تقرير ميليس وتداعياته فلسطينيا واقليميا ودوليا

بقلم ممدوح نوفل في 10/12/2005

ندوة معهد ابو لغد للدراسات الدولية

مقدمة:
حظيت قضية اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري يوم 14 شباط/فبراير 2005 باهتمام محلي وعربي ودولي كبير. في حينه، أدانت القوى اللبنانية، اسلامية ومسيحية وعلمانية، الجريمة واشادت بمناقب الشهيد، لكنها انقسمت حول تحديد هوية الجاني المجرم. أغلبية الأحزاب السياسية العلمانية والممثلة لطوائف؛ السنة التي ينتمي اليها الحريري، والدروز والموارنة حمّلت القيادة السورية المسؤولية السياسية عن الجريمة، واتهمت النظام الأمني السوري اللبناني بتدبيرها وتخطيطها وتنفيذها. وتحفظ قادة حزب الله وحركة “أمل” الشيعيتين وحزب البعث العربي الاشتراكي فرع لبنان ومجموعات محلية أخرى صغيرة على اتهام الاجهزة السورية.
وفي سياق الدفاع عن النفس ورد الفعل على الجريمة، لم يتردد عدد من القوى والاحزاب اللبنانية في المطالبة بتدويل القضية، ودعت العالم للتدخل وطالبت بتحقيق دولي. ولم يتورع بعض القادة عن الحديث حول انتداب دولي على لبنان اذا كان ذلك يوفر للبنان الحماية الامنية ويخلصهم من وصاية واحتلال سوريا الشقيقة الكبرى الذي دام حسب تعبيرهم اكثر من ثلاثين سنة ونهايته لا تزال مجهولة، بعكس كل الانتدابات الدولية التي لها دائما زمن معروف. وأبدت فرنسا والولايات المتحدة ودول عربية واوروبية كثيرة اهتماما كبيرا بعملية الاغتيال وادانتها. وجازف، في حينه، الرئيس الفرنسي شيراك وانتقل الى بيروت وشارك في جنازة صديقه المغدور رفيق الحريري واظهر دعمه القوي للبنان. وكان لتلك المشاركة مدلولات سياسية خاصة، لاسيما ان الرئيس الفرنسي شيراك حط في مطار بيروت دون مراسم واستقبلته المعارضة وكان آل الحريري في المقدمة، وغادر بيروت ولم يلتقي رئيس الجمهورية اللبنانية إميل لحود.
الى ذلك، تجدر اإشارة الى ان وقوع جريمة الاغتيال لم يكن مفاجئا لكثيرين، لبنانيين وعرب وجهات أجنبية، ورواية الواقعة التالية تبين ان الاغتيال كان أمرا متوقعا: مطلع شباط /فبراير الماضي 2005 اي قبل اغتيال الحريري باسبوعين فقط، التقيت الصديق وليد جنبلاط زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي في منزله في بيروت بحضور الاخ فتحي ابو العردات عضو قيادة “فتح” في لبنان عضو المجلس الوطني الفلسطيني. كان اللقاء قصيرا لكنه مثيرا، وجاء متاخرا عن وقته المحدد. واختلف هذا اللقاء عن جميع لقاءاتي السابقة برئيس الحزب التقدمي الاشتراكي المريحة والممتعة.
في بداية اللقاء بيّن جنبلاط ان تأجيل اللقاء ساعة واكثر حصل لسبب قسري تمثل في عقد لقاء طارئ جمعه بقطب المعارضة الوطنية الثاني رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. وروى جنبلاط موضوع اللقاء الطارئ، وشعرت برجفة خوف قوية هزتني من الاعماق وانا استمع لحديثه الواضح والصريح. وكابرت على نفسي ونجحت في اخفاء الرجفة عنه وعن الصديق أبو ماهر الذي شاركني اللقاء. اهتزت مشاعري بقوة عندما رد جنبلاط دون نقاش او تردد على استئذاني نشر كتاب “مغدوشة – قصة الحرب على المخيمات الفلسطينية في لبنان”. فيه عرض تفصيلي لمجريات عدوان حركة “أمل” على شاتيلا وبرج البراجنة والرشيدية، وويبين حقيقة مواقف القوى الوطنية والاسلامية اللبنانية وموقف سوريا اثناء تلك الحرب، وقال وليد : إنشر لم يعد لدي ما أخاف عليه وأخشاه. يبدو اننا نعيش من جديد عام 1977ـ1978، حيث كان الانقسام الداخلي اللبناني عميقا وخطيرا، وكان التوتر مع الشقيقة سوريا على أشده. وفي ذلك العام المشئوم اغتيل كمال حنبلاط، ووقعت، كما تعرف، حوادث كبرى في البلد والمنطقة، وكان يقصد اشتعال نيران الحرب الاهلية بصورة اعنف واشرس واقتراب المصريين والاسرائيليين من الاتفاق في كامب ديفد.
قلت: لكن الكتاب يتحدث عن دور الحزب التقدمي ودور وليد جنبلاط شخصيا في مساندة حركة “فتح” والجبهة الديمقراطية عسكريا وسياسيا ومعنويا في مواجهة حركة “أمل”، ويكشف الكتاب أيضا دور القيادة وأجهزة الأمن السورية في مساندة “أمل” في حربها الظالمة على المخيمات. قال: “انشر، من يدري ماذا تخبأ لنا الايام، هذا تاريخ يجب ان يعرفه الناس”. وبيّن جنبلاط انه ورفيق الحريري تلقيا تحذيرات كثيرة تؤكد انها مرشحان للاغتيال، وأن البعض ارفق تحذيره بنصيحة مغادرة البلد لفترة لكتهما رفضا الأخذ بها.
عدت من بيروت بعد اللقاء الى عمان ثم رام الله وتحدثت مع عدد محصور من الاصدقاء ومع من يعنيهم أمر لبنان ومصير الفلسطينيين فيه حول الموقف. ورويت ما سمعت. وكنت في كل مرة انهي الرواية بمشاعر حزن وقلق على لبنان والمخيمات وعلى حياة وليد جنبلاط والأصدقاء الآخرين. وحتى اللحظة لم يغادرني القلق وتلاحقني أقوال جنبلاط وهو يودعنا في الشارع عند مدخل منزله: “يريدون تدمير هذا المنزل على من فيه بتفجير سيارة مليئة بالمتفجرات..انهم يريدون قتل وليد ورفيق الحريري والانسان يموت مرة واحدة..وفي جميع الحالات لا مجال للتراجع في الدفاع استقلال لبنان”.
وجاء اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري وزاد في القلق وتحول أحيانا الى كوابيس مزعجة. وعاد شريط زيارتي الى لبنان كاملا، ونبه ذاكرتي لكل كلمة سمعتها من جنبلاط والاصدقاء الفلسطينيين واللبنانيين حول الاتجاهات الخطرة المنحدر نحوها وضع لبنان بتسارع شديد. سمعت كلاما عن تفجير الوضع الأمني والعسكري بين القوى اللبنانية وضرب بعضها ببعض، وانفجار الصراع بين قوى واجهزة أمن السلطة وقوى في المعارضة الاسلامية والمسيحية. وسمعت كلاما حول توزيع السلاح بكثافة في بيروت الغربية. وكيف تلقى قادة فصائل العمل الوطني الفلسطيني في لبنان تشجيع الاستخبارات السورية على تنفيذ عمليات عسكرية ضد اسرائيل من جنوب لبنان، وعدم الانضباط لمواقف السلطة اللبنانية وطلباتها، واعادة احياء قوة الكفاح المسلح كقوة امن داخلي في المخيمات، بدءا من مخيم الرشيدية والبرج الشمالي في جنوب لبنان مرورا بمخيم بعلبك في منطقة البقاع شرق لبنان، وانتهاء بمخيمي البارد والبداوي في منطقة الشمال..الخ
طفح الكيل ونزل الناس للشوارع
الى ذلك، حركت جريمة اغتيال الحريري أغلبية الشعب اللبناني. وبدأ الحراك السياسي بنزول الناس سنة ودروز وموارنة بكثافة الى الشوارع، وكانت حركتهم قوية وواسعة ومؤثرة. ولعب رئيس تحرير جريدة النهار السيد جبران تويني والكاتب الصحفي الاستاذ الجامعي سمير قصير وآخرون دورا مميزا في حشد الجماهير وتفعيل حركتها اليومية. وكشف الناس عن موقفهم المستور المعادي للوجود العسكري والدور الامني السوري في لبنان. وكشفت الجريمة أيضا الغطاء عن برميل الصراعات الداخلية التي ظلت كامنة سنوات طويلة. وطالبت الجماهير الغاضبة رئيس الجمهورية بالاستقالة، واقالة قادة أجهزة الأمن الرئيسية ومحاسبتهم على التقصير. ووجهت التهمة الى “النظام الأمني السوري اللبناني”، وطالب المتظاهرون بتحقيق دولي ومحاكمة الجناة ورحيل القوات السورية عن لبنان. وقدمت حكومة كرامي الموالية لسوريا استقالتها. وانقسم الشارع وبدأت بوادر انفجار الحرب الاهلية من جديد تلوح في الافق. واتهم الحزب التقدمي الاشتراكي وانصار الحريري علنا النظام الأمني السوري اللبناني بانه هو المسؤول عن جميع محاولات الاغتيال الناجحة والفاشلة. واتهموا النظام ذاته باغتيال جورج حاوي أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني سابقا، وقبلها محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة احد قادة الحزب التقدمي الاشتراكي البارزين.
وتجاوب العالم مع نداء لبنان الرسمي والشعبي وأدان الجريمة، وساندت الامم المتحدة الشعب اللبناني في محنته. ونجح اللبنانيون في منع الجريمة وتفاعلاتها من تعطيل استحقاق الانتخابات النيابية. وأجريت الانتخابات في موعدها واسفرت عن فوز كتلة الحريري وأحزاب المعارضة بأغلبية مهمة، وصارت كتلة الحريري اكبر كتلة في البرلمان، وكلف احد اقطابها “فؤاد السنيورة” بتشكيل الحكومة. وفشل انصار سوريا في فرض حكومة جديدة موالية لهم ولسوريا. وهذه النتيجة أبقت قضية اغتيال رفيق الحريري حية ونقلتها من الشارع اللبناني الى قبة البرلمان وباقي دوائر القرار السياسي اللبناني. وعقدت حكومة السنيورة وكتلة الحريري العزم على المضي الى آخر المشوار في كشف المجرمين ومعاقبتهم، وقررتا الاستعانة بالمجتمع الدولي، وساندهما قوى لبنانية كثيرة وتصدر وليد جنبلاط مع نجل الحريري الاكبر الشيخ سعد المعركة في ميادينها الداخلية والخارجية.
