دور الطرف الثالث في معبر رفح سابقة قابلة للتكرار

بقلم ممدوح نوفل في 19/11/2005

يوم 16 تشرين الثاني “نوفمبر” الجاري، أعلنت وزيرة الخارجية الامريكية كونداليزا رايس في مؤتمر صحفي عقدته في القدس عن توصل الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي الى “اتفاق المعابر” ينظم حركة الافراد والبضائع من والى قطاع غزة. وبينت وقائع اللقاءات الفلسطينية الاسرائيلية التي سبقت الاتفاق انه لولا جهود الوزيرة رايس وتدخل الرئيس الامريكي بوش لما توصل الطرفان اليه، وهما فشلا على مدى أسابيع طويلة في الوصول الى اي اتفاق.
وكان رئيس الحكومة الاسرائيلية شارون وأركان المؤسسة الأمنية ابقوا، بعد تنفيذ “خطة الانفصال من جانب واحد” في قطاع غزة، ملفات أمنية كثيرة حساسة معلقة بأمل مساومة االقيادة الفلسطينية وابتزازها، أهمها : ملف الحركة في معبر رفح وإدارته، دور طرف ثالث في تشغيل المعبر، بناء ميناء غزة وتشغيله، اعادة تشغيل “مطار عرفات” جنوب القطاع، تشغيل الممر الآمن بين الضفة الغربية وقطاع غزة..الخ وبذريعة مقتضيات أمن إسرائيل، أمر موفاز المؤسسة الامنية اغلاق المعابر التي توصل قطاع غزة بالعالم الخارجي وباسرائيل والضفة الغربية. ورفض شارون الاستعانة بطرف ثالث، واصر على رقابة اسرائيلية مباشرة على الحركة من والى القطاع، وطرح نقل معبر رفح الى منطقة “كيرم شالوم” في اسرائيل ملتقى الحدود المصرية الاسرائيلية الفلسطينية. وطال الاغلاق وتعقدت حياة الغزاويين أكثر، ولم يتمكن المرضى والتجار والطلاب قضاء حاجتهم خارج القطاع. وتأكد الناس ان هذا النوع من الانسحابات لا ولم ينهي الاحتلال. وحمّلوا السلطة مسؤولية تدهور أوضاعهم المعيشة وتحول قطاع غزة الى سجن كبير. ولم يكترث شارون لتشنج علاقة اسرائيل مع مصر ولا بالخسائر السياسية والمعنوية التي لحقت بالسلطة ورئيسها.
ونجحت “حماس” والمعارضة الفلسطينية في تحميل السلطة مسؤولية استمرار الاغلاق وما ينتج عنه من عذاب للناس. واتهم بعضهم عباس بالتهاون في قطف ثمار انتصار غزة على الاحتلال، الذي تحقق بالعمل العسكري والعمليات “الانتحارية”، حسب رأيهم.
في حينه لم تفلح جهود عباس والقيادة المصرية وملك الاردن عبد الله الثاني، ولا جهود اللجنة الرباعية والامم المتحدة والاتحاد الاوروبي في ثني شارون واركانه عن موقفهم، وظهروا وكأنهم يريدون اضعاف الرئيس عباس والتيار الواقعي، وتعزيز مواقف “حماس” والاتجاه الفلسطيني المتطرف. وشددوا الحصار والاغلاق بأمل انفجار الوضع الفلسطيني الداخلي واندلاع حالة من الفوضى في القطاع، تبرر لهم وقف التنسيق مع الجانب الفلسطيني وعزل القطاع عن العالم. وتعقدت علاقة الطرفين اكثر واستنجد ابو مازن بالادارة الامريكي وطالبها بالتدخل.وعلى ابواب زيارة عباس واشنطن طلبت ادارة بوش من شارون استئناف الاتصالات مع الجانب الفلسطيني واللقاء بمحمود عباس وحل القضايا العالقة، وبحث ملاحظات وطلبات اسرائيل مباشرة معه. وتجاوب شارون مع الطلب الامريكي، وعقدت لقاءات بين الطرفين ووضع الجانب الاسرائيلي شروطا تعجيزية وفشلا في معالجة الازمة وتأجل لقاء عباس شارون. وأشك ان مثل هذا اللقاء سوف يعقد قبل الانتخابات الاسرائيلية المبكرة شبة المقرة قبل نهاية آذار “مارس” القادم 2006.
وحمل عباس معه الى واشنطن هموم قطاع غزة بعد “الانسحاب” الاسرائيلي وتحوله الى سجن كبير. وصارح ابو مازن الرئيس الامريكي في الموقف الحرج وصعوبة وضع السلطة. ولم يتردد في الاشارة الى ان استمرار شارون في مواقفه المعادية للسلطة وعرقلة الانتخابات التشريعية الفلسطينية ومنع حماس من المشاركة، واستمرار الحصار واغلاق المعابر..الخ يضعف السلطة ويحرجه شخصيا، ويعزز الاتجاهات المتطرفة في الشارع الفلسطيني ويزيد في قدرتها على تحقيق نتائج مهمة في الانتخابات التشريعية على حساب الاتجاه الفلسطيني الواقعي. وسمع ابو مازن في البيت الابيض كلاما جميلا وتلقى وعودا مهمة، وقرر الرئيس بوش ارسال وزير خارجيته رايس الى المنطقة للمساعد في معالجة الأزمة.
