مقابلة صحفية حول ما بعد الانسحاب من غزة

بقلم ممدوح نوفل في 02/11/2005

س 1/ ما هو تقيمكم للوضع بعد خطة “الانفصال” والاخلاء و”الانسحاب” التي نفذها شارون؟ وماذا يترتب من مهام واستراتيجيات في ظل التحولات ؟ هل ما زال حل النزاع على اساس “الدولتين” ممكنا، ام ان اسس هذا الحل دمرت؟ وهل يمكن للدولة ثنائية القومية أن تشكل برنامجا بديلا لبرنامج الدولتين ؟
يفترض ان لا يكون خلاف فلسطيني على أن ازالة المستوطنات وسحب الجيش الاسرائيلي من داخل قطاع غزة مكسبا وطنيا ادى الى تحرر جزء من الارض، وخفف معاناة أكثر من مليون و300 الف فلسطيني من قهر الاحتلال. وهذا الانجاز لم يحققه طرف بعينه، بل هو نتيجة جهد جميع قوى الشعب وصبر الناس وصمودهم في الأرض، وثمرة تضحيات الشهداء والاسرى والمعتقلين.
وايا تكن نوايا شارون واركانه فان تنفيذ “خطة الانفصال” والاخلاء و”الانسحاب” أحادية الجانب، من قطاع غزة واربع مستوطنات في شمال الضفة، خلق واقعا جديدا في الوضع الفلسطيني خاصة في قطاع غزة. وسقطت القدسية عن الاستيطان والمستوطنين بعد ترحيلهم وتدمير بيوتهم ونقل قبورهم. وتكرست سابقة مهمة في النزاع الفلسطيني الاسرائيلي لم تتحقق في المفاوضات ولم يجرؤ قادة حزب العمل رابين وبيريز وباراك على صنعها عندما كانوا رؤساء وزراء. وقدمت الخطة نموذجا عمليا جديدا في أشكال وطرق حل النزاع الفلسطيني الاسرائيلي المتعلقة بقضايا الحل النهائي الحساسة خاصة الاستيطان والحدود والمعابر. وهذا النموذج الاسرائيلي يمكن للمفاوض الفلسطيني التسلح به عندما تستأنف المفاوضات، ويمكن استخدامه في حقل السياسة الدولية ومطالبة “اللجنة الرباعية” الدولبية والمعنيين بحل النزاع باعتماده في معالجة القضايا ذاتها في الضفة الغربية.
وبصرف النظر عن التفسير الذي قدمه شارون للجمهور الاسرائيلي، فالقراءة الموضوعية للنموذج “الخطة” تؤشر الى تراجع في ايدلوجية حزب “ليكود”. ورغم نواقصها الكثيرة فانها تؤكد وقوع تغير ملموس في موقف شارون السياسي المعلن بشأن الاستيطان والمستوطنين وبدّل قناعته الايديولوجية بسهولة، وقبل أغلبية المجتمع هذا التبديل. ولا داعي للتذكير بمواقف الجهات الثلاث (الصهيونية وليكود وشارون) من استيطان الضفة الغربية وقطاع غزة. والكل يعرف ان عقيدة ليكود المشتقة من الفكر الصهيوني كانت وما زالت تعتبر الضفة الغربية وقطاع غزة “ارض الميعاد وهبها الله لبني اسرائيل”. وظل شارون سنوات يعتبر نبي الاستيطان وحامي حمى المستوطنين وشجعهم على التمرد على السلطة في عهد حزب العمل وعلى استيطان الضفة الغربية والقطاع.
وهو ذاته الذي رفض مبدأ الفصل “الجيوسياسي” بين الشعبين، والكل يتذكر الحملة القوية التي شنها في انتخابات شباط 2001 ضد أطروحة قيادة حزب حول “الفصل بين الشعبين باتفاق” التي طرحت في مفاوضات كامب ديفيد وفي محادثات طابا زمن ايهود باراك. وعارض بقوة اخلاء اية مستوطنة حتى اذا كانت صغيرة ومعزولة في عمق القطاع او الضفة، ورفض علنا، بالصوت والصورة، التفريق بين مستوطنة “نتساريم” في قلب قطاع غزة ومدينة نتانيا شمال تل أبيب على شاطى البحر. وادان ، في عهد باراك، خطوة الانسحاب من جانب واحد من جنوب لبنان واعتبرها في حينه ضارة لانها تمت تحت ضغط “الارهاب” وقدمت نموذجا يحيي أمل الفلسطينيين بامكانية تكراره.