ولم يبق ملف الجريمة الاغتيال محصور التداول في ردهات قصر العدل اللبناني، وتحرك المهتمون بعملية الاعتيال لمعرفة الفاعل ومعاقبته، ونقلت القضية الى أروقة الامم المتحدة. وبتاريخ¬ 7 نيسان /ابريل 2005 اتخذ مجلس الأمن قراره رقم 1595، واعتمد لمادة السابعة من الميثاق قاعدة لقراره. ونص القرار على “إنشاء لجنة تحقيق دولية مستقلة مقرّها لبنان لمساعدة السلطات اللبنانية في التحقيق بشأن كل جوانب الهجوم الإرهابي الذي قتل فيه رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري وغيره. وتتضمن القرار مهام اللحنة منها المساعدة في معرفة المنفذين والمشرفين والمنظمين والشركاء في الهجوم.
المحقق الدولي قدم تقريرا مذهلا
وبعد مداولات لم تستغرق وقتال طويلا، شكل مجلس الأمن الدولي، بناء على دفع امريكي فرنسي بريطاني مباشر، لجنة تحقيق دولية أسندت رئاستها للقاضي الألماني “ميليس”.وعملت لجنة التحقيق بجد ونشاط، أقامت مقرا لها في لبنان والتقت مئات المواطنين من رجال سياسة وكتاب وصحفيين لبنانيين وسوريين. وقدم رئيسها ميليس” في 19 تشرين الأول/ اكتوبر 2005 تقريره الأول الى أمين عام الامم المتحدة آنان، ثم قدم يوم 13 كانون الاول/ ديسمبر 2005 تقريره الثاني.
وبصرف النظر عن التفاصيل الأمنية الكثيرة الواردة في تقريري “ميليس” وعن رأي سوريا وأنصارها في لبنان فيهما، فهما مثلا قضية سياسية كبيرة تستحق اهتماما استثنائيا وبحثا معمقا من قبل مراكز الأبحاث والدراسات الفلسطينية.ويسجل لمعهد ابراهيم ابو لغد في جامعة بير زيت انه كان المبادر في الساحة الفلسطينية لتسليط الأضواء الفلسطينية على هذه القضية الحيوية وتداعياته الفلسطينية والإقليمية والدولية.
أشار ميليس في التقرير الأول ثم في الثاني دون لبس الى: وجود خيوط وأدلة على تورط “النظام الأمني السوري اللبناني” وبعض حلفاء سوريا في الجريمة. وسمى عددا من أركان المؤسستين الأمنيتين في البلدين، وسمى من الفلسطينيين الجبهة الشعبية القيادة العامة جماعة “أحمد جبريل”،ومن القوى اللبنانية كوادر في تنظيم “الأحباش” المتفرع من الجماعات الاسلامية المعروفة بعلاقتها القوية مع المخابرات السورية. وأجل “ميليس” ذكر أسماء آخرين أطلق عليهم اسم السيد (X ) وقال: “يصعب تخيل تنفيذ سيناريو مؤامرة اغتيال شديدة الحساسية والتعقيد من دون علم الاستخبارات السورية واللبنانية المتغلغة في مؤسسات الدولة والمجتمع” اللبنانيين. واتهم تقرير “ميليس” أركان رئيس الجمهورية اللبنانية الأمنيين الضلوع في المؤامرة. واتهم صراحة جنرالات لبنانيين بالضلوع في الجريمة وتنسيقها مع قائد الاستخبارات العسكرية السورية في لبنان اللواء رستم غزالة واعوانه. وأشار التقرير الى تورط مسؤولين سوريين آخرين، وطلب مقابلة كثيرين منهم اللواء آصف شوكت مدير الاستخبارات العسكرية السورية وماهر الاسد شقيق الرئيس بشار. وسمى مسؤولين آخرين حاول تضليل التحقيق، واحدا منهم فاروق الشرع وزير الخارجية السورية.
وأحدث التقرير الاول هزة سياسية عنيفة في الأوساط السياسية الدولية والإقليمية، كانت موجاتها أشد وأعنف في سوريا ولبنان(*). وقادت الى وضع قادة أجهزة الأمن اللبنانية الأساسية في السجن رهن التحقيق بناء على طلب المحقق “ميليس”. وانتحر او “نحر” في مكتبه اللواء غازي كنعان وزير الداخلية في الحكومة السورية(**). وهو من اقوى شخصيات النظام الحاكم وعمل سنوات طويلة قائدا لفرع الاستخبارات السورية في لبنان. وكان كنعان من أشد المعارضين لتمديد ولاية الرئيس الجمهورية اللبنانية إميل لحود، باعتبار ان لا ضرورة للتصادم مع القوى المحلية والدولية المعارضة للتمديد، خاصة ان ولاء جميع المرشحين لخلافة الرئيس لحود مضمون 100% لصالح سوريا.
وجاء تقرير ميليس الثاني الى مجلس الامن وعزز ما تضمنه الاول من اتهام مباشر للنظام الامني السياسي السوري اللبناني. ومثل التقريران مع القضية الاساس “الاغتيال” وتفاعلاتها، محطة حاسمة في علاقات عدد من دول المنطقة وشعوبها بعضها ببعض. وأيضا في مسيرة النظام الرسمي العربي خاصة مسيرة النظام السوري وعلاقاته بلبنان والأمم المتحدة والمجتمع الدولي.
ورفضت القيادة السورية على لسان رئيس الجمهورية والحكومة والجبهة الوطنية مضمون التقريرين واتهمت القاضي “ميليس” بالانحياز وتسيس التحقيق لحساب توجهات الإدارة الأمريكية المعادية لسوريا.
لقد أشار تقرير “ميليس” الأول الى تداعيات خطيرة جدا للجريمة تتجاوز الافراد المتورطين فيها، وتمس مصالح دول وشعوب عربية وضمنها شعب فلسطين. وقبل التوصل الى نتائج واستخلاصات نهائية حاسمة احتل التحقيق موقعا بارزا في مجال العلاقات العربية العربية، خاصة العلاقات السورية اللبنانية، والسورية السعودية، والسورية الفلسطينية. وتأثرت به العلاقات الفلسطينية الفلسطينية والفلسطينية اللبنانية والفلسطينية السورية. وظهرت تداعيات التحقيق بسرعة في مجال العلاقات السورية الأمريكية والاوروبية، والسورية الاسرائيلية، وفي علاقات ايران الاقليمية والدولية. ويبدو ان هذه التفاعلات مرشحة لأن تكبر أكثر في الفترة المقبلة، وقد تلقي بحممها على الشعبين السوري واللبناني. وقد لا ينجو شعب فلسطين في الداخل والخارج من نتائجها السلبية اذا لم تضع القوى الوطنية والاسلامية الفلسطينية المصلحة الوطنية فوق اي اعتبار آخر، واذا تورط بعضها في الصراع المتفجر حول ما ورد في تقريري ميليس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كتبت هذه المادة وقدمت لندوة عقدها معهد ابو لغد يوم 10/12/2005 قبل صدور التقرير الثاني.
** المقربون من اللواء غازي كنعان وجميع من عرفوه عن قرب يستبعدون اقدامه على الانتحار، خاصة ان الاسباب التي ذكرت باهته وهو ليس من النوعية التي يؤثر فيها هجوم من أجهزة الإعلام.
لا شك في ان تقرير “ميليس” الاول مدهش، وكمية ونوعية المعلومات والوقائع والأسماء التي جمعتها لجنة التحقيق خلال فترة قصيرة حول متى وكيف دبرت الجريمة مذهلة. (يمكن الاطلاع عل التقرير عبر الصفحة الالكترونية لجريدة المستقبل اللبنانية واماكن أخرى على شبكة الانترنت). وفي تقريره الثاني أكد “ميليس” ما ورد من اتهامات في التقرير الأول. وظهر ان لديه أدلة جديدة على تورط سوريا والنظام الامني السوري اللبناني خاصة مجموعة الضباط اللبنانيين المعتقلين. واتهم سوريا صراحة بتعطيل عمل لجنة التحقيق الدولية وتأخير التحقيق، وعدم ارسال جميع المطلوبين للتحقيق. وطالب القيادة السورية ارسال بقية المطلوبين للتحقيق بسرعة واعتقال عدد من الشخصيات الأمنية تمهيدا لتقديمهم للمحكمة، التي على الارجح سيشكلها مجلس الامن.
وكشف التقرير الاول تدني المستوى المهني في المؤسستين الأمنيتين السورية واللبنانية المتهمتين بالجريمة الى حد فظيع. وبلغت الحماقة السياسية والأمنية وتردي الاخلاق وانعدام الاحساس بالمسؤولية الى مستوى متدنى ومنحط. وأظن انه لا خلاف بين القاتل والضحية، او بين القاضي “ميليس” والمتهمين المحتجزين في سجون لبنان ومن هم ما زالوا خارج الحجز، على ان أهداف جريمة الاغتيال وابعادها سياسية وليس شخصية او عائلية. وأهل الشهيد الحريري وكوادر حزبه واصدقاءه الشخصيين واركان الحكومة الفرنسية والادارة الامريكية يعرفون ان عملية الاغتيال نفذت بعد تهديدات مباشرة تلقاها الحريري من قبل المؤسسة الأمنية السورية. وترافقت التهديدات السورية، في حينه، مع اتهامه علنا، من أعوان أجهزة الأمن السورية اللبنانيين، بالخيانة الوطنية والعمالة للاجنبي.
لقد عارض المغدور رفيق الحريري علنا التمديد ثلاث سنوات اضافية لرئيس الجمهورية اللبنانية “اميل لحود” حليف سوريا. واضطر الحريري الى تقديم استقالة حكومته. وبعد تهديد مباشر وانذار شديد الوضوح تلقاه من القيادة السورية وجد نفسه مجبرا على التصويت في البرلمان اللبناني ومعه كتلته لصالح تمديد ولاية رئيس الجمهورية، رغم انه اعلن مرات كثيرة انه سوف يصوت ضد التمديد.
وتدقيق تقرير لجنة التحقيق في وقائع تنفيذ الجريمة الاغتيال والادوات الفنية التي استخدمت في تنفيذها، بين أن المنفذين استخدموا امكانات فنية وتقنية عالية تملكها دول وليس افراد او جماعات صغيرة. ويسجل لمن دبر الجريمة انه كان بارعا في التخطيط وماهرا في التنفيذ، ولم يترك في المكان اثرا ماديا يدل عليه ويظهره متلباسا الجريمة. وبصرف النظر عن رأي البعض في عمل “ميليس” ولجنته فاني اعتقد ان الجزء الأول من المسلسل كان مثيرا. وفي جميع الحالات يعتبر تقرير “ميليس” الأول في نظر المحللين السياسيين والمراقبين المحايدين ليس أقل من “إعصار” من عيار ثقيل يتحرك في ارجاء المنطقة وربما تكون نتائج هذا الاعصار مدمرة في دمشق وبيروت. ودماره يشبه دمار الزلازل التي ضربت المنطقة في حرب الخليج الأولى والثانية، وزلزال أسلحة الدمار الشامل الذي ما زالت تداعياته تمعن في تدمير العراق رغم اعتراف قوات الاحتلال الامريكية والبريطانية بعدم وجود مثل هذه الاسلحة.
ويفترض ان لا يكون خلاف على ان اغتيال الرئيس رفيق الحريري جريمة ارتكبت بدم بارد، تجاوزت تفاعلاتها السياسية مسرح الجريمة. وأحدثت حراكا سياسيا واجتماعيا وامنيا واسعا في ميادين السياسات الدولية والاقليمية وضمنها ميدان الصراع الفلسطيني الاسرائيلي وميدان العلاقات الفلسطينية الداخلية. ويبدو ان شعوب ودول المنطقة سوف تنشغل بهذه القضية شهورا طويلة في العام القادم 2006. وقرار مجلس الامن الدولي تمديد عمل لجنة التحقيق 6 شهور، بناء على طلب لبنان وتوصية القاضي ميليس، يؤشر على ذلك. والمعروف ان قصة البحث عن “الحقيقة” في الشرق الأوسط دائما طويلة ومثيرة.وكثير من قصص الاغتيال التي وقعت في لبنان لا تزال غامضة. وتدقيق تقرير “ميليس” يبين ان اغتيال الحريري “قصة بوليسية” حقيقية محبوكة بدقة، وحل اللغز فيها ووصول لجنة التحقيق برئاسة “ميليس” او من يخلفه الى الحقيقة ليس سهلا، وسوف يستغرق وقتا طويلا كما قال المحقق “ميليس” نفسه امام مجلس الأمن الدولي. وأظن ان الناس في شتى ارجاء المنطقة سوف يشاهدون في العام القادم تطورات دراماتيكية، منها مسلسل محاكمة شخصيات سورية ولبنانية سياسية وامنية أمام محكمة دولية. وقد تكون وقائع المحاكمات ومشاهدها اكثر إثارة من وقائع محاكمة صدام حسين وأعوانه على يد قضاة عراقيين.
وهذه الورقة تبين ابرز تفاعلات التحقيق على لبنان سوريا وعلى فلسطين شعبا وقضية ونظام سياسي:
أولا / في لبنان :
ـ انفجرت الخلافات الداخلية وانقسم النظام السياسي اللبناني حول عدة قضايا لها صلة مباشرة باغتيال الحريري منها؛ تدويل التحقيق، واتهام سوريا بتدبير عملية الاغتيال ، ومطالبة رئيس الجمهورية اللبنانية اميل لحود بالاستقالة..الخ . ومؤخرا تطور الخلاف وانسحب وزراء حزب الله وحركة “امل” من الحكومة، بعد اغتيال النائب جبران تويني رئيس تحرير جريدة النهار، واتهام سوريا بالجريمة وتصويت الأغلبية داخل مجلس الوزراء اللبناني لصالح مطالبة مجلس الامن الدولي بتوسيع التحقيق الدولي ليشمل جميع عمليات الاغتيال التي وقعت بدءا من محاولة اغتيال مروان حمادة وانتهاء باغتيال النائب تويني. وهذا الانقسام مرشح للتدهور اكثر واكثر.
ـ تم بناء على طلب المحقق “ميليس” وكنتيجة لتقريره الأول، إقالة اركان النظام السياسي الامني السوري اللبناني اركان رئيس الجمهورية اللبنانية، وتم وضعهم رهن الاعتقال في سجن لبناني. وحققت اللجنة بصيغة واخرى غير مباشرة مع رئيس الجمهورية ايل لحود.
ـ شجع تقرير “ميليس” وتفاعلاته الدولية الحكومة اللبنانية على التصرف باستقلالية، وطالبت بترسيم الحدود بين البلدين، وجمدت جميع الترتيبات الثنائية التي كانت تتيح لسوريا التدخل والهيمنة.
ـ شجع المواطنون اللبنانيون على الكلام ضد سوريا، وعمل بعضهم شهودا ومخبرين على تورط المخابرات السورية في اغتيال الحري وفي عمليات الاغتيال الاخرى، ووقعت تعديات على العمال السوريين في لبنان وقتل بعضهم بصورة غامضة، فسرت على انها انتقام.
ـ حظي لبنان بدعم دولي واسع وصار محط نظر الأمم المتحدة وقوى دولية اخرى.
ـ استعاد لبنان “نظريا” منطقة مزارع شبعا، واعترفت القيادة السورية بانها جزء من الاراضي اللبنانية علما انها ظلت ترفض الاعتراف بذلك. وهذا الاعتراف يحرج قيادة حزب الله، حيث ظلت تؤكد تمسكها بالسلاح والعمل العسكري من اجل تحرير المزارع المحتلة.