وفي رام الله سمعت رايس من عباس واركانه عرضا مفصلا لممارسات حكومة شارون المدمرة للمجتمع الفلسطيني والسلطة وبذور السلام. وشرح ابو مازن خطورة موقف شارون وشروطة بشأن تشغيل معبر رفح، وبيّن أهمية الاستعانة بطرف ثالث في تشغيل هذا المعبر والمعابر الاخرى وضمنها الميناء والمطار. وبذلت الوزيرة رايس جهدا كبيرا وعقدت لقاءات كثيرة مع شارون واركانه، وأجلت رايس سفرها الى آسيا 24 ساعة، وساعدها موفاز وبيريس في بلورة الاتفاق واعلنت عنه واكملت رحلتها. وسجل لها المراقبون فوزا مهما يحسن من صورة دورها، ويمكّن الرئيس بوش توظيفه في تحسين شعبيته المتدهورة وكسب بعض النقاط الايجابية في سياسته الشرق اوسطية المثقلة بسلبيات التورط في المستننقع العراقي والملطخة بدماء الجنود الامريكيين والمواطنين العراقيين الابرياء.
ومنذ الاعلان عن الاتفاق انقسم أطراف النظام السياسي الفلسطيني حوله. “حماس” وقوى أخرى في المعارضة رأت فيه سابقة خطيرة، وتضمن تنازلا كبيرا عن حقوق فلسطينية. ويعتقد آخرون انه كان بالامكان تحقيق اتفاق أفضل من ذلك بكثير. وهناك من يرى في الاتفاق انجازا مهما للفلسطينيين في مرحلة صعبة، ويدعون الى والتعاطي مع الموضوع بواقعية. ودعوا الى مراقبة سلوك اسرائيل ويعتقدون ان الاتفاق مرشح لتلاعب اسرائيلي وتنفيذه لن يكن سلسا في عهد شارون. واعتقد ان المصالح الفلسطينية العليا تفرض على الحركة الوطنية التعامل مع الاتفاق بصورة موضوعية، والاقرار بأن الأمنيات والرغبات الذاتية شيء وامكانية تحقيقها الآن أو غدا شيئا آخر. وعليهم ان لا ينسوا انه نتاج موازين قوى وظروف دولية تحيط الصراع. واظن ان المواطن العادي في غزة والضفة لن يدقق كثيرا في نصوص الاتفاق كما تفعل القوى السياسية. لكنه يراقب بدقة سلوك الطرف الآخر، ويتأمل في النتائج العملية التي سيتركها الاتفاق على حياته ولقمة عيشه وأمنه. وأشك انه يقبل شعار “لا لاتفاق المعابر”، فهذا الشعار يعني له بقاء الاغلاق يطوق عنقه ويخنقه. والتجربة بينت ان النزعات الارادوية وغياب الواقعية في الفكر السياسي، كلفت العرب غاليا، وسياسة “كل شيء او لاشيء” ألحقت خسائر استراتيجية فادحة بشعب فلسطين.
الى ذلك، أرى أن لا مصلحة لاي طرف فلسطيني في تجميل الاتفاق واخفاء عيوبه، وهو مليء بالثغرات ويجحف بالحقوق الفلسطينية. وأشد المتحمسين له يعرفون انه ناقص وغير منصف لم يحقق المطالب الفلسطينية كلها، ولم يؤمن الحقوق الطبيعية للانسان الفلسطيني كاملة. واعتقد ان السلطة واجهزة الاعلام الفلسطينية ترتكب خطأ جسيمة حين تتردد في تسمية الأمور بأسمائها. ويجب الاعتراف ان المفاوض الفلسطيني اضطر للتراجع عن مواقف ظل يتمسك بها، ووافق مكرها على مساءل تفصيلية وأخرى تمس بالسيادة الفلسطينية منها وجود الأمن الاسرائيلي في غرفة رقابة تلفزيونية مشتركة يقودها الطرف الثالث. ويجب عدم التردد في القول ان “اتفاق رايس” لم ينهي الاحتلال للقطاع وما يزال يتحكم في كثير من مناحي حياة الغزاويين ولم يحقق طموحهم بوصول اخوانهم في الضفة بسهولة وأمان.
وتخطئ السلطة أكثر ان هي اشاعت، او تصرفت وكأن مشكلة المعابر قد انتهت، وتراخت في ملاحقة الحقوق الواردة في الاتفاق ولا أحد يضمن التزام شارون باتفاق رايس، فخلق هكذا اجواء واغماض العين يؤديان الى تبديد بعضها. والتجربة أكبر برهان، وتؤكد ان قادة اسرائيل يتعاملون مع الاتفاقات وفقا قاعدة ثبتها رئيس وزراء اسرائيل الاسبق رابين “لا تواريخ ولا نصوص مقدسة في الاتفاقات مع الفلسطينيين”.
بالمقابل لا يستطيع ألد أعداء “اتفاق رايس” انكار انه يحسن في ظروف حياة الناس في قطاع غزة ويخفف معاناتهم ويعزز ثباتهم في الارض في زمن غياب الحلول السياسية. ولا يمكن لاحد تلبيسه تهمة اغلاق الطريق وتعطيل امكانية انتزاع حقوقه المغتصبة. وأكد وهمية الفرضية التي راجت بعد اوسلو وقالت لا ضرورة لطرف ثالث ذو رأي ملزم ويمكن للطرفان حل نزاعهما وحدهما. ونسف مقولة “آلية عملية السلام كفيلة بمراكمة طاقة ذاتية وخلق ثقة متبادلة تضمن تواصل العملية وتوصلها محطتها النهائية دون تدخل ميداني طرف ثالث. وبين الاتفاق ان اقتصار دور الراعي على مهام فوقية والاكتفاء بتقديم نصائح ومساعدة الطرفين في الوصول إلى طاولات المفاوضات غير كاف لحل قضايا الخلاف الجوهرية.
الى ذلك، وليس صحيحا القول ان الجانب الاسرائيلي حقق مطالبه وشروطه كاملة. فالمؤسسة الأمنية الاسرائيلية تراجعت عن نقل معبر رفح الى”كيرم شالوم. ولم تحصل على البث المباشر لكل حركة في المعبر على مدى ال 24 ساعة. وتخلت عن مطلب اعتقال المشتبه بهم والمطلوبين للأمن الاسرائيل. وتراجع شارون عن رفض دور “الطرف الثالث”. ووافقت اسرائيل والادارة الامريكية، أول مرة، للاتحاد الاوروبي على لعب دور ميداني في معالجة النزاع. وقبل الاتحاد الاوروبي “مشكورا” القيام بمهمة ميدانية حساسة. وحسنا فعل الاوروبيون عندما عينوا ضابطا ايطاليا لقيادة المهمة. فالموقف الايطالي من النزاع يحظى باحترام الفلسطينيين. وتقدر م.ت.ف عاليا موقف الطليان المساند للنضال الفلسطيني. وتكن القوى الوطنية الاحترام والتقدير للجنود ورجال الامن الايطاليين، ولم ينسوا دورهم النزيه في حماية المخيمات في بيروت بعد مجازر صبرا وشاتيلا عام 1982، وعملهم الانساني في تضميد جراح المخيمات، ودورهم الامني الحيوي في المحافظة على حياة من بقي من كوادر الثورة في بيروت بعد رحيل المنظمة الى تونس.
لا شك في ان هذا التطور في الموقف الامريكي والاسرائيلي من الدور الاوروبي يمثل سابقة مهمة يمكن البناء عليها. وتؤكد خطأ المفاوض الفلسطيني الذي ظل يتصرف على قاعدة استحالة قبول اسرائيل دورا ميدانيا لطرف ثالث حتى لو كان هذا الطرف “أعز حلفاء اسرائيل”. وأظن ان تكرار هذه السابقة في المعابر بين الاردن وفلسطين فكرة واقعية ممكنة التحقيق تستحق تعاونا هادئا فلسطينيا اردنيا في العلاقة مع الادارة الامريكية والاتحاد الاوروبي واللجنة الرباعية. فتكرار اتفاق رفح على الجبهة الاردنية فيه مصلحة لأربع حهات ويخدم فكر السلام: يريح الاردنيين سياسيا ومعنويا، ويخفف معاناة الفلسطينيين، ويوفر الأمن للاسرائيليين ويقلص الاحتكاك السلبي الذي يراكم الحقد في النفوس. وأظن انه يساعد الادارة الامريكية في تحسين صورتها في الشارع العربي خاصة الاردني والفلسطيني. وشارون الذي وافق على منح اوروبا دورا في رفح لا يستطيع رفض منحها الدور ذاته في المعابر على نهر الاردن.
وفي جميع الحالات يبقى، في هذا الزمن الرديء، اتفاق ناقص يخفف من عذاب الناس خير من لا اتفاق اطلاقا. والسؤال المطروح ليس هل ينتقص الاتفاق السيادة ام يصونها كاملة، بل هل يخدم الاهداف المباشرة والاستراتيجية بعيدة المدى؟ وحسب مقولة الأمور تقاس بنتائجها يفترض ان يكون خلاف على ان “اتفاق المعابر” حسّن الموقف الفلسطيني ونقل الغزاويون الى حالة احسن وحياة أفضل. وخفف معاناة الناس، ويساهم في تثبيتهم في الارض.