداً في المجلس التشريعي، ولم تطرح في الحملة الانتخابية وقبلها، برنامجاً يشير الى أنها في الطريق الى ديوان رئاسة الوزراء وتشكيل الحكومة.

وبشأن المستقبل، لا حاجة الى مجهر، أو بصارة مغربية ماهرة، للتعرف الى التحولات الجارية، منذ فترة، في فكر «حماس» السياسي، ورؤية الطريق الذي اعتمدته بعد «المفاجأة السعيدة». صحيح أن قيادتها ظلت خلال الانتخابات تتمسك بشعاراتها القديمة وظلت مواقفها في أحيان كثيرة غامضة، لكن الصحيح أيضاً أن هذا الغموض لم يكن مبهماً عصياً على الفهم، ويندرج تحت بند الغموض البناء المقصود. وتكيفت مع رغبة الناس ومع التطورات الاقليمية والدولية وأطلقت اشارات تعكس رغبة في الاعتدال وتبنت توجهات ليست بعيدة عن الواقعية، منها الموافقة على التهدئة والالتزام بـ «الهدنة».

لدى التدقيق في أقوال قادة «حماس» في غزة والقدس، وفي المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس المكتب السياسي يوم 28/1/2006 في دمشق، تتضح توجهاتها ويتأكد تخليها عن المواقف الايديولوجية الجامدة والشعارات الرنانة وتبنت «المرحلية والتدرج» مبدأ اساسياً، ويبين الشوط المهم الذي قطعته على طريق التكيف مع الواقع: «الحركة لا تريد إلغاء إسرائيل»، «حماس ستفي بالتعهدات التي قدمتها السلطة لإسرائيل»، «لن نحمل السلم بالعرض»، «الحركة ستتعامل بواقعية مع الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل وضمنها الأمنية»، «أميركا ليست عدواً ونحن مستعدون للحوار معها»، «حماس مستعدة لهدنة طويلة»، «لن نتصادم مع عباس إذا استأنف المفاوضات». وفي الشأن الداخلي قالوا: «الحركة مستعدة لدمج الفصائل المسلحة بما فيها جناحها العسكري وإقامة جيش كأي دولة»، «محاربة الفساد في السلطة ستجري على قاعدة عفا الله عما مضى»، «حماس لن تعزل أحداً من وظيفته»… الخ من المواقف التي تشير الى أن قيادة «حماس» تنوي التمسك بهدية السماء بكل قواها وتسعى لتحسين صورتها في الساحة الدولية وتعمل على طمأنة الجميع كل في مجال اهتمامه.

وبصرف النظر عن تفسير «حماس» لأقوال قادتها، فإنها تذكرني بالموقف «الفتحاوي» في المؤتمر الصحافي الشهير الذي عقده عرفات في جنيف أواخر عام 1988، ومهد فيه طريق الحوار بين المنظمة والإدارة الأميركية، إذ أعلن يومها نبذ منظمة التحرير للعنف والإرهاب. وتذكر مواقف «حماس» ايضاً بحال قيادة المنظمة حين قررت القفز عن «حائط الانتظار» الذي جلست عليه طويلاً منذ أقرت البرنامج المرحلي عام 1974 وحتى إعلان مبادرة السلام عام 1988، وكيف نزلت عن سلم «إعلان قيام الدولة» الى ميدان التسوية السياسية، ووافقت على وضع البندقية جانباً، واعترفت بالقرارين 242 و338 ورفعت شعار دولتين للشعبين على أرض فلسطين التاريخية… الخ من الشعارات والمواقف التي قادت المنظمة الى المفاوضات في مدريد وواشنطن وأوسلو.