الموقف السوري:
ـ رفضت القيادة السورية التهم التي وردت في التقريرين ، واتهمت الإدارة الأمريكية باستغلال اغتيال الحريري لتصفية حسابات سياسية والانتقام من سوريا التي لم تركع للإدارة الأمريكية وتعارض سياستها في العراق وفلسطين. لكن الغريب هو ان القيادة السورية لم تتهم رسميا أحدا في مرافعاتها في مجلس الامن الدولي ولا في بياناتها الرسمية..حتى انها لم تتهم اسرائيل، وتولى اعوانها وحلفاؤها في لبنان المهمة.
ـ توترت العلاقات السورية السعودية على خلفية الجريمة، وحاولت القيادة السورية الاستعانة بمصر وعملت على تعريب التحقيق. ورفضت القيادة السعودية قيادة لجنة عربية للتحقيق في الجريمة. ولم تفلح الجامعة العربية ولا اطراف النظام السياسي العربي في منع تفاقم الازمة بين سوريا ولبنان، ولم يوفق حتى الآن أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى في تبريد الأزمة.
ـ وافقت سوريا بعد نصائح عربية وسوفيتية، في اللحظة الأخيرة، على ارسال خمسة من كبار الضباط منهم رستم غزال وجامع جامع للتحقيق. وأقصى ما حصلت عليه سوريا هو تغيير مكان التحقيق من لبنان الى جنيف في سويسرا. وأجلت ارسال اللواء آصف شوكت وماهر الاسد شقيق الرئيس السوري الى التحقيق، ولا تزال قضية التحقيق معهما معلقة بين الحكومة السورية ولجنة التحقيق الدولية.
ـ تحركت القيادة السورية في عدة اتجاهات دفاعا عن النفس: حركت في لبنان، الأحزاب الموالية لها؛ حزب البعث والحزب القومي السوري وحركة “امل” وحزب الله. وتحفظت هذه الاحزاب على اتهام سوريا واتهمت امريكيا بتسييس الجريمة. وتصدر حزب الله وحركة “أمل” تحركا شيعيا مضادا لاتهام سوريا.
ـ وجهت لها تهمة من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا بتطوير وتصعيد الدعم والمساندة للمقاومة العراقية المسلحة بامل المساومة في موضوع اغتيال الحريري ودورها في لبنان.
ـ اشهرت سوريا ورقة الوجود الفلسطيني في لبنان في وجه خصومها. وتحركت الجبهة الشعبية القيادة العامة بقيادة احمد جبريل. وجرى تهريب سلاح ومقاتلين من سوريا الى لبنان بشكل مفضوح بهدف اثارة قصة التواجد العسكري الفلسطيني في لبنان. واثير حديث واسع حول سلاح المخيمات وقواعد القيادة العامة خارج المخيمات. وجرت محاولات تصعيد الوضع العسكري في جنوب لبنان من قبل اطراف فلسطينية، وحاول البعض فتح صراعات مسلحة في محيط المخيمات ومع جوارها.
ـ التقى الرئيس السوري ثنائيا مع ابو اللطف فاروق القدومي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وحرض القوى الفلسطينية المقيمة في دمشق على تفجير الوضع في جنوب لبنان والتمسك بسلاح المخيمات وتصعيد الكفاح المسلح في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ـ أصدرت القوى الفلسطينية المقيمة في دمشق بيانات استنكرت فيها اغتيال الحريري وتضامنت مع الموقف السوري واتهمت الادارة الامريكية بتسسيس القصة واستهداف الموقف السوري المساند للفلسطينيين. وتبنت قوى المعارضة الفلسطينية في سوريا ولبنان موقف سوريا والمعارضة اللبنانية. وشارك بعضها في التحركات التي قادها حزب الله.
ـ ظهر في الساحتين السورية واللبنانية من هو مصمم على وضع الفلسطينيين في مواجهة “الاعصار”.
الموقف الفلسطيني
عمل بعض اطراف الحركة الفلسطينية المقيمة في سوريا على توريط م. ت. ف. والشعب الفلسطيني في الأزمة تحت شعار الدفاع عن المخيمات وعن حق الفلسطينيين في اقتناء السلاح لتحرير أرضهم والدفاع عن وجودهم والصمود في وجه المخطط الامريكي الذي يستهدف سوريا والاقوى الحية في المنطقة العربية. ونشّط ابو اللطف “فاروق القدومي” عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عضو اللجنة التنفيذية تحركاته نحو مخيمات لبنان وفي الضفة الغربية وقطاع غزة . وتوترت علاقاته برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس “ابو مازن”.
ـ تم اعتقال ابو حسن مسؤول منظمة الصاعقة وآخر من تنظيم القيادة العامة، وكلاهما على علاقة مع المخابرات سورية، وادعا السجن في لبنان على ذمة لجنة التحقيق الدولية.
ـ اتخذ رئيس السلطة الفلسطينية ابو مازن محمود عباس موقفا واضحا ووضع النقاط على الحروف بشأن التواجد الفلسطيني في لبنان. وحدد اتجاه الحركة الفلسطينية بصراحة والمطلوب من الوطنيين الفلسطينيين خصوصا فتح وقوى م ت ف في لبنان ووجهاء المخيمات. وقطع الطريق نهائيا على اتباع النظام الرسمي العربي، بغض النظر اسمائهم ومسمياتهم. وأرسل عبر أصدقاء مشتركين، رسائل الى عدد من الشخصيات السياسية اللبنانية منهم رئيس الحكومة فؤاد السنيورة وزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط والشيخ سعد الحريري، كرر فيها موقفه المعروف من قضية الوجود الفلسطيني في لبنان الذي أبلغه للقوى اللبنانية خلال زيارته بيروت مطلع العام الجاري 2005. واكد ابو مازن أن الفلسطينيين ليسوا طرفا في نزاعات لبنان الداخلية، وضد توريطهم فيها وفي اي صراع عربي عربي، خاصة النزاع السوري اللبناني الذي نشأ على خلفية اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الاسبق رفيق الحريري. وانه ضد استخدام ورقة الوجود الفلسطيني في لبنان في هذا النزاع من اي طرف كان. وكرر مقولته “الفلسطينيون في لبنان ضيوف الشعب اللبناني وحكومته”، و .م .ت .ف. حريصة على توحد اللبنانيون والعرب حول مساندة نضال الشعب الفلسطيني من أجل استرداد حقوقه”. في حينه، استقبلت رسالة الرئيس أبو مازن بارتياح شديد من جميع اللبنانيين وعبروا عن تقديرهم للموقف الفلسطيني الرسمي ولمبادرة الرئيس عباس بالاتصال.
الى ذلك، ظل أبو مازن يعبر عن قلقه مما يجري لبنان وحذر في الاجتماعات الداخلية من دفع الوضع الفلسطيني الى ساحة السجال السياسي الدائر في هذا البلد. ونبه لمحاولات قيادات فلسطينية تقيم في الخارج زج المخيمات في النزاع لحساب قوى اقليمية وحسابات أخرى لا علاقة لها بالقضية.
ولم يتأخر الوقت حتى بدأ الحديث في الاعلام عن نقل سلاح وانتقال مسلحين من سوريا الى المخيمات الفلسطينية في لبنان والى قواعد عسكرية خارج المخيمات وترافق الحديث مع زيارات قام بها شخصيات فلسطينية الى سوريا ولبنان دون تكليف من القيادة، وعقدت لقاءات وصدرت بيانات وتصريحات فصائلية رفضاوية ضارة، أبرزها بيان القيادة العامة “جماعة جبريل”، أحرج قيادة السلطة و م ت. ف. وكاد يورط الفلسطينيين في نزاع مع الحكومة اللبنانية وأطراف أخرى. عندها لم يتردد الرئيس محمود عباس في الاتصال برئيس الحكومة اللبنانية “السنيوره” وأبلغه موقفا واضحا خلاصته؛ السلطة والمنظمة ضد توريط المخيمات الفلسطينية في الخلافات اللبنانية او النزاعات الدائرة على أرضه وحوله، وهي براء من نقل سلاح وانتقال مسلحين من سوريا او اي بلد عربي الى المخيمات. واعتبر ابو مازن هذه الأعمال، إذا حصلت، اساءة بالغة مقصودة للقضية ومنظمة التحرير وللعلاقات الأخوية الفلسطينية اللبنانية.
وأوضح أبو مازن في رسائله، دون لبس، أنه وقيادة المنظمة ضد أي تواجد عسكري فلسطيني خارج المخيمات، وأن السلاح الفلسطيني في المخيمات تحت تصرف الحكومة اللبنانية، والمهم هو توفير الأمن للمخيمات وتوفير الأمان لسكانها ريثما يتم حل قضيتهم وفق الشرعية الدولية. وابو مازن يؤمن بأن لا معنى للتفكير باستعادة دور ما للسلاح الفلسطيني في لبنان بعد انتقال مركز ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية والقرار الفلسطيني من الخارج الى الداخل. وهو في كل الاحوال يعتبر الأمر خارج الزمن المتعلق بالقضية الفلسطينية وخارج التوقيت للقضايا الوطنية اللبنانية الاساسية. وأكد أبو مازن للجميع ان كل موقف آخر يعبر عن وجهة نظر صاحبه فقط ايا كان اسمه وموقعه في السلطة او المنظمة. ولم يتردد ابو مازن في ابلاغ وسائل الاعلام استنكاره لبيان “القيادة العامة” الذي هاجم رئيس الحكومة اللبنانية، ووصف البيان بأنه “قليل أدب يضر بالمصالح الفلسطينية”. ورفع ابو مازن الغطاء عن كل من حاول الإساءة للعلاقة الفسطينية اللبنانية واللعب بأوضاع المخيمات، ولقي موقفه تقديرا لبنانيا عاليا، وتلقى شكر الشيخ سعد الحريري واتفق الرجلان على اللقاء في اقرب فرصة. وكرر الرئيس عباس الموقف ذاته علنا في باريس بعد لقاء الشيخ الحريري ورئيس الوزراء فؤاد السنيورة.
لا شك في ان ما قاله “ميليس” في تقريريه الاول والثاني مذهل، وتضمنا مفاجئات كثيرة أهمها الوضوح والصراحة وتسمية الأشياء باسمائها. وما قاله المحقق “ميليس” وسيقوله المحقق البديل يمثل قمة جبل الجليد وطرف الحبل الطويل الذي سوف يجر عددا من أركان “النظام الأمني السوري اللبناني” الى قاعات المحاكم والسجون الدولية. وتفاعلات قضية اغتيال الحريري لن تتوقف عند هذا الحد، وسوف تترك بصماتها على الوضع في سوريا ولبنان وعموم المنطقة، وقد لا تتوقف قبل حدوث تغيير نوعي في بنية النظام السياسي في سورية.
وفي جميع الحالات يبقى اغتيال رفيق الحريري خسارة كبيرة للبنان ولتيار الواقعية والاعتدال في المنطقة، وايضا لدعاة نشر التقدم والديمقراطية في العالم العربي. وخسارة للقضية الفلسطينية وشعب فلسطين خصوصا ناس المخيمات في لبنان. ويقدر الفلسطينيون للشهيد الحريري دوره في لملمة جراح المخيمات في لبنان ومساندته قضيتهم المركزية في جميع المحافل السياسية العربية والدولية. ورغم ملاحظات خصومه السياسيين على بعض توجهاته السياسية والاقتصادية الا ان اللبنانيين في مختلف الطوائف يقدرون دوره ليس فقط في انعاش الاقتصاد واعادة اعمار ما هدمته الحروب، بل وايضا في عقد مؤتمر الطائف وانهاء الحرب الاهلية ولملمة الجراح. ويقدرون ايضا دوره المتواصل حتى وهو في موقع المعارضة في تثبيت السلم الاهلي وبناء تحالفات داخلية ساهمت في انقاذ لبنان من مطبات كبيرة. ويقدرون له تحسين صورة بلده في الحقلين الدولي والاقليمي واستعادة مكانته العربية والدولية والاقتصادية.
وبصرف النظر عن رأي البعض في الحصيلة الاولية لتقريري “ميليس” فهما برأيي هائلين قويين، يشيران الى ان من دبر وخطط ونفذ جريمة الاغتيال مغرور بذاته وبنفوذه وسطوته، ولم يكترث لانكشاف دوره ودور أعوانه. انه ساذج في حساباته ولم يقدر الموقف بعد الاغتيال، واستهتر برد الفعل اللبناني والاقليمي والدولي المحتمل. وهذا السلوك صورة واقعية لعنجهية أجهزة الأمن المتخلفة.
لا شك في أن الحركة الامريكية في قضية اغتيال الحريري ليست بريئة، لكن الاخطر والأهم هو ان القيادة السورية أصبحت الآن أمام معادلة صعبة: من جهة، قد تدخل سوريا في مواجهة مع مجلس الأمن، واحتمال فرض عقوبات دولية عليها بموجب المادة السابعة التي تبيح التدخل الدولي في حال رفضها ارسال ماهر الاسد وآصف شوكت للتحقيق ورفض توقيف بعض من خضعوا للتحقيق مكلف. ومن جهة اخرى اعتقد ان استكمال ارسال المطلوبين للتحقيق واعتقال المشتبه بهم، حسب راي لجنة التحقيق، شبه مستحيل. والقيادة السورية مطالبة بتحديد اي الخيارين افضل واين تكمن مصلحة الوطن ووضعها دائما فوق مصالح الافراد بغض النظر عن رتبهم ومواقعهم.
وبديهي القول ان استبدال المحقق “ميلس” بمحقق آخر لا يغير في الموقف شيئا. ومحاولة اطالة الوقت وتضييع التحقيق في متاهات جديدة، والرهان على تعميق المأزق الأمريكي في العراق، وتوتير الوضع الامني في لبنان ونبش تاريخ الازمة اللبنانية الداخلية وتحريكها من جديد..الخ لا يغير في النتيجة. والشيء ذاته ينطبق على توتير الوضع في الساحة الفلسطينية وعلى جبهات الصراع مع اسرائيل.
واخيرا يمكن القول اذا عرفت الحقيقة فان جحيم الاضطرابات والتقتيل سوف ينفجر ويصبب حممه في لبنان وحتما سوف تطال دول أخرى في المنطقة. قد لا يقع تدخل عسكري على غرار ما حصل في العراق، ولكن كيف يصبح الوضع في حال فرض حصار بحري وجوي على سوريا مثلا؟
اعتقد ان الخطوة الاولى في مواجهة الاخطار التي تهدد سوريا والمنطقة تبدأ بتعاون القيادة السورية مع لجنة التحقيق والاندفاع في محاسبة من تورط في جريمة اغتيال الحريري ايا كان موقعه. وهذا الموقف يتطلب تضحية وشجاعة في تحمل المسؤولية والتعامل مع الحقائق كما هي ووضع العواطف جانبا. والسؤال الكبير المباشر يتلخص في اين سنقف كفلسطينيين واين ستقف ايران والدول العربية في حال ادانة سوريا بالجريمة ؟ لا شك في ان والجواب على هذا السؤال وغيره من الاسئلة الكبيرة، ومواجهة الأخطار المحدقة العرب تستدعي عقد قمة عربية طارئة تضع جميع الزعماء أمام مسؤولياتهم، وتساعد البعض في النزول عن الشجرة..ولا حاجة لانتظار “حكماء العرب” اجتماعات مجلس الأمن الدولي وقراراته. وفي جميع الحالات على الفلسطينيين اينما كانوا الابتعاد عن طريق الاعصار المدمر الذي اثاره اغتيال الحري وعدم التورط في القصة. والفلسطينيون في كل مكان يتمنون على الأشقاء العرب ان يتحركوا بسرعة ويجنبوهم نتائج كارثة جديدة، والتجربة علمت الفلسطينيين ان كوارث العرب تعمق جراح نكبتهم المزمنة.