الى ذلك، يجب التنبه لعدم الوقوع في اسر المبالغة والتطير في قراءة الخطة التي نفذها شارون. فالمبالغة والتطرف يمينا أو يسارا تقود إلى رسم توجهات خيالية تلحق أضرارا فادحة بالمصالح العليا، واعتقاد بعض قوى المعارضة انصار العمل العسكري أن نموذج غزة قابل للتكرار في الضفة أو في أجزاء منها في عهد شارون واحدة من هذه التوجهات الخيالية. صحيح ان “الخطة” سابقة مهمة، ولكن يخطئ من يعتقد ان لها وظيفة مباشرة تحديدا قبل الانتهاء الانتخابات الاسرائيلية القادمة نهاية عام 2006، وأهميتها تبرز فقط بعد تراجع نفوذ وقوة قوى اليمين وتعزز مكانة قوى اليسار وقوى السلام وتبؤها سدة الحكم. ومن الان وحتى ذلك التاريخ اعتقد ان شارون وقوى اليمين سوف يعملون على خلق حقائق جديدة على الارض تمنع تكرار هذه السابقة. اخطرها استكمال بناء الجدار ورسم حدود دولة اسرائيل وضم مايزيد على نصف مساحة الضفة الغربية وتنشيط حركة الاستيطان في محيط القدس ومنطقة الاغوار.
لقد نفذ شارون خطته من منطلق تقديره مصالح إسرائيل الاستراتيجية الأمنية والسياسية والديموغرافية، ولا علاقة لها بموجبات صنع السلام مع الفلسطينيين ومتطلبات تطبيق “خريطة الطريق”. بل إن أحد أهدافه هو شطب الخريطة والغاء عملية السلام وانجازاتها. وأبرز الحجج التي يقدمها شارون لقواعد ليكود وجمهور اليمين المتطرف في الجدل الداخلي المستعر، هي ان المسألة اسرائيلية بحتة والهدف الأساسي من الخطة وأد عملية السلام التي تقوم على الاعتراف الدولي بحق الفلسطينيين في دولة تشمل الضفة الغربية. وتعهد شارون لانصاره ومؤيديه بأن يكون الاخلاء والانسحاب من قطاع غزة التنازل الأخيرة مع الفلسطينيين وأن يعوضه بترسيخ الاستيطان في الضفة الغربية والقدس. ويسجل له نجاحه في تسويق الخطوة في ميدان السياسة الدولية، وجمد “خريطة الطريق” وعطل دور اللجنة الرباعية الدولية الممعنية بتطبيق الخريطة وتنفيذ رؤية بوش الداعية الى قيام دولة فلسطينية بجانب دولة اسرائيل. وقدم نفسه للرأي العام العالمي باعتباره رجل سلام وانه هو الوحيد القادر على تجاوز المحرمات اليهودية. واثنى الرئيس الامريكي بوش وقادة دول الاتحاد الاوروبي على شجاعة شارون وقبض ثمنها مقدما ونال مساعدات مالية كبيرة عوض بها المستوطنين بسخاء، ويسعى للحصول مساعدات اضافية لزيادة الكثافة اليهودية في الجليل وتعزيز الاستيطان في منطقة الغور الفلسطينية.
لا شك في ان “الانسحاب” من غزة ومواصلة مصادرة الاراضي وتعزيز الاستيطان في الضفة الغربية والقدس واستكمال بناء الجدار يضع العقل الفلسطيني أمام اسئلة كبيرة بعضها قديم جدا منها: هل ما زال في الافق الجيوسياسي مكانا لحل الدولتين “يهودية وفلسطينية” على أرض فلسطين التاريخية، ام ان التطورات العملية شطبت هذا الحل، لصالح حلول آخرى منها مثلا الدولة الديمقراطية الموحدة التي ينادي به بعض المثقفين الفلسطينيين، او الدولة ذات الحدود المؤقتة؟
شخصيا كنت ولم أزل اعتقد ان الحديث الفلسطيني، القديم والجديد، حول قيام دولة ديمقراطية موحدة يتعايش فيها العرب واليهود على قدم المساواه دربا من “التحشيش الفكري” على حد تعبير المرحوم ياسر عرفات، والشيء ذاته ينطبق على فكرة دولة ثنائية القومية عربية ويهودية. ليس فقط لان موازين القوى العسكرية والمواقف الدولية لا تسمح بمجرد التفكير فيها، بل لان هذه الافكار مرفوضة كليا من جميع القوى الصهيونية في اسرائيل، اليسارية واليمينية العلمانية والمتدينية، ومرفوضة ايضا من جميع القوى والاتجاهات الاسلامية الفلسطينية، وهي ليست ضعيفة، بل وايضا لان المنطقة برمتها خرجت منذ فترة طويلة عن طريق التطور على أسس علمانية وديمقراطية، واتجهت شعوبها وضمنها الاسرائيليون نحو التعصب الديني والطائفي والعرقي. وتتجه بعض الدول العربية الان بتسارع شديد نحو التمزق والتشرذم الى دول طوائف وكنتونات عرقية. وأعتقد ان استمرار التمسك بفكرة دولة ثنائية القومية يقود فقط الى هدر الوقت وتشتيت الجهد والطاقات. نعم قد يجنب أنصار الفكرة التلوث بالافكار الطائفية الرجعية، لكنه بالتأكيد لا يعالج النزاع، وينشر الاوهام ولا يقرب الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة من تحقيق امانيهم واهدافهم في الحرية والاستقلال.
اعتقد ان حل الصراع على اساس الدولتين، فلسطينية ويهودية، كان وما يزال هو الخيار الاكثر واقعية، والتفكير الواقعي والسليم يجب ان ينصب حول كيفية تحويل نتائج “خطة الانفصال” والاخلاء و”الانسحاب” التي نفذها شارون الى عامل يقرب الطرفين من هذا الحل، وليس الهروب الى الامام نحو فكرة الدولة ثنائية القومية، او الى الخلف نحو فكرة حل السلطة والعودة الى وضعية الاحتلال الكامل. وأظن أن تأمل موازين القوى في المنطقة، وقراءة مواقف الدول الكبرى خاصة الموقف الامريكي، تفرض على الجانب الفلسطيني التفكير في كيفية تحويل خطة الانفصال الذي نفذها شارون الى سابقة في مجال إزالة ما يمكن ازالته من المستوطنات وتحرير ما يمكن تحريره من الأراضي. والتفكير أيضا في مرحلة البرنامج المرحلي القديم الذي اقره المجلس الوطني في دوراته المتعاقبة، وفي كيفية استثمار فكرة شارون او خطته الاستراتيجية المتجهة بقوة نحو فرض “دولة فلسطينية مؤقتة الحدود” الى خطوة عملية مفيدة في سياق تقليص الخسائر الفلسطينية واحياء عملية السلام والاقتراب من الهدف المركزي.
لقد قبل اغلبية الفلسطينيون اتفاق اوسلو باعتباره مرحلة وخطوة رئيسية على طريق تحقيق البرنامج المرحلي. وأرى ان رؤية مشروع “الدولة مؤقتة الحدود” بمنظار عملية السلام واتفاق اوسلو، يبيح للفكر الفلسطيني التعاطي مع المشروع والتفكير في سبل حشد القوى والطاقات العربية والدولية وطاقات قوى السلام في اسرائيل لتوسيع رقعة الدولة “مؤقتة الحدود”، والاهم تقليص عمرها الزمني ووقف الاستيطان بضمانات دولية. واذا كان شارون يفكر بدولة مؤقتة الحدود على42 % من مساحة الضفة الغربية بالاضافة للقطاع وكحل مؤقت يستمر 10 سنة، كما يقال، فبامكان الجانب الفلسطيني الحديث مثلا عن مضاعفة المساحة واختزال الزمن الى ثلاث او 4سنوات مثلا.
س 2 / سؤال الانتخابات
اذا كان لا مجال لمراجعة موسعة لمواقف القوى الوطنية والاسلامية التي قاطعت انتخابات عام 1996 الرئاسية والتشريعية، وقاطعت انتخابات الرئاسة التي جرت مطلع العام الجاري، فالتقييم الموضوعي يؤكد ان مقاطعتهم الحقت خسائر كبيرة بالنظام السياسي الفلسطيني وعقدت العلاقات الوطنية. واخر موقفهم تطور الديمقراطية في الحياة السياسية سنوات طويلة واربك النضال السياسي ضد الاحتلال. ورغم ان مقاطعي الانتخابات الرئاسية والتشريعية السابقة لم يعترفوا بخطأهم فمشاركتهم في الانتخابات التشريعية الجديدة المقررة في كانون الثاني المقبل 2006 تمثل نهاية مرحلة من عمر النظام السياسي الفلسطيني القديم وبداية مرحلة الجديدة لها سماتها الخاصة.
وبغض النظر عن النسب التي سوف تحصل عليها القوى والاتجاهات الرئيسية فالمؤكد ان عهد حكم الحزب الواحد سوف ينتهي دون رجعة عند اقفال صناديق الاقتراع. ومبدأ التمثيل النسبي وقانون الانتخابات الجديد وعدد اعضاء المجلس..الخ كفيلة بخلق مجلس تشريعي يختلف في بنيته اختلافا نوعيا عن المجلس المنتهية مدته. وتشكيلة المجلس الجديد تفسح في المجال لتشكل معارضة قوية وظهور تحالفات متنوعة، وقد تفرض على القوى والاحزاب الاصطفاف في تحالفات تنظيمية متجانسة سياسيا وعقائديا.
واعتقد ان تركيبة المجلس الجديد وموازين القوى المتوقعة تحت سقفه سوف تعزز دور المؤسسة التشريعية وتزودها بديناميكية تجعلها فعالة اكثر في الحياة السياسة الفلسطينية. واذا كان الملل وضعف الحيوية وسيادة الخطاب الواحد سمات اساسية لجلسات المجلس التشريعي السابق فاظن ان التنوع والحيوية والاثارة سوف تبرز في مناقشات المجلس القادم، وفي عمل اللجان المنبثقة عنه.
وبديهي القول ان تطور دور المؤسسة التشريعية يعكس نفسه مباشرة على العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، لجهة تحسين تعزيز الديمقراطية في الحياة السياسية الفلسطينية الرقابة وتحسين اداء الحكومة ومحاربة الظواهر المرضية خاصة المحسوبية والفساد. ويتوقع ان يتحسن وضع القضاء في فترة عمل المجلس الجديد وتتقلص اشكال التمرد على السلطة التنفيذية ويرتفع مستوى الالتزام بالقرارات واحترام التزامات السلطة مع الدول الأخرى.
س3 / سؤال المنظمة
التأمل في أوضاع م ت ف يبين انها مشلولة وعاجزة عن الحركة تنخرها أمراض بنيوية كثيرة، بعض هذه الأمراض رافق المنظمة منذ نشاتها وانطلاق الكفاح المسلح، وبعضها الآخر اصابها بعد قيام السلطة الوطنية وبعد انتقال ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية من الخارج الى الداخل، وانتقال ثقل القرار الفلسطيني من أروقة المنظمة ومؤسساتها التشريعية وقيادتها التنفيذية الى قيادة السلطة الوطنية ومجلس الوزراء والمجلس التشريعي. حقا لقد أضعفت هذه الامراض دور م ت ف النضالي زمن الثورة وزاد اثرها السلبي بعد تصاعد حدة صراع القوى على السلطة وازدياد التنافس على استقطاب الشارع الفلسطيني في الداخل والخارج وحدت الامراض من فعلها النضالي ضد الاحتلال ومن اجل تحقيق الاهداف الوطنية، وتراجع دورها في تنظيم وتفعيل دور الشعب الفلسطيني في الخارج. ومؤسسات م ت ف تكاد تكون غائبة الان، او مغيبة عن التأثير في المفاوضات والاتصالات مع الجانب الاسرائيلي ودورها شكلي تماما في تشكيل الحكومة وفي الرقابة على عملها وعمل السلطة الوطنية، ولا دور لها في العلاقات الفلسطينية العربية والدولية. علما انها رسميا هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني كله في الداخل والخارج، وهي المرجعية الرسمية للسلطة ورئيسها.
صحيح ان لا علاقة لحركة حماس والقوى الاخرى غير المنضوية تحت راية المنظمة بهذه الامراض وهي ليست مسؤولة عن النواقص والثغرات الكامنة في جسد المنظمة وفي فعلها، ولكن لا أحد ينكر ان وجود حماس خارج اطر منظمة التحرير ساهم في اضعاف دور المنظمة في قيادة الشعب وفي النضال ضد الاحتلال. واظن ان دخول حماس منظمة التحرير ومشاركتها في مؤسسات المنظمة التشريعية والتنفيذية يعزز الوحدة الوطنية الفلسطينية في اطار المنظمة، ويعزز مكانة المنظمة في صفوف الشعب وفي العلاقات مع الدول العربية والاسلامية والقوى الدولية. ويفعّل دورها في كافة مجالات العمل ويكرس الديمقراطية كقاعدة لتنظيم العلاقاة داخل المنظمة ويزودها بأكسيد الحياة ويفرض على فتح والقوى الاخرى تغيير نمط علاقاتها. وقد توفر مشاركة حماس في المنظمة مدخلا لتجديد الحركة الوطنية الفلسطينية وتكريس التعددية السياسية ويعيد لتجمعات الشعب الفلسطيني في الخارج دورها في الحركة السياسية الفلسطينية.

س4 / سؤال القلق على المصير الوطني
لا شك ان في أن تأمل السريع لصورة الوضع الوطني الفلسطيني العام، وحال النظام السياسي يبعث على القلق حول المصير الوطني الفلسطيني أرض وشعب ونظام سياسي. ويزداد هذا القلق عند محاولة الباحث والمحلل استشفاف آفاق المستقبل المباشر والقريب من خلال منظار الوضع الراهن. فالصورة تضع المراقب وجها لوجه امام مشروع اسرائيلي يجري تنفيذه بسلاسة اما سمع وبصر العالم جوهره توسيع حدود دولة اسرائيل، وخلق كيان فلسطيني خاضع لها امنيا واقتصاديا. ويرى جدار الفصل العنصري “يتلوى” في عمق ارض الضفة الغربية يقضم افكار السلام والحل السياسي فكرة وراء فكرة، ويرى الاستيطان يبتلع ارض الدولة الفلسطينية قطعة وراء قطعة.
لكن استخدام منظار التاريخ الذي يكشف الماضي ويوضح المستقبل البعيد يظهر بوضوح التراجع الجوهري في المشروع الصهيوني الاستراتيجي الاصلي، ويبين ان أفاق المستقبل البعيد ليست قاتما. واذا كان الحديث عن فكرة الصهيونية المتعلقة بدولة يهودية حدودها النيل الفرات يندرج في اطار تفسير الاحلام والاوهام، فان انسحاب القوات الاسرائيلية من صحراء سيناء المصرية ومن الاراضي الاردنية التي احتلتها عام 1967 وانسحابها من جنوب لبنان واخيرا من قطاع وقطاع غزة يبين عمق التراجع في المشروع الصهيوني الاصلي، ويقلل القلق على المصير الفلسطيني. ورغم بشاعة جدار الفصل العنصري وخطورة الهدف من بناءه فانه يشير الى تقلص حدود دولة اسرائيل الموهومة او المرجوة كما رأها مؤسسوها فالجدار يرسم خريطة جديدة لدولة اسرائيل ناقصة قطاع غزة وقرابة 50% من الضفة الغربية.
الى ذلك، يبين استخدام منظار التاريخ واحتساب الزمن بالعقود ان العامل الديمغرافي يعمق مأزق اسرائيل كدولة يهودية يتعمق اكثر فاكثر عقدا وراء عقد. واظن هروب المفكرين الاستراتيجيين من رؤية صورة الوضع الديمغرافي في اسرائيل وفلسطين التاريخية في عام 2025 مثلا يعبر عن المازق ويجسد خوف الاسرائيليين من المستقبل. ومن وجود خمسة ملايين فلسطيني على ارض فلسطين التاريخية منهم مليون وربع يعيشون في اسرائيل ويحملون جنسيته، والكل يعرف ان الرقم الاجمالي سوف يرتفع الى عشرة ملايين بعد عقدين من الزمن. صحيح ان لكل مشكلة حل، لكني لا اتصور حل هذه المعضلة الاستراتيجية المعضلة، بعملية تهجير جماعية “ترانسفير في القرن الحادي والعشرين، واظن ان قيام نظام تمييز تمييز عنصري لا يحل الاشكال ولا يخرج اسرائيل من المازق، فالانظمة العنصرية لم تعمر في القرن العشرين ولا يمكنها ان تدوم طويلا في القرن الحادي والعشرين اذا قدر لها ان تعود .