الى ذلك، يخطئ من يعتقد ان قفز «حماس» الى ملعب التسوية السياسية يعني انخراطها فوراً في لعبة المفاوضات واللقاءات مع الاسرائيليين، فهي بحاجة، وفق مبدأ التدرج الذي اعتمدته، الى فترة تقوم خلالها بحركات «تحمية» و «تسخين» كالتي يقوم بها عادة اللاعبون المحترفون قبل بدء المباراة واحتساب الزمن. ثم ان من حق قيادة «حماس» أخذ الوقت الكافي للتمرين على أرض «الملعب الجديد» وتجهيز الذات بمستلزمات المباراة وتكييف أوضاعها، وانتظار العروض التي تتوقع ان تقدم لها من الادارة الأميركية واسرائيل وأوروبا ترضية ومكافأة لها مقابل انسحابها من مقاعد المتفرجين ونزولها الى ملعب التسوية كفريق أساسي. وأظن ان قيادة «حماس» تتوقع مكافآت كالتي قدمت للمنظمة وعرفات عندما تخلوا عن الكفاح المسلح وتخطوا الحواجز وعبروا ميدان التسوية. من حق قيادة «حماس» مثلاً ان تطالب اسرائيل باطلاق دفعة كبيرة من الأسرى وضمنهم كوادرها، وايضاً تسهيل نقل مركز ثقلها القيادي من دمشق وطهران والعواصم الأخرى الى قطاع غزة، كما حصل مع المنظمة وقيادتها، وتوفير الضمانات اللازمة لتمتع قادتها بحرية الحركة والتنقل وعدم تعرضهم للتصفية والاغتيال كما حصل للشهيد أبو علي مصطفى.

وتعرف قيادة «حماس» ان لا مفر أمامها بعد تسلم زمام الحكم من الحديث مع اسرائيل في قضايا أمنية واقتصادية وحياتية يومية (الحركة في المعابر، كهرباء، ماء، مجاري، رخص سيارات) ان لم يكن في القضايا السياسية الكبيرة. وبالمقابل تخطئ اسرائيل والادارة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي، يخطئون عندما يرفعون سقف مطالبهم من قيادة «حماس»، ويفرضون على الشعب عقوبات جماعية بسبب تصويته لها. لقد طرحت قيادة «حماس» مبدأ التدرج والمرحلية في التعاطي مع جميع القضايا السياسية والأمنية الكبيرة والصغيرة، ومطالبتها بنبذ العنف والارهاب والاعتراف باسرائيل، فوراً وعلناً بالصوت والصورة، يندرج تحت بند فرض شروط تعجيزية مسبقة لا تتحملها قيادة «حماس» خصوصاً انها لا تزال موجودة في الخارج ولم تحتل مقاعدها تحت قبة البرلمان ولم تتول مقاليد الحكم بعد.
وأخيراً، قد يكون من المبكر التنبؤ بحجم الاشعاعات التي سينشرها فوز «حماس» في المنطقة لصالح الاتجاه الاسلامي الذي تمثله، لكن السؤال المباشر المطروح هو كيف ستدير هذا النصر وماذا ستفعل به؟ هل ستجيد توظيفه باتجاه تكريس دورها كحركة تتطلع الى المستقبل وتؤكد من خلاله قدرتها على النهوض بمشروع بناء دولة للشعب الفلسطيني، أم ستحاول توظيفه لجهة نشر فكر الثورة والعقيدة الاسلامية؟

في كل الأحوال، خصوصاً قبل تشكيل الحكومة يفيد تذكير «حماس» بأمرين جوهريين: الأول، ان 63 في المئة من الفلسطينيين صوتوا في انتخابات الرئاسة لصالح برنامج «أبو مازن» الذي كان واضحاً اكثر من اللزوم في كل المسائل الحيوية، خصوصاً المفاوضات والسلام والعمل العسكري. والكل يعرف أنه رفض بقوة «عسكرة» الانتفاضة والمجتمع. والأمر الثاني هو ان «مؤسسة الرئاسة» و «مؤسسة اللجنة التنفيذية» لمنظمة التحرير هما مرجعية الحكومة الفلسطينية «حمساوية» كانت أو «فتحاوية»، وخير للجميع ان تركز «حماس» على القواسم المشتركة للتعايش والتفاهم مع المؤسستين.