الحرب على المخيمات في لبنان:1) رحيل منظمة التحرير عن بيروت حرك مطامع كثيرين

بقلم ممدوح نوفل في 24/12/2005

“مغدوشة”
تاريخ الشعب الفلسطيني الحديث فصول ألم وعذاب متتالية ومتلاحقة. دوّن الآباء والأجداد بعضها لكن كثير من فصولها لم تدون وزرعت في الأرض مع أصحابها نلمس بعضها في قدسية الأرض. وإذا كان البحث عن هذا التراث الثمين لا يزال متواصلا فعلينا أن نقر بان هذا البحث لم ينجز، بعد، ما ينبغي انجازه. ومن المؤكد أن في ذاكرة كثيرين ما يسهل البحث لو ان شهود الأحداث الذين ما زالوا أحياء أباحوا لمخزونهم بان يفيض، وحق الأرض على الأحياء من أبنائها أن يخففوا عنها مشاق الحفر وعذاب التنقيب.
أعتقد أن التواجد الفلسطيني المدني والعسكري في لبنان هو أحد الفصول الحيوية والهامة في تاريخ الشعب الفلسطيني وتاريخ ثورته. بدأ مع النكبة عام 1948 وتطور مع انطلاقة الثورة عام 1965، ونما وكبر مع تطور النضال الفلسطيني وبروز الثورة قوة مقررة في الساحة اللبنانية. وإذا كانت الثورة الفلسطينية أمضت مرحلة طفولتها مشردة في شتى أنحاء الأرض العربية وتجمعت فترة 1967ـ 1971 في الأردن، فإن هذه الثورة عاشت مرحلة شبابها في الساحة اللبنانية 1971-1982 وهرمت بعد رحيل قيادتها ومعظم كادرها إلى تونس وغيرها عام 1982، وشاخت بسرعة بعد العودة للوطن وقيام السلطة عام 1994.
في هذه الأوراق المتواضعة محاولة على درب أداء الواجب إزاء تاريخ ألوف الفلسطينيين الذين اقتلعتهم الأقدار من أرضهم، ورمت بهم رياحها دون خيار منهم على أرض لبنان المجاور لوطنهم فلسطين.وذاقوا عذاب وآلام الهجرة واللجوء، بعضها كان من صنع الاشقاء. وبعد ربع قرن ذاقوا حلاوة الحياة في عز ثورتهم في لبنان 1974ـ1982، وذاقوا أيضا علقمها بعد ترحيل قيادة الثورة عنه.
شاءت الأقدار أن أكون في الفترة الواقعة بين عام 1971 وعام 1988 شاهدا على الفرح والعذاب اللذين عاشهما الشعب الفلسطيني في لبنان. وإن كان لي أن اعتز بأني كنت أحد المساهمين في جلب هذا الفرح لهم، فإني أعترف أني كنت شريكا في التسبب ببعض تلك العذابات، ضمن حدود موقعي في مؤسسات م ت ف والثورة. وإن عضويتي في المجلس العسكري الأعلى لقوات الثورة الفلسطينية، والمجلس المركزي لمنظمة التحرير ولأني كنت عضوا في المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية وقائد قواتها المسلحة الثورية وأمين تنظيمها الحزبي في لبنان خلال تلك الفترة، فإني أتحمل قسطا من المسؤولية إزاء كل ما جرى في لبنان خلال الحروب الظالمة على المخيمات 1984-1988، خصوصا منذ عينت في العام 1984 قائدا لقوات منظمة التحرير في لبنان بعد رحيل القائد العام أبوعمار وأعضاء المجلس العسكري عام 1984.
إلى ذلك، كنت ولم أزل على قناعة أن دور الثورة الفلسطينية في لبنان يحتاج إلى مراجعة موضوعية وشجاعة، تفرز الخطأ عن الصواب وتحدد التخوم والفواصل بين ما هو ايجابي وما هو سلبي، وتميز الأخطاء الاستراتيجية عن الأخطاء التكتيكية، وتفصل بين ما فرضته الظروف الموضوعية في سياق مرحلة الكفاح المسلح والدفاع عن استقلالية القرار الفلسطيني وما صنعته الذات الفلسطينية المقررة.
وكلي أمل أن يساهم الكتاب بمعلوماته الحقيقة في إجراء المراجعة الضرورية والمطلوبة من الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين ومن كل من كان له دورا في إسعاد أو تعذيب الشعبين الفلسطيني واللبناني.
ويرى القارئ في الكتاب صورة حية عن وقائع صنوف عذاب ذاقها قسم من الشعب الفلسطيني في لبنان، دونتها يوم يوم في دفاتري الخاصة جريا على عادة التزمت بها اثناء عملي في المجال العسكري. ويجد الباحث في فصوله صورة واقعية عن جوانب هامة في حياة الثورة في لبنان والثقافة والتقاليد التي زرعتها في حياة الفلسطينيين في المخيمات، وعن الصراع بين المصالح الخاصة للفصائل والقيادات مع المصالح الوطنية العامة. وفيه أيضا بعضا من المشاعر والخواطر موصوفة كما كانت في ابان طزاجتها حين احتوتها دفاتري. وكلي أمل في ان تساعد على استكمال الصورة والتعرف على آثارها على الإنسان الفلسطيني.
وانطلاقا من قناعتي بأهمية التوثيق في تسجيل التاريخ آثرت كتابة الحقيقة كما عشتها ودونتها برغم معرفتي بأنها جارحة احيانا. وثبّت الأسماء والاماكن التي شهدت الأحداث وفرضت على شخصياتها العودة الى خشبة المسرح واداء أدوارهم التي قاموا بها في تلك الفترة. وحرصا على تدوين الحقيقة وإعطاء التاريخ حقه واستحضار ما جرى كما جرى في حينه، دونت وقائع الإحداث بتفاصيلها الصغيرة كلما اقتضى الامر وذلك وفق التسلسل الزمني للقاءات والاجتماعات والاتصالات. كما دونت نصوص الحوار دون تزويق، وفي هذا كله يتعرف القارئ على المواقف الحقيقية للعديد من الدول والقوى والشخصيات الفلسطينية والعربية واللبنانية والدولية خلال تلك الأحداث وذاك الزمن الصعب.
ولا ادري تحت اي بند يمكن تصنيف اوراق الكتاب، هل هي شهادة تاريخية خالية من المجاملة والتنميق، أو هي مذكرات شخصية، أو رواية تقريرية لاحداث عشتها؟ واذا كانت الاوراق لا تصدر حكما نهائيا على أحد والحكم متروك للقارئ ومتروك للتاريخ والأجيال اللاحقة، فمما لا شك فيه أنها تقدم ما يلزم لاصدار الحكم وتساعد في استخلاص بعض العبر، وتساهم في تقييم مواقف بعض القوى والقيادات الفلسطينية، وتبين مدى إخلاصها في وضع مصالح الشعب فوق مصالحها التنظيمية والشخصية الخاصة. وقد تساعد في الوصول إلى حكم عادل بحق المرحلة كلها وبحق من كان في موقع صنع القرار.
وأخيرا، بقي علي الاعتراف باني وضعت مسودة هذا الكتاب أواخر عام 1989 وترددت في نشره بسبب معرفتي أن ما يحتويه من وقائع ومعلومات قد يجلب، على بعض من أعز وأقدر دورهم، الكثير من الألم والعذاب. وكلي أمل في أن لا يسبب نشر الكتاب الآن أذى لأحد. وان يتعامل كل من ورد اسمه مع الكتاب باعتباره جزءا من تاريخ لا احد منا يستطيع التبرؤ منه، وهو لم يعد ملك احد بعينه.
وفي هذه المقدمة اجد نفسي ملزما بشكر الاستاذ وليد جنبلاط الصديق الوفي للشعب الفلسطيني، أحد ابطال هذه الراواية، على تشجيعه وموافقته على نشر الكتاب بالرغم من معرفته بما يتضمن من مواقف واسرار قد تجلب له بعض المتاعب. وتأثرت كثيرا عندما التقيته في بيروت آخر يوم في شهر كانون الثاني 2005 بعد غياب دام اكثر من 16 سنة. وشعرت يومها برجفة خوف حقيقي هزتني من الاعماق وانا استمع لحديثه الصريح وعندما رد دون نقاش او تردد على استئذاني نشر الكتاب وقال : إنشر ما تريد، يبدو اننا في عام 1977ـ1978 حيث كان الانقسام اللبناني الداخلي عميقا وخطيرا، وكان التوتر مع الشقيقة سورية على أشده وفي ذلك العام المشئوم تم اغتيال كمال حنبلاط ووقعت حوادث كبرى في البلد والمنطقة وضمنها اتفاقات كامب ديفيد المصرية الاسرائيلية.
قلت: لكن الكتاب يتحدث بالتفصيل عن دور الحزب التقدمي ودور وليد شخصيا في مساندة الفلسطينيين و”فتح” والجبهة الديمقراطية عسكريا وسياسيا ومعنويا في مواجهة حركة “أمل” ومن ساندها في حربها الظالمة على المخيمات. قال: “انشر دون تأخير من يدري ماذا تخبأ لنا الايام، لم يعد لدي ما أخاف عليه وأخشاه، وهذا من تاريخنا المشترك يجب ان يعرفه الناس”.
****************************************************
رحيل منظمة التحرير عن بيروت حرك مطامع كثيرين
قبل توقف حرب إسرائيل على لبنان عام 1982، وبناء على اتفاق رئيس الحكومة اللبنانية شفيق الوزان مع المبعوث الأمريكي فلييب حبيب، فتحت القوات الإسرائيلية ممرا بريا أمام القوات السورية وقوات جيش التحرير الفلسطيني ـ لواء بدر المربوط بالجيش الأردني، للخروج من بيروت إلى سوريا والأردن. وفتحت ممرا آخر بحريا لانسحاب قيادة وقوات وكوادر منظمة التحرير الفلسطينية من مدينة بيروت إلى الدول التي تم الاتفاق عليها.
في حينه، خرجت القوات السورية بكامل أفرادها وما كان قد بقي سالما من معداتها، وسلكت الطريق الذي حدد لها في الاتفاق وهو طريق بيروت ـ دمشق، بدءا من كنيسة مارمخائيل مرورا بالحازمية والكحالة وظهر البيدر وانتهاء ببلدة شتورا في البقاع ومنطقة المصنع على الحدود السورية اللبنانية الرسمية. وانسحب مع القوات السورية قادة وكوادر ومقاتلي منظمة طلائع حرب التحرير الشعبية- قوات الصاعقة الفلسطينية الموالية لسوريا وهي الجناح العسكري لفرع حزب البعث الفلسطيني، وقادة الجبهة الشعبية “القيادة العامة” التي يتزعمها أحمد جبريل، وكوادرها ومقاتلوها وهي مقربة من نظام الحكم في سوريا.
اما عرفات فقد آثر التوجه مع أركانه وطاقم المساعدين وبضع مئات من المقاتلين معظمهم من قوات الحرس الخاص ” قوة ال 17″ إلى إحدى الجزر اليونانية في طريقه إلى العاصمة التونسية. وقد رفض اقتراحا قدمه عدد من أعضاء القيادة أن تكون وجهته الأولى هي العاصمة السورية دمشق ومنها يغادر إلى حيث يشاء. وكان في قرار ابو عمار إشارة سياسية صريحة تعكس حجم توتر العلاقة بين القيادتين السورية والفلسطينية خلال الحرب. واختيار أبو عمار بلدا أجنبيا وليس عربيا، محطة أولى في رحلة الخروج من بيروت إلى المجهول كان هو الآخر رسالة احتجاج صريحة عن انزعاجه وإحباطه من موقف النظام العربي الضعيف خلال فترة الحصار الطويلة. وتأكيدا رسميا علنيا على رفض قيادة المنظمة بشكل واضح الانضمام إلى أي من المحاور العربية التي قسّمت دول الجامعة العربية إلى محاور متنابذة، بعد توقيع الرئيس السادات اتفاقات كامب ديفيد مع إسرائيل برعاية الرئيس الأمريكي كارتر عام 1979.
قبل بدء عملية الرحيل أو الترحيل دخلت، استنادا لواحد من بنود الاتفاق مع فيليب حبيب، قوة متعددة الجنسيات مدينة بيروت وضواحيها كانت قوات “المارينز” الأمريكية والقوات الفرنسية هي عمودها الفقري. وانسحبت القوات الإسرائيلية و”القوات الانعزالية” * جزئيا من ميناء بيروت أول محطة في خطة الترحيل فيما تمركزت فيه وحدات من قوات المارينز الأمريكية. واسند لهذه القوات مهمة الأشراف على عملية ترحيل القيادة والمقاتلين وتوفير الحماية للمرحلين من أي إعتداء، بدءا من وصولهم أرض ميناء بيروت مرورا بركوبهم بواخر الترحيل التي تم استئجارها خصيصا لنقلهم، وانتهاء بمحطات الوصول العربية المتفق عليها وكانت هذه هي: تونس، الجزائر، سوريا، العراق، اليمنين الشمالي والجنوبي السودان، وليبيا، وقد تم تحديدها مسبقا بناء على ترتيبات شارك فيها ممثلون عن الإدارة الأمريكية.
وفي ميناء بيروت تأكدت القوات المتعددة الجنسية، وفق الإتفاق، من أن جميع المقاتلين الفلسطينيين وضعوا أسلحتهم ومعداتهم الحربية في الأماكن التي خصصت لها على ظهر كل باخرة. واستنادا لتعهد الحكومة الإسرائيلية للمبعوث الأمريكي حبيب بعدم دخول المخيمات وعدم التعرض للمدنيين الفلسطينيين في بيروت، تعهدت دول وحكومات قوات متعددة الجنسية حماية المخيمات الفلسطينية من الاعتداءات الإسرائيلية المحتملة.
وقبل وبعد رحيل أبو عمار من بيروت بحماية قطع البحرية الأمريكية والفرنسية، تواصل ترحيل مقاتلي وكوادر الأجهزة المدنية والأمنية الفلسطينية وعناصر المليشيا. ورغم قول أبو عمار في ميناء بيروت ردا على سؤال أحد الصحفيين “انه ذاهب إلى فلسطين” إلا أن أبو إياد وأبو جهاد وأبو الوليد وجميع أركان القيادة الفلسطينية، سياسيين وعسكريين، كانوا مقتنعين تماما أنهم يغادرون بيروت دون رجعة وإنهم جميعا ذاهبون إلى المجهول. وقد ادرج هؤلاء حديث أبو عمار في خانة المكابرة ورفع المعنويات وعدم الاعتراف بالهزيمة المؤلمة والقاسية التي لحقت بالثورة الفلسطينية.
وبالرغم من هذه التعهدات ظلت صيحات النسوة والصبايا الفلسطينيات المودعات للقيادة والمقاتلين الراحلين تقول عند مرور كل قافلة باتجاه ميناء بيروت: “لا ترحلوا، خذونا معكم ولا تتركونا تحت رحمة قوات حزب الكتائب والجيش اللبناني والإسرائيليين”. وكانت صيحاتهن الحزينة الباكية تعكس حقيقة مشاعر الفلسطينيين في لبنان على كل المستويات، خصوصا مشاعر أبناء المخيمات.
وبعد رحيل أبوعمار وقبل رحيل آخر دفعة من القيادة والمقاتلين الفلسطينيين سيطرت قوات الجيش اللبناني والقوات الانعزالية على معظم مناطق وأحياء بيروت الغربية التي كانت خاضعة للسيطرة الفلسطينية الوطنية اللبنانية. وصار في الظهور الفلسطيني المدني ناهيك عن العسكري، في أحياء أبو شاكر، البربير، الفاكهاني، قصقص، أبو سهل، صبرا، شاتيلا، برج البراجنة..ألخ مخاطرة كبيرة. بما في ذلك الوصول إلى المستشفيات لإخراج الجرحى ونقلهم إلى بواخر الترحيل الراسية في ميناء بيروت. بالرغم من ذلك، أصر العميد سعد صايل “أبو الوليد” مدير غرفة العمليات المركزية الفلسطينية ـ اللبنانية المشتركة على أن يودع هو ومن تبقى من أعضاء المجلس العسكري الفلسطيني الأعلى مدينة بيروت بأداء زيارة رسمية لمقبرة شهداء فلسطين الواقعة في حي قصقص.
في الطريق للمقبرة، لم يكن الحشد كبيرا اذا قورن مع الحشود الجماهيرية التي كانت تسير عادة خلف الجنازات وإلى هذه المقبرة بالذات، واقتصر الأمر على بضع عشرات من الكوادر والمقاتلين ساروا صامتين. فالمسيرة نظمت على عجل والخوف يسيطر على الجميع. وعند بوابة المقبرة غابت ألحان الفرق الموسيقية الحزينة التي كانت ترافق جنازات الفلسطينيين. وقبل وضع إكليل الزهور على قبر الحاج أمين الحسيني، تساءل أبو الوليد بحزن شديد وبصوت خافت: هل ستطأ أقدام أولادنا ارض فلسطين؟ هل سنستطيع يوما ما تنفيذ وصية الشهداء بنقلهم إلى أرض الآباء والأجداد ؟ أو أن مواقفنا وممارساتنا وهزيمتنا في بيروت ستقود إلى نبش قبورهم ورمي عظامهم في المزابل ؟ هل سنجد من يدفنّا باحترام كما دفنّا مئات الكوادر المقاتلين ؟ وهل سنجد لنا في هذا الوطن العربي الكبير مكانا ندفن فيه ؟
كان أبو الوليد رجلا مؤمنا لكنه لم يكن متزمتا، وطرحه هذه الأسئلة وسواها كان له ما يبرره. خاصة أن الثورة الفلسطينية خرجت من بيروت وعلاقتها مع معظم الدول العربية لم تكن على ما يرام. وكان الجيش الإسرائيلي يحاصر بيروت الغربية من جميع الجهات، جنده يقفون بآلياتهم الخفيفة والثقيلة على بعد مئات الأمتار فقط من المخيمات الفلسطينية. والرئيس اللبناني الجديد، المنتخب للتوٍٍَِِ الشيخ بشير الجميل كان الخصم الأول للفلسطينيين وصار الحاكم والحكم. هو قائد القوات اللبنانية وموحد القوات الانعزالية ضد الفلسطينيين والسوريين، وهو باني أول تحالف عربي رسمي مع دولة إسرائيل منذ قيامها على الأرض الفلسطينية في العام 1948.
وبالرغم من الوضع الاعتباري لموقع رئاسة الجمهورية اللبنانية، فإن الرئيس الجديد الذي لم يكن قد تولى مسؤولية الرئاسة رسمياً، بعد، لم يتردد عن التعبير عما يدور في ذهنه. وبعد أيام قليلة من انتخابه قال علنا وفي خطاب رسمي بثه التلفزيون اللبناني جملته الشهيرة: “يوجد في المنطقة خمس شعوب وأربع دول، وهناك شعب زائد يجب الخلاص منه”، وكان يقصد الشعب الفلسطيني البالغ تعداده أكثر من خمسة ملايين إنسان مشتتين في شتى أنحاء المعمورة.
وبالرغم من تعهد فليب حبيب بحماية المخيمات الفلسطينية من الاعتداءات فإن ثقة الفلسطينيين، قيادة وشعبا، في الإدارات الأمريكية المتعاقبة كانت معدومة. وقد ظل ينظرون إليها باعتبارها العدو رقم واحد حامي حمى دولة إسرائيل، حليفتهم التي تحتل وطنهم منذ قيامها وحتى الساعة. وظلت مناظر توديع المقاتلين الفلسطينيين في الملعب البلدي وعلى طول الطريق، جارحة ومؤلمة للجميع. المغادرون يبكون ويطلقون النار في الهواء لسبب غير معروف ويلوحون للمودعين والودعات بإشارات الاعتزاز والافتخار بخروجهم بسلاحهم، والمودعون والمودعات يبكون ويلوحون بشارات الحزن على الفراق. وكلا الطرفين كان قلقا على نفسه وعلى من يودع من الأهل والأحبة والأصدقاء. المغادرون قلقون من المصير المجهول الذي ينتظرهم في بلدان المهاجر والشتات المتكررين، وقلقون على من تركوا خلفهم من الأحبة، خاصة أنهم يعرفون أن القوات الإسرائيلية وحليفتها الإنعزالية لن ترحم من تبقى من المدنيين الفلسطينيين العزل من السلاح. والمودعون قلقون على من رحلوا وعلى أنفسهم هم الذين كانوا على يقين أن المنتصرين في الحرب سوف ينتقمون منهم.
في الأول من أيلول/سبتمبر 1982 ودع من تبقوا من القيادة الفلسطينية بيروت ورحلوا على ظهر باخرة يونانية حملتهم هم وما يزيد على ألف كادر ومقاتل فلسطيني إلى ميناء طرطوس السوري. وبعد أقل من ساعة من رحيلهم استكملت القوات الإنعزالية وقوات الجيش اللبناني اتشارها في كل أحياء بيروت الغربية. ودخلت إلى قلب المعاقل الفلسطينية في شوارع أحياء الفاكهاني وأبو سهل وحمد وجامعة بيروت العربية. ووقفت على أبواب مخيمات شاتيلا وصبرا والداعوق وبير حسن وبرج البراجنة.
وبعد اقل من 48 ساعة خرق الجنرال شارون وزير الدفاع الإسرائيلي اتفاق فليب حبيب ودخلت قواته أحياء بيروت الغربية، وراحت تمشطها بحثا عن بقايا كوادر منظمة التحرير وإستكملت بهذا سيطرتها على العاصمة. ووجدت قوات الجيش اللبناني ومعها القوات الانعزالية فرصتها للانتقام من الفلسطينيين والقوى الوطنية اللبنانية التي قاتلتها إبان الحرب الأهلية 1975-1978. وبدلا من البحث عن سبل حل الأزمة اللبنانية وتصفية ذيول ونتائج الحرب الأهلية، توجهت القوات الانعزالية نحو تصفية حساباتها مع الحركة الوطنية اللبنانية، وراحت تسعى للتنكيل بالوطنيين اللبنانيين، ودخلت في صراع ثأري مكشوف مع أبناء الطائفة الدرزية في الجبل، وأبناء الطائفة الشيعة في بيروت الغربية وضواحيها وفي بعض مناطق الجنوب.
لاحقا وبعد أقل من أسبوعين، يوم 16/9/1982، تناقلت وكالت الأنباء خبرا عاجلا من بيروت الشرقية يقول: “تمكن مجهولون من تفجير مبني في منطقة الأشرفية كان الرئيس اللبناني الجديد بشير يعقد اجتماعا مع قيادة القوات اللبنانية”. وقالت الوكالات: “الانفجار كبير جدا دمر المبنى بالكامل وهز أرجاء بيروت كلها، ومصير الرئيس اللبناني ومن معه مجهول”.
وفي المساء أكدت الوكالات مقتل الرئيس اللبناني المنتخب. منذ أيام معدودة فقط. في حينه، لم يخفي الفلسطينيون في لبنان والوطنيون اللبنانيون من شيعة ودروز وسنة فرحتهم بمقتل بشير عدوهم اللدود، لكنهم وضعوا أياديهم على قلوبهم خوفا من رد فعل القوات الإنعزالية، وبخاصة اتباع بشير، ورد فعل إسرائيل التي راهنت على بشير في بناء تحالف لبناني إسرائيلي و فرضت انتخابه رئيسا للجمهورية بقوة سطوتها على لبنان.
ومع معرفة الجميع، لبنانيين وإسرائيليين وأمريكيين وفرنسيين، بأن وضع الثورة الفلسطينية وإمكانياتها العسكرية والأمنية في تلك الفترة لا تمكنها القيام بمثل هذا العمل السياسي العسكري الكبير، فإن الفلسطينيين كانوا هم الضحية وعلى رؤوسهم وقع رد الفعل على مقتل بشير. وبتشجيع من الجنرال شارون وبعض أركان قيادة جيشه، ارتكبت قوات الكتائب يوم 17 أيلول/سبتمبر 1992 مجزرة رهيبة ضد أهالي مخيمي صبرا وشاتيلا، راح ضحيتها اعداد كبيرة من الاطفال والرجال والنساء والشيوخ معظمهم فلسطينيون، وكان ضمن القتلى أعداد قليلة من العمال السوريين والفقراء اللبنانيين الذين دفعتهم الحاجة إلى السكن في المخيم المنكوب.
وعلى امتداد عام 1983 لم تستكن قوى الحركة الوطنية والإسلامية اللبنانية ومن تبقى من القوات الفلسطينية في البقاع أمام ممارسات القوات الانعزالية المتحالفة مع الغزاة الإسرائيليين والمستقوية بهم. وبدأت مقاومة سريه مسلحة لقوات الاحتلال الإسرائيلية وضد القوات الانعزالية في بيروت ومناطق الجبل والبقاع والجنوب ومناطق لبنانية أخرى. ولقيت المقاومة الوطنية اللبنانية دعما ماديا وعسكريا وتشجيعا معنويا كبيرا من القيادتين السورية والليبية ومن قيادة م ت ف والقيادة الإيرانية. ودخلت الحرب البارة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي على هذا المحور من الصراع. وبادر الاتحاد السوفيتي ودول حلف وارسو إلى إدانة الغزو الإسرائيلي للبنان، وطالبت الحكومة الإسرائيلية سحب قواتها فورا من لبنان إلى مواقعها قبل بدء الحرب. وأكدت دول الحلف تمسكها بوحدة وسلامة أراضي الدولة اللبنانية ضمن حدودها الدولية المعروفة. ولم يخفي الاتحاد السوفيتي امتعاظه من تشكيل القوات المتعددة الجنسيات واقتصارها على قوات من حلف الناتو وعارض استمرار تواجد هذه القوات في لبنان.
ثم لم يمض وقت طويل حتى تحولت الاشتباكات المتفرقة بين المقاومة الوطنية اللبنانية والقوات الانعزالية إلى حرب أهلية شاملة. اشتعلت نيرانها بقوة في مناطق الجبل وبيروت وشرق صيدا والبقاع. وخشيت القيادة الإسرائيلية الغرق في هذه الحرب وسارعت إلى سحب قواتها من مناطق الجبل وبعض المناطق المحيطة بمدينة بيروت. وتعرضت القوات المتعددة الجنسيات لهجمات نوعية كان أبرزها تفجير حزب الله مقر قوات المارينز الأمريكية ومقر قيادة القوات الفرنسية في بيروت. وظهر حزب الله كقوة أساسية على الساحة الوطنية اللبنانية. وبرزت أفواج المقاومة الإسلامية- حركة “أمل” الشيعية قوة قائدة للمقاومة الوطنية اللبنانية.
أما بقايا قوات الثورة الفلسطينية التي لم تغادر الأراضي اللبنانية والتي حافظت على وجودها في مناطق شتورة وزحلة وبعلبك والهرمل وطرابلس وعلى طول الحدود السورية اللبنانية، فقد واصلت مقاومتها للقوات الإسرائيلية المتمركزة في الجبل والبقاع الغربي. ورويدا رويدا، مدت القوات الفلسطينية نشاطها إلى مناطق بيروت وصيدا وصور والنبطية في الجنوب اللبناني المحتل. واستثمرت الفصائل الفلسطينية إقدام إسرائيل فتح الحدود مع لبنان أمام حركة المدنيين فراحت تعمل على نقل ما يمكن نقله من أسلحة وذخائر ومتفجرات إلى خلاياها في الضفة الغربية وداخل إسرائيل. وسارعت بالتعاون مع القوى الوطنية اللبنانية إلى تصفية بقايا جيوب القوات الانعزالية في المناطق الوطنية التي لم تدخلها قوات الاحتلال الإسرائيلي، وبخاصة منطقتي الجبل والبقاع.
ووطدت قوى الثورة الفلسطينية تحالفاتها مع كل القوى الوطنية والإسلامية اللبنانية بدء من الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط، مرورا بحركة”أمل” بزعامة نبيه بري، وحزب الله، وانتهاء بالشيوعيين والناصريين. وكان واضحا لجميع اللبنانيين وكل القوى الإقليمية والدولية أن فكرة العودة العسكرية الفلسطينية إلى لبنان والدفاع عن الوجود الفلسطيني المدني فيه كان هو المحرك الرئيسي لكل ذاك النشاط العسكري والسياسي الفلسطيني. ولم تبخل فصائل الثورة الفلسطينية في حينه في تزويد القوى الوطنية والإسلامية بما يلزم من معدات عسكرية ومن مال، وقدمت لهم المعدات والخبرات الفنية العسكرية الضرورية. ونال الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة”أمل” وحزب الله حصة الأسد من تلك المساعدات.
وكانت القيادة الإسرائيلية تزود القوات اللبنانية بالاسلحة والذخائر، ولم تكن تعارض تزويد الحزب التقدمي الاشتراكي بالسلاح من المقاومة الفلسطينية ظنا منها أنها بهذا الموقف تحافظ على شيء من التوازن في العلاقة بين الدروز والمسيحيين في لبنان، وان اشتعال الحرب بين الطرفين يدفع بكليهما للتقرب أكثر فأكثر من إسرائيل ويشغل الساحة اللبنانية في أمور أخرى غير التواجد الإسرائيلي. كانت شاحنات الحزب التقدمي الاشتراكي تعبر الحواجز الإسرائيلية إلى البقاع وهي فارغة وتعود منه إلى المدن والقرى الدرزية في الجبل وهي محملة بالأسلحة والذخائر الفلسطينية. وكثيرا ما كانت شاحنات فصائل الثورة الفلسطينية، وبخاصة الجبهتين والديمقراطية والشعبية المحملة بالأسلحة والذخائر تفرغ حمولتها في شاحنات الحزب التقدمي الاشتراكي على مرأى من القوات الإسرائيلية المرابطة في محيط مدينة صوفر.
لاحقا، بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من الجبل ومحيط بيروت اشتد عود المقاومة الوطنية والإسلامية اللبنانية، وزحفت قوات فصائل الثورة الفلسطينية من البقاع إلى الجبل، وتسلل بعضها إلى مخيم برج البراجنة والى بعض أحياء الضاحية الجنوبية من بيروت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ـ القوات الانعزالية: مصطلح أطلقته الأحزاب والقوى الوطنية اللبنانية بزعامة كمال جنبلاط على حزب الكتائب اليميني الذي كان يتزعمه بيار الجميل، والقوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع وبقية القوى المسيحية التي شكلت مع جزء رئيسي من الجيش اللبناني جبهة موحدة ابان فترة الحرب الأهلية في لبنان.