إشكالية علاقة محمود عباس مع شارون وبوش

بقلم ممدوح نوفل في 18/10/2005

يبدو ان التعرف على حقيقة موقف الرئيس الأمريكي بوش من الرئيس الفلسطيني محمود عباس وسلطته يحتاج الى بصّارة شرقية ماهرة، أو مجهر دقيق يوضح ما بين الكلمات والسطور. لكن الأمر يختلف تماما عند البحث في العلاقة بين رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس الحكومة الاسرائيلية، والأدلة والبراهين حول توترها وبلوغها حد الانفجار كثيرة. بعضها قديم وأخرى طازجة، بدء من اتهام شارون محمود عباس بالتردد في محاربة “الارهاب” وانتهاء بفشل عقد لقاء ثنائي قبل سفر عباس الى واشنطن ولقاء الرئيس بوش يوم 20 تشرين الاول /اكتوبر الجاري. وإذا كان المراقبون والمتابعون لمراحل تطور، والادق تدهور، العلاقة بين الرجلين لا يقرأون في الصحف ولا يسمعون في الاذاعات ولا يشاهدون على شاشات التلفاز معارك كلامية حامية حول الأزمة وقضاياها الكبيرة أو الصغيرة، على غرار ما كان يحصل في عهد الرئيس عرفات، فالامر يعود من جهة، لطبيعة ابو مازن الذي يكره المهاترات الاعلامية والخبطات الصحفية، وعدم قدرة شارون من جهة أخرى على اتهام عباس برعاية الارهاب وشن حملة علنية مكشوفة ضد رجل ظلت مواقفه من مسألة صنع السلام الفلسطيني الاسرائيلي معروفة، قبل وبعد انتخابه رئيسا للسلطة. ولم يخفي ابو مازن يوما، منذ مؤتمر مدريد عام 1991 وحتى ابان حملته الانتخابية، معارضته القوية لاعتماد العمل العسكري بصنوفه المتعددة وسيلة لتحقيق الاهداف الفلسطينية.
الى ذلك، لا خلاف بين قوى السلطة والمعارضة حول تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتردي العلاقات بين أجهزة الأمن الفلسطينية والاسرائيلية، ويحمل الفلسطينيون اسرائيل مسؤولية التدهور والتردي، ولا يعفون ادارة بوش من المسؤولية. وصار معظمهم مقتنعين بأن أفق صنع السلام مع اسرائيل مقفل الى اشعار آخر طالما ظل شارون رئيسا للوزراء، وظلت أحزاب اليمين والقوى المتطرفة تمسك بزمام الحكم في اسرائيل، وبقيت الادارة الامريكية تساند مواقف شارون. وتجمع القوى الوطنية والاسلامية على ان القيادة الاسرائيلية بزعامة شارون ماضية في تنفيذ مشروع “ليكود” المبني على استعمار الشعب الفلسطيني وافقاره وتهجيره وسرقة أكبر مساحة من أرضه وتهويد مدينة القدس. ويجد شارون في ضعف النظام العربي وتبعثر قواه، وضعف أنصار السلام في إسرائيل، ومتانة العلاقة الاسرائيلية الامريكية وتوطدتها بعد أحداث 11 سبتمبر، فرصة نادرة لتسريع تنفيذ المشروع. وأظهر شارون براعة في اخفاء نواياه وفي خلق الذرائع والمبررات لاعماله العدوانية، وكثيرا ما وفرها له الفلسطينيون أنصار العمل العسكري والعمليات “الانتحارية” ضد المدنيين الاسرائيليين.
الى ذلك، تحاول السلطة في عهد ابو مازن عرقلة هذا المشروع والحد من سرعة تنفيذه على الأرض وتعمل على تقليص خسائر الفلسطينيين البشرية والاقتصادية والسياسية قدر المستطاع. ويعترف أركان السلطة خاصة الأمنيين منهم أن قدرات الاجهزة الأمنية محدودة وتجعلها عاجزة عن وقف تمدد هذا المشروع على الأرض ونزع الذرائع التي يسوقها شارون لنهب الأرض وبناء الجدار وتوسيع المستوطنات. ويعترفون بان هذا الفشل يعمق أزمة المؤسسة الأمنية مع الذات ومع الناس، ويزيد في تآكل رصيد الاجهزة والسلطة ورئيسها في الشارع وفي صفوف القوى المنظمة. والفلسطينيون سلطة ومعارضة مقتنعون بان ليس في الأفق ما ينبؤ بتحسن العلاقة بين عباس وشارون او بين الحكومتين أقلة من الآن وحتى الانتهاء من الانتخابات الاسرائيلية نهاية العام القادم، ولا شفاء للوضعين الأمني والاقتصادي في عهد شارون، ويرون أن الأزمة مع الجانب الاسرائيلي تتجه في الاسابيع والشهور القادمة نحو التفاقم وليس نحو الانفراج، وبوادر تدهور العلاقة بدأت تظهر في العقوبات الجماعية الفاشية التي شرع الجيش الاسرائيلي في تطبيقها على الارض بعد العمليتين العسكريتين اللتين نفذتا مؤخرا في منطقة بيت لحم ونابلس ضد المستوطنين واعلنت كتائب شهداء الاقصى التابعة لحزب السلطة “فتح” المسؤولية عنهما.
وبرغم الحديث الكثير، قبل العمليتين عن استعادة الثقة واستئناف اللقاءات بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي وكثرة الاجتماعات على مختلف المستويات الأمنية والسياسية وتفعيل اللجان المشتركة المنبثقة عن “خارطة الطريق”، واحتمال عقد قمة جديدة بين عباس وشارون..الخ فاني أعتقد ان لا أمل بخروج عملية السلام والعلاقات الفلسطينية الاسرائيلية من النفق المظلم الذي دخلته في مرحلة بارك ـ عرفات بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد وانفجار الانتفاضة عام 2000 وفوز حزب “ليكود” بالسلطة عام2001، حتى إذا عقدت قمة جديدة بين عباس وشارون بعد عودة الأول من واشنطن. ويبدو ان السلام الفلسطيني الاسرائيلي وعلاقات الطرفين سوف يبقيان غارقان في ظلام النفق فترة طويلة بانتظار انقشاع استراتيجية التريث والانتظار الامريكية. ويتردد بعض المراقبين والواقعيون الفلسطينيون في وصف الحال بأنه الأسوء منذ اتفاق أوسلو لان التجربة أكدت لهم أن هناك دائما ما هو أكثر سوءا من الأسوء في ظل الإحتلال. واعلان القيادة الاسرائيلية رسميا، بعد العمليتين، تجميد اللقاءات والاتصالات الأمنية والسياسة مع الجانب الفلسطيني وضمنها الغاء فكرة عقد لقاء بين عباس وشارو جاءت تؤكد هذا الاستخلاص.
لقد واجه ابو مازن منذ تولى زمام السلطة الفلسطينية مطلع العام الجاري 2005 عقبات كثيرة وكبيرة، وتمكن بالاستناد الى الدعم الوطني والاقليمي والدولي الذي تلقاه من تذليل بعضها، لكن عقبات أخرى كبيرة بقيت في طريقه تعرقل حركته نحو تحقيق برنامجه: العقبة الاولى الكداء تتمثل في موقف شارون وأركانه السلبي من السلطة ومن رئيسها عباس وتوجهاته، ومعاداتهم القوية لعملية السلام والاتفاقات التي انبثقت عنها. وتكمن خطورة هذا الموقف الليكودي في كونه موقفا ثابتا جامدا ينبع من قناعة أيدلوجية راسخة مقرونة بعقد تاريخية، وأصحابه مصممون على تنفيذ قناعتهم وفق ما يسموه مصالح اسرائيل الاستراتيجية، وهذه التوجهات السياسية والأمنية تحظى بتأييد أغلبية اسرائيلية ودعم أمريكي واسع.
ورغم نجاح أبو مازن في بداية عهده في اقناع القوى الوطنية والاسلامية بالتهدئة، وعمل “هدنة” من طرف واحد ساعده في بلورتها وتثبيتها مدير المخابرات المصرية الوزير اللواء عمر سليمان، ووافقت عليها حماس وجميع الفصائل الوطنية والاسلامية، ولا تزال الهدنة صامدة، ظل شارون يرفض استئناف العملية السياسية، وواصل عرقلة جهود عباس في السيطرة والامساك بزمام الوضع. وعمل شارون كل ما يساهم في اضعاف محمود عباس في الشارع الفلسطيني وداخل حزبه “فتح” وفي العلاقة مع باقي أطراف النظالم السياسي الفلسطيني سلطة ومعارضة.
وفي قمة “شرم الشيخ” التي عقدت بتدبير أمريكي مطلع شباط الماضي، اي بعد شهر من انتخاب عباس رئيسا للسلطة، وشارك فيها الرئيس المصري حسني مبارك وملك الاردن عبد الله الثاني، وافق شارون على ما اصطلح تسميته “تفاهمات شرم الشيخ”، التزم فيها؛ استئناف المفاوضات مع الجانب الفلسطيني، تطبيق “خريطة الطريق” التي توصلت اليها اللجنة الرباعية الدولية، سحب الجيش الاسرائيلي من المدن الفلسطينية اريحا وطولكرم وقلقيلية ورام الله وبيت لحم، وتسليمها تدريجيا للسلطة الفلسطينية، اطلاق سراح دفعة جديدة من المعتقلين.عودة مبعدي أحداث كنيسة المهد في بيت لحم الى بيوتهم وقراهم، وقف المداهمات والاغتيالات والاعتقالات، تخفيف الحواجز على الطرق وتسهيل حياة الناس، وتوفير مرور آمن بين الضفة والقطاع وزيادة فرص العمل في اسرائيل.
وحصل شارون على موافقة الرئيس مبارك والملك عبد الله الثاني على عودة سفيري مصر والاردن الى تل أبيب وقطفها بسرعة. واستبشر المتفائلون في الشارع الفلسطيني بانحسار أزمة العلاقة بين السلطة واسرائيل بعدما بلغت ذروتها في عهد عرفات. لكن شارون خيب أمل الجميع وواصل عمليات المداهمة ووسع دائرة الاعتقالات، ونقض وعده للرئيس مبارك والملك عبد الله الثاني ولم ينفذ “التفاهمات” التي التزمها ولم يقدّر قيمة مبادرتهما في اعادة السفيرين، واستصغر شان وفاء أبو مازن بالتزاماته ونجاحه في عمل “الهدنة” من جانب واحد. وظل شارون على موقفه بشأن الاسرى والمعتقلين ورفض التعهد بعدم التعرض لأمين عام الجبهة الشعبية احمد سعدات وزميله العميد فؤاد الشوبكي في حال اخلي سبيلهما، وهدد شارون باعتقال عددا من قادة أجهزة الامن الفلسطينية ووضعهم في السجن “الدولي” حيث يقيم سعدات والشوبكي منذ اكثر من ثلاث سنوات.
ولم يتوقف شارون عند هذا الحد من السلبية والغطرسة، وصعد هجومه ضد محمود عباس واتهمه بالضعف والتراخي في محاربة الارهاب وبجميع التهم الأخرى التي ألصقها بعرفات. وواصل الادعاء بغياب الشريك الفلسطيني واستمر في عمل ما يحلو له بشكل أحادي الجانب. وواصل بناء الجدار في عمق الضفة الغربية ونشط حركة الاستيطان واستولى على مزيد من الاراضي، وتابع تنفيذ سياسة المداهمات والاغتيالات والاعتقالات، واعتقل مئآت الكوادر الشابة ضمنهم كوادر ينتمون لحزب الرئيس عباس. وأمعن شارون في إضعاف رئيس السلطة الفلسطينية واحراجه، وزاد في عدد الحواجز على الطرقات وأوقف الحركة بين الضفة وقطاع غزة، ومنع العمال الفلسطينيين من العمل في إسرائيل وشل جهود عباس لتوفير الأمن والخبز للناس. ولم يأبه شارون بزيادة الفقر والجوع في صفوف الفلسطينيين، ولا بالأضرار التي تلحقها مواقفه العدوانية بسلطة عباس والاتجاهات الفلسطينية الواقعية.
ورغم هذه المواقف الاستفزازية المتعمدة والمكشوفة لم تتدخل ادارة الرئيس بوش ولا دول الاتحاد الاوروبي لارغام شارون تنفيذ التزاماته في “تفاهمات” شرم الشيخ و”خريطة الطريق” الدولية. وطالبت السلطة الفلسطينية ورئيسها عباس والرئيس مبارك والملك عبد الله الثاني بالصبر على شارون التريث ريثما ينتهي من تنفيذ “خطة الفصل” و”الانسحاب” والاخلاء من قطاع غزة وأربع مستوطنات في شمال الضفة. ولم تلزمه تنسيق “الخطة” مع الجانب الفلسطيني او اشراك طرف ثالث في تنفيذها. وأقصى ما فعلته اقنعت شارون، بعد جهد، بعقد لقاء مع رئيس السلطة والتفاهم حول القضايا المعلقة.
وفي اللقاء الذي عقده شارون مع ابو مازن في القدس في حزيران الماضي 2005 لم يكتف بتكرار مواقفه الرفضاوية الابتزازية بطريقة عنجهية، ورفع مستوى استفزاز ابو مازن وهاجم توجهاته السياسية والأمنية. وحاول هو ومساعديه ابتزازه ووجهوا له التهم ذاتها التي وجهوها لياسر عرفات، وأضافوا عليها صفات الضعف وعدم الحسم والتردد. وفي اللقاء ذاته ألقى شارون على رئيس السلطة الفلسطينية والوفد المرافق له محاضرة سخيفة حول كيفية تنفيذ الواجبات وسبل مكافحة الارهاب، تسببت في توتير اجواء اللقاء واستهلكت معظم الوقت. وبعد الاجتماع تابع شارون موقفه الاستفزازي وسرب للصحافة انه قام في اللقاء بدور المعلم مع التلميذ الذي يهمل واجباته البيتية.. ورفض شارون اطلاق سراح دفعة من المعتقلين القدامى طلبها ابو مازن شخصيا. واعترض على تعزيز قدرة أجهزة الامن الفلسطينية ورفض تسليمها معدات عسكرية قدمتها روسيا هدية للسلطة الفلسطينية، ضمنها عربات مصفحة وبنادق وذخائر هي في أمس الحاجة اليها. ورفض شارون سحب الجيش الاسرائيلي من مدن بيت لحم وقلقيلية وهدد بالعودة الى شوارع مدينة اريحا، التي اخلاها، وأعاد موفاز وزير الدفاع جنده ودباباته الى شوارع مدينة طولكرم ورفع وتيرة مداهمات المدن الاخرى.
ولاحقا، أصر شارون واركانه الامنيين على عدم تنسيق “خطة الفصل” و”الانسحاب” والاخلاء من قطاع غزة مع سلطة عباس، وحصروا التنسيق في مساءل أمنية تفصيلية تمس أمن الجيش الاسرائيلي والمستوطنين ولا علاقة لها بأمن الفلسطينيين من قريب او بعيد. وبناء على أوامر شارون خرج الجيش الاسرائيلي من القطاع ولم يدمر “الكنس” وحمّل شارون وزير خارجيته سلفان شلوم عباس وسلطته مسؤولية تدنيس وتدمير أماكن العبادة اليهودية، وظهرا أمام الفلسطينيين وكأنهما يشجعان المستوطنين على الرد وتدنيس اماكن العبادة الاسلامية، وارتفع القلق الفلسطيني حول المسجد الاقصى في القدس والحرم الابراهيمي في الخليل.
وأبقى شارون جملة من المساءل الحيوية معلقة لابتزاز عباس واحراجه أمام شعبه. اخطرها تجميد الحركة في معبر رفح على الحدود المصرية وتعطيل استكمال بناء الميناء وتشغيل المطار، وابقى الممر الآمن بين الضفة والقطاع مغلقا..الخ وما زال الجانب الاسرائيلي يصر على الاستمرار في السيطرة بصيغة او أخرى على المعابر البرية والبحرية والأجواء الفلسطينية في قطاع غزة، ويرفض السماح للسلطة بتشغيل المعبر الوحيد “رفح” الذي يوصل قطاع غزة بالعالم، ولا تزال هذه المسألة الحيوية للناس معلقة تسيء يوميا الى سمعة ابو مازن وأجهزة أمن السلطة، حيث يضطر المواطنون الى البقاء ايام طويلة في العراء ريثما يسمح لهم بالعبور من والى القطاع، كان شيئا لم يتغير.
الى ذلك، أكدت وقائع الحياة ان العقبة التي يمثلها شارون في وجه ابو مازن تضخمت أكثر بعد خطوة “الانسحاب” من القطاع وزادت في المشاكل الفلسطينية الداخلية. ورفع شارون سقف مطالبه الأمنية، بعضها تعجيزي يعرف ان رئيس السلطة لا يملك الامكانات اللازمة تنفيذها: يطالب عباس بالسيطرة على الوضع في قطاع غزة بعد “الانسحاب وتدمير البنية التحيتة للقوى التي يسميها “إرهابية”، ويرفض تنفيذ اي خطوة عملية تعزز مكانة عباس والسلطة في الشارع، ويهدد بتعطيل الانتخابات التشريعية اذا سمح لحركة حماس المشاركة فيها. يطالب تجريد حماس من اسلحتها وفرض رقابة صارمة على “الصناعات العسكرية” في القطاع ومنع المعارضة من تطوير “ترسانتها” الحربية.. الخ من الحديث المبالغ فيه، ويرفض السماح للسلطة باعادة تسليح الشرطة، ولا يجيب على سؤال ماذا بعد خطوة “الفصل” و”الانسحاب” والاخلاء التي نفذت في القطاع وشمال الضفة.
يتحدث شارون عن ضرورة تشغيل 50 ألف رجل مفرغين للعمل في الميدان الشرطي والامني في محاربة الارهاب، ويعطى دروسا في الموضوع باعتباره الجنرال الخبير، وينسى ان نسبة كبيرة من العاملين في الاجهزة الامنية استوعب زمن عرفات في اطار التنفيع ومكافحة البطالة بعد ان أغلق شارون نفسه باب العمل في وجوههم، ومنعهم من العمل في اسرائيل ومن مغادرة القطاع. صحيح ان آخرون في الشرطة الفلسطينية هرموا وشاخوا وظل عرفات يرفض إحالتهم على التقاعد لاعتبارات اقتصادية و”ثورجية” خلاصتها “ان هدف الدولة الفلسطينية لم يتحقق والدولة لم تقوم والثورة مستمرة ولا تقاعد زمن الثورة”. لكن شارون نفسه نسي والادق يتناسى انه قتل وجرح أعدادا كبيرة من الشرطة ومن العاملين في باقي اذرع المؤسسة الامنية، وحبس بعضهم ودمر مقراتهم وحطم معنوياتهم وهز صورتهم أمام شعبهم.
والآن، بعد أقل من عام على رحيل عرفات وتولي ابو مازن رئاسة السلطة، لم يبق أحد في الشعب الفلسطيني وانصار السلام في اسرائيل يصدق ان مواقف شارون الاستفزازية العدوانية زمن عرفات كانت تكتيكا في مواجه “الشيطان الأكبر” “زعيم الارهاب”، خصوصا أن غياب عرفات عن المسرح لم يعيد شارون واركانه للصواب. ولم يوقفوا أعمالهم الفاشية وانما توسعت وزادت خطورة، وظهر ان عدوانية شارون ضد عباس والاتجاهات الديمقراطية والتوجهات الواقعية الفلسطينية لا تقل عن العدوانية التي أظهرها ضد عرفات وضد “التطرف” و”المتطرفين” وضد التوجهات “الارهابية” حسب تصنيفه. ويعتقد كثير من الفلسطينيين ان معاداة شارون لعباس تختلف في الشكل عن معاداته لعرفات، وتخلو من العنصر الشخصي، لكنها في المضمون أخطر، ومنطلق عدوانيته هو كرهه للسياسة الفلسطينية الواقعية ومعاداتها لانها تشق الطريق الى البيت الابيض والرأي العام العالمي وتنهي احتكار اسرائيل للعلاقة مع أركان هذا البيت.
الى ذلك، يخطئ من يعتقد أن شارون الذي لم ينفذ “تفاهمات” شرم الشيخ قبل تنفيذ “خطة فك الارتباط، في قطاع غزة وقبل رحلة عباس الى واشنطن سوف ينفذها بعد فشل لقائه بمحمود عباس وبعد عودة عباس من واشنطن، خاصة اذا عاد بخفي حنين خالي اليدين كما هو متوقع. ولا مصلحة لشارون في الاقدام على خطوة اشكالية تعمق الانقسام داخل المجتمع الاسرائيلي، وتجلب له متاعب حزبية اضافية داخل ليكود تزيد في اهتزاز وضعه. وشارون واركانه السياسيين والامنيين يعرفون ان اي “انسحاب” و”اخلاء” لمستوطنات في الضفة يثير اشكالات كبيرة تختلف عن الاشكالات التي واجهوها عند تنفيذ “خطة الفصل” في قطاع غزة، وان هكذا خطوة تمس العقيدة وتستفز فئات واسعة من قواعد وكوادر ليكود، ويستنفرها ضده شخصيا ويدفعها الى الالتفاف حول نتنياهو وبرنامجه.
ويكافح محمود عباس رئيس السلطة رئيس منظمة التحرير، على جبهات عديدة، من أجل تنفيذ برنامجه الذي على أساسه نال ثقة أغلبية الشارع الفلسطيني. ولم يتوقف منذ توليه السلطة عن مقاومة محاولات شارون نسف مقومات قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، ويعمل بكل السبل لوقف نهب الارض وتعطيل استكمال بناء جدار الفصل العنصري وتحويله إلى حدود جيوسياسية. وهذه الحدود معروفة وتظهر بوضوح في خريطة يحاول شارون فرضها على الارض. وهي الخريطة ذاتها التي عرضها شارون على ابو مازن عام 2003 أثناء توليه رئاسة الوزراء. وتشمل “دولة” فلسطينية مؤقتة الحدود، تسيطر على 42% فقط من مساحة الضفة الغربية اضافة الى قطاع غزة. ويريد شارون ان يستمر هذا الحل الانتقالي المؤقت عشرة او خمسة عشر سنة. وقال في حينه شارون لعباس “أعرف انك لن ترضى بهذا المشروع، لكن أريد منك ان تطلع عليه”، ورد عباس إذا كنت متأكدا أنني لن أقبل به، فلا مبرر لأن أقرأه”.
وبرغم استفزازات شارون والمعوقات الكثيرة والكبيرة التي يضعها يوميا في طريق الحل السياسي، ظل عباس يؤمن بالمفاوضات استراتيجية وحيدة لتحقيق الأهداف، ويرفض العودة الى خيار الكفاح المسلح، ويعارض بشدة العمليات “الانتحارية”، ويعمل على نزع الذرائع التي يستخدمها شارون في وأد عملية السلام وتعطيل الانتخابات التشريعية. وعندما حان وقت تنفيذ خطة “الانسحاب” والاخلاء من قطاع غزة وأربع مستوطنات في شمال الضفة سهل ابو مازن على الجيش الاسرائيلي تنفيذ “الخطة”، وأمن له وللمستوطنين انسحابا هادئا سلسا ولم يتعرضوا الى طلقة واحدة، والمهم أن يرحلوا عن ارضنا كما قال. ولم يتوقف عباس طويلا عند استفزازات شارون واصراره على تنفيذ الخطوة من جانب واحد، واعتبرها تفاصيل ذو مدلولات خطيرة لكنها لا تغير في جوهر التراجع الاستراتيجي في اللمشروع الصهيوني القديم.
ويؤمن ابو مازن واركان السلطة ان نواقص وثغرات الاخلاء و”الانسحاب” لا تلغي حقيقة ان خروج جيش الاحتلال والمستوطنون من قطاع غزة وتدمير المستوطنات انجاز وطني استراتيجي، أدى الى تحرر أكثر من مليون وربع مليون فلسطيني من ظلم وقهر المحتل، اضافة الى تحرير مساحة عزيز من الأرض، وهذا الانجاز يمثل سابقة يمكن استخدامها، يوما ما، في المفاوضات حول مصير الاستيطان، ويفتح افاقا واقعية لعمليات اخلاء وانسحابات أخرى في الضفة.
وبغض النظر عن دوافع المؤسسة الامنية الاسرائيلية ونوايا شارون في تنفيذ خطة “الانسحاب” من جانب واحد فان عباس واركان القيادة الفلسطينية مقتنعون بأن الانسحاب من قطاع غزة تم نتيجة صمود الشعب الفلسطيني في أرضه، وتوصل شارون واركانه السياسيين والامنيين بعد 38 من الاحتلال والصراع الى قناعة خلاصتها: قطاع غزة بكثافته البشرية ومساحته الضيقة لن يكون جزءا من دولة اسرائيل في أي اتفاق للتسوية الدائمة، ولا أمل في تأمين أغلبية يهودية فيه.
ولا أوهام عند عباس والقيادة فلسطينية بان شارون سوف يقوم بخطوة “انفصال” جديدة في الضفة الغربية قبل الانتخابات الحزبية منتصف العام القادم أو انتخابات الكنيست اواخر العام ذاته 2006، تكون نتيجتها خسارة مزدوجة في الحزب والحكومة ووصمه في نهاية حياته بالخيانة. ويرجح ان يسعى شارون لعمل المستحيل خلال الشهور القادمة لتنفيذ ما يمكن تنفيذه من مقولته: “بعد الخروج من غزة سنوجه طاقاتنا لتعزيز الوجود اليهودي في الجليل والقدس الكبرى والكتل الاستيطانية في الضفة الغربية، ونقوي وجودنا في المناطق الأمنية في غور الأردن”. وبديهي القول ان شارون واركانه سوف يعملون لتشويه صورة ابومازن في حقل السياسية الدولية لتغطية نواياهم الحقيقية وتخريب علاقة ابو مازن باركان الادارة الامريكية. ولن يرتاح بال شارون قبل اسقاط نهج الاعتدال في الساحة الفلسطينية واغلاق باب البيت الابيض في وجهه عباس. ويأمل الواقعيون في الساحة الفلسطينية ان لا يقدم أنصار العمل العسكري والعمليات “الانتحارية” في الساحة الفلسطينية مبررا لشارون واركانه لتغطية مواقفهم المعادية لحقوق الانسان الفلسطيني وتعطيل الانتخابات التشريعية. وان لا يساهموا في تشويش علاقة عباس والسلطة بالادارة الامريكية ورئيسها.
رحيل عرفات وصعود عباس لم يغير جوهر موقف بوش
والعقبة الرئيسية الثانية التي تواجه ابومازن هي موقف الرئيس الامريكي جورج بوش واركانه تشيني ورامسفيلد وغونداليزا رايس، الداعمة، دون تحفظ، لسياسة شارون وتوجهات القوى الاسرائيلية المتطرفة وتساند اسرائيل ظالمة او مظلومة. صحيح ان الرئيس بوش اخذ في بداية ولايته الثانية، وبعد رحيل ياسر عرفات، جملة مواقف ايجابية منها: أعاد العلاقة والاتصالات مع السلطة الفلسطينية وانهى القطيعة التي فرضها أواخر زمن عرفات، وفتح أبواب البيت الابيض أمام محمود عباس واستقبله في مكتبه أكثر من مرة. وأكد تمسكه “برؤيته” الداعية الى قيام دولة فلسطينية بجانب اسرائيل، وتمسك ب”خريطة الطريق” التي وضعتها اللجنة الرباعية الدولية لتحقيق هذه الرؤية، واعتبر بوش خطة شارون للانفصال “جزء من عملية سياسية يجب ان تتواصل بعد الانسحاب من غزة”..الخ لكن الصحيح ايضا ان هذه المواقف الاميكية الموضوعية لم تشق طريقها للحياة وتوقف الحديث فيها وعنها لصالح خطط شارون وتوجهاته. وحلت “خطة الانفصال” عمليا محل “خريطة الطريق”، وواصل شارون قضم أرض الدولة الفلسطينية التي تحدث عنها بوش قطعة قطعة ،ومضى جدار الفصل العنصري يتلوى في عمق الضفة الغربية يفصل في المدن الأحياء بعضها عن بعض، ويفصل في الريف القرى عن بساتينها.
والفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات مقتنعون بأن الدعم السياسي الذي قدمته إدارة بوش لاسرائيل في عهد شارون لم تقدمه أية ادارة أمريكية سابقة وانها مست حقوق الانسان الفلسطيني التي اقرتها الشرعية الدولية، وتجاوزت القواعد والأسس القانونية والسياسية التي قامت عليها عملية السلام، والتي كان يمكن أن توصل الطرفين يوما ما إلى معالجة نزاعهما المزمن وجلب الأمن لاستقرار لشعوب المنطقة.وأكدت وقائع العلاقة الفلسطينية الامريكية والفلسطينية الاسرائيلية ان كلام بوش الجميل عن الحق الفلسطيني ليس مطروحا للتنفيذ وقابل للتعديل والتبديل كل لحظة في تل ابيب، وغير مطروح للصرف والتنفيذ في الأمم المتحدة أو أي مكان آخر.
والتجربة علمت الفلسطينيين قيادة وشعب التعامل بحذر مع كلام بوش الجديد، الحالي أو اللاحق، حول دعم سلطة محمود عباس وقيام الدولة الفلسطينية بجانب اسرائيل، واعتباره كلاما سريع التبخر مثل بقية الكلام الأمريكي الكثير الذي سمعوه من بوش نفسه في ولايته الاولى ومن إدارات امريكية سابقة. وإعلان بوش في نهاية ولايته الأولى تأجيل موعد تنفيذ “رؤيته” الى نهاية ولايته الثانية عام 2008 أكد شكوك الفلسطينيين وبعث في نفوسهم قلقا من تأجيل ثاني في نهاية الولاية الثانية وتحميل الجانب الفلسطيني مسؤولية احباط تنفيذ رؤية بوش كما حمل الرئيس السابق كلينتون عرفات مسؤولية فشل مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 وافشال “مبادرة كلينتون” التي سحبها من ارشيف البيت الابيض قبل مغادرته. ويستذكر بعض الفلسطينيين التعهدات الأمريكية التي قدمتها إدارة الرئيس ريغان لحماية المخيمات الفلسطينية في لبنان عام 1982، والتي لم تمنع شارون نفسه من ارتكاب المجزرة الشهيرة في صبرا وشاتيلا.
الى ذلك، يعتبر الفلسطينيون رسالة التعهدات الخطية التي سلمها الرئيس بوش لصديقه شارون في أيار/مايو 2004 ، وصادق عليها الكونغرس الامريكي والكنيست الاسرائيلي تشبه وعد وزير خارجية بريطاني “بلفور” المشئوم الذي أعطاه لقيادة الحركة الصهيونية قبل 88 سنة. في الوعدين أعطى من لا يملك من لا يستحق،ولم يتوقع أكثر الفلسطينيين تشاؤما أن يرقى موقف بوش لهذا المستوى من الاستخفاف بالقانون الدولي وقرارات الامم المتحدة وحقوق الانسان الفلسطيني.وحتى الآن لم يفكر بوش في اعادة التوازن للموقف الامريكي، ولم يحظى الفلسطينيون بورقة رسمية في عهده يتعهد لهم احترام قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالنزاع وحل قضية اللاجئين حلا عادلا، ويؤكد التزام ادارته تنفيذ القرار 242 اقامة دولة فلسطينية على الاراضي التي احتلت عام 1967، قبل رحيله من البيت الابيض.
حقا، لقد أعطى بوش الذي لا يملك الارض ولا الحق شارون الذي لا يستحق. ولم يحترم بوش مبدأ الشراكة الذي قامت عليه عملية السلام وحدد الموقف الأمريكي من قضايا الحل النهائي سلفا ودون التشاور مع والقيادة الفلسطينية، علما انها الطرف الوحيد المعني بمعالجة هذه القضايا قبل شارون او اي طرف آخر. ورسم بوش مقدما دور إدارته في المفاوضات حال استئنافها حول القدس واللاجئين والاستيطان والحدود والمياة، وحسم أمر هذه القضايا دون مناقشة الطرف الفلسطيني والعربي: بجملة واحدة حسم مصير خمسة ملايين لاجئ فلسطيني مشتتين في الدول العربية المحيطة بفلسطين وانحاء اخرى من العالم ينتظرون حلا عادلا لقضيتهم، وحرمهم بوش من حقوق أقرتها هيئة الامم المتحدة. وشطب بجرة قلم قرار الجمعية العامة رقم 194 الذي تحدث عن حق اللاجئين في العودة والتعويض. وتجاوز قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بهذه الحقوق. ولم يكتفي بذلك وأكد التزام الولايات المتحدة بقوة بقاء إسرائيل دولة يهودية وقال: “يجب ايجاد إطارا منطقاي عادلا ومتفق عليه لحل موضوع اللاجئين الفلسطينيين من خلال إقامة دولة فلسطينية وتوطينهم هناك بدلا من إسرائيل”.علما انه وأركانه يعرفون أن لا أحد في صفوف السلطة الفلسطينية وأنصار السلام يريد تدمير إسرائيل عبر إغراقها بقرابة اكثر من خمسة ملايين لاجئ. وفي كل الأحوال، ليس من حق الرئيس الأمريكي تقرير قضية بهذا الحجم دون التشاور مع القيادة الفلسطينية والدول العربية المعنية بقضية اللاجئين. ومحاولة بوش فرض “رؤيته”الغريبة العجيبة لحل قضية اللاجئين والمتعارضة مع “رؤية” الشرعية الدولية قد يتسبب في زعزعة استقرار بعض دول المنطقة التي يعيش فيها مئات ألوف وملايين اللاجئين.
وفيما يتعلق بالاستيطان، تجاوز الرئيس بوش الموقف الأمريكي الذي ظل يعتبر المستوطنات في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة عقبة في طريق السلام. وأضفى شرعية على مبدأ الاستيطان، واستيلاء اسرائيل على اراضي الغير بالقوة، وبارك سياسة الأمر الواقع التي فرضها شارون. واعتبر المستوطنات “مراكز تجمعات سكانية إسرائيلية”، وتحدث عنها باعتبارها حقائق ثابتة يصعب تغييرها ويجب التسليم بها. وأباح مواصلة الاستيطان حسب تقديرات شارون وأعطاه حق التوسع وتغيير حدود عام 1967 وعدم العودة اليها، وضم مستوطنات قائمة على أراضي الغير، وقال: “كجزء من تسوية السلام النهائي يجب أن تكون لإسرائيل حدود أمنة ومعترف بها ومن غير الواقعي التوقع بأن نتيجة مفاوضات الحل النهائي ستكون عودة كاملة وتامة حتى حدود العام 1949″. علما ان إدارة الامريكية في عهد “والده” بوش ووزير خارجيته بيكر رفضت في رسالة الدعوة لمؤتمر السلام في مدريد ورسائل الضمانات التي قدمت للاطراف التي شاركت في المؤتمر، الاعتراف بأي تغيير تحدثه إسرائيل من جانب واحد في الحدود وضمنها حدود مدينة القدس البلدية. والرئيس الفرنسي شيراك قال ردا على موقف بوش الابن هذا “إن التلاعب وفقا للظروف أو الأشخاص بالاستقرار الدولي وبقواعد القانون الدولي يشكل سابقة خطيرة مؤسفة”. ولم يوضح بوش أسباب تجاهله قرارات محكمة العدل الدولية المتعلقة بالحدود والاستيطان ووضع مدينة القدس.
ولم يتوقف بوش عند هذه الحدود وطالت “ضماناته” لاسرائيل أسس عملية السلام ونسفت مضمون رسالة الدعوة الأمريكية “السوفيتية” لمؤتمر مدريد ورسالة التطمينات الأمريكية التي قدمتها الادارة الامريكية للفلسطينيين عام 1991، والتي أكدت في فقرتها الخامسة على “مبادلة الأرض بالسلام وانسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلت عام 1967″. واعترفت رسالة الضمانات بأن “الفلسطينيين شعب له الحق في السيطرة على قضاياه السياسية والاقتصادية وأية قضايا تقرر حياتهم ومصيرهم”.
وبجانب تجاوز رسالة الضمانات والتزامات الادارات الامريكية السابقة، ظل بوش يؤكد مساندة مواقف إسرائيل وسعى لتلبية رغباتها في كل المجالات. ولشدة إعجاب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بشخصية صديقه رئيس الحكومة الإسرائيلية وأفكاره الخلاقة، وحاجته لدعم اللوبي الإسرائيلي في أمريكا، أباح زعيم أقوى دولة ديمقراطية في العالم، في مرحلة سابقة، لشارون فعل ما يريد ضد الفلسطينيين سلطة وشعبا وأرضا وممتلكات. ومنحه شهادة رجل سلام، واثنى على حبس شارون لعرفات الزعيم الفلسطيني المنتخب في مقره في رام الله. وفي تلك المرحلة أدرج بوش سياسة تعذيب النساء والشيوخ والأطفال على الطرقات وتدمير المنازل وجرف الاراضي وقطع الأشجار وبناء الجدار وحصر الشعب الفلسطيني في معازل وكنتونات تحت بند حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب. وأباح بوش لشارون قتل الفلسطينيين عندما قال علنا: “ستحتفظ إسرائيل بحقها في الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب بما في ذلك اتخاذ إجراءات ضد منظمات إرهابية”. وفسر شارون واركانه الامنيين هذا التصريح على انه أجازة امريكية مفتوحة تبيح لهم تدمير التنظيمات والحركات السياسية والاجتماعية التي تصنفها إسرائيل إرهابية، وقتل واغتال من طالته يداه من قادة وكوادر الحركة الفلسطينية صنفهم بالإرهابيين. ولا أدري إذا كان أركان الرئيس بوش قد أوضحوا لرئيس الحكومة الاسرائيلي وأركانه، بعد رحيل عرفات، أن الرئيس عباس مستثنى من هذا الإذن المفتوح، وما حصل مع عرفات في آخر عامين من حياته يمنع التفكير في تكراره مع عباس.
وفي عهد عباس لم يتردد رئيس الولايات المتحدة الأمريكية واركانه في تأييد شروط شارون التعجيزية لاستئناف المفاوضات. وتبنوا مقولة شارون “توفير الأمن لاسرائيل ومحاربة الارهاب أولا”، مثلما “اقتنعوا” بموقف شارون في عهد عرفات وأيدوا تجميد القيادة الاسرائيلية المفاوضات مع السلطة الفلسطينية وادرجوا التجميد في خانة الحرب ضد الإرهاب والإرهابيين. واعتبروا وقف العمل “بخريطة الطريق” وتجميد عمل اللجنة الرباعية وانتهاج اسرائيل خطط أحادية الجانب، يخدم صنع السلام في المنطقة ولم يغيروا موقفهم هذا في عهد عباس..! ويتبنى بوش واركانه مطالب شارون من عباس بان يثبت اولا النجاح في محاربة الإرهاب قبل الحديث عن الحديث عن استئناف المفاوضات. ويصرون على ان ينفذ ابومازن إجراءات تفوق طاقته وطاقات حزبه “فتح” وطاقة أجهزة الأمن الفلسطينية، ويطالبوه بتجريد حماس من أسلحتها وتدمير بنيتها التحتية، ويتجاهلون نتائجها المدمرى لسلطة عباس وحزبه، وينسون ان شارون أضعف “فتح” ودمر أجهزة الأمن الفلسطينية وللان يرفض تمكينها من تعزيز قدراتها القتالية والفنية.
الى ذلك، اعلن بو ش من البداية تأييد خطة “صديقه” شارون بشأن الانفصال وإعادة الانتشار في قطاع غزة من جانب واحد وقال: “أدعم الخطة التي اعلنها رئيس الوزراء شارون لسحب المستوطنات من قطاع غزة وبعض أجزاء الضفة الغربية، وهذه الخطة شجاعة ويمكن أن تقدم مساهمة حقيقية نحو السلام”. قال ذلك رغم معرفته ان نوايا شارون صاحب “الخطة” سيئة، وانه رفض ربط الانسحاب من غزة مع “خريطة الطريق” ويريدها بديلا للخريطة ويخطط لفرض الحل النهائي الذي يريد من جانب واحد ومنع قيام الدولة الفلسطينية المتصلة والقابلة للحياة التي تحدث عنها بوش.
ولم يكتف الرئيس بوش بمساندة “خطة” شارون بل وفرضها على أطراف اللجنة الرباعية الدولية، و”أقنعهم” بتجميد حركتهم ريثما يتم تنفيذ “خطة الفصل” الشارونية، والتعامل معها باعتبارها خطة الإنقاذ الوحيدة المضمونة لعملية السلام. واكرمت ادارة بوش المستوطنين ووفرت لحكومة شارون الامكانات المالية لتعويضهم بسخاء. وألزمت البنك الدولي والمواطن الأمريكي دافع الضرائب وبعض الدول الصناعية شراء ممتلكات المستوطنين بالسعر الذي طلبه شارون وحدده زعماء المستوطنين. ولم يفكر بوش وأعوانه خبراء الاقتصاد للحظة في احتساب قيمة استغلال المستوطنون للأراضي الفلسطينية والمياه الشحيحة سنوات طويلة. كما لم يفكر للحظة في تطبيق الخطة ذاتها على مستوطنات الضفة الغربية وكانها مبنية في عالم آخر. ألم تكن مستوطنات قطاع غزة عزيزة على قلب شارون وزعماء اليمين والمستوطنين ؟ ألم يقل شارون نفسه يوما “لافرق عندي بين مستوطنة نتساريم في قطاع غزة ـ التيت حولت مجرد ذكرىـ ومدينة كفار سابا على شاطئ البحر شمال مدينة تل أبيب؟
وبعد تنفيذ الخطة من جانب واحد لم يدافع الرئيس بوش واركانه عن حق الفلسطينيين في حرية الحركة الى مصر وبقية العالم عبر معبر رفح، ولم يتحدثوا عن حقهم في تشغيل المطار الذي افتتحه الرئيس السابق كلينتون عندما زار قطاع غزة، وان يكون لهم أيضا ميناء. ولم يتدخل الرئيس المريكي واركانه لالزام شارون اعادة تشغيل الممر الآمن بين الضفة وقطاع غزة علما بان هذا الممر والمرور الامن للفلسطينيين مسألة مثبتة في الاتفاقات التي رعتها الادارات الامريكية السابقة.
وبصرف النظر عن النوايا فالنتيجة المباشرة لموقف الرئيس بوش الانتقائي من قضايا النزاع هو تعزيز التطرف في الساحة الفلسطينية وإضعاف محمود عباس وسلطته، واضعاف قوى السلام في الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وعدم الاكتراث بجهودهم ومصيرهم. ورغم ان بوش يعرف ان عباس يواجه مشاكل جمة وبحاجة الى مساعدة سريعة، الا انه يتردد في تقديم مساعدة ملموسة له ولا يمارس اي ضغط جدي على شارون وحكومته لوقف الأعمال التي تساهم في اضعاف عباس. وفي الوقت ذاته يسلط بوش وأركانه ضغطهم على الطرف الفلسطيني الضعيف، ويطالبون أبو مازن بالاصلاح ونشر الديمقراطية وينسون ان الأمرين وحدهما لا يوفران الخبز والأمن والاستقرار النفسي والاجتماعي للناس، ولا طعم ولا رائحة ولا لون لهما في ظل ارهاب الاحتلال وقهره.
الى ذلك، اعتقد ان قول بعض المحللين الاستراتيجيين ان ليس في الأفق ما ينبئ بتبدل جوهري في الموقف الأمريكي في العام القادم، عام الانتخابات الاسرائيلية، ليس فيه تجن على أحد. ويبدو ان كل ما قد تقوم به ادارة بوش في هذا العام هو ابقاء الوضع الراهن في الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي والعربي الاسرائيلي كما هو عليه من دون السماح بوقوع خضات او هزات او تحولات دراماتيكية كبيرة. ويخطئ من يعتقد أن حديث الرئيس بوش عن نشر الحرية والديمقراطية في العالم سوف يترجم بموقف امريكي يلزم شارون تعزيز انتشارهما في فلسطين. والفلسطينيون في الداخل والخارج مقتنعون ان تعمق ورطة إدارة بوش في المستنقع العراقي وتفجر ازمة جديدة مع سوريا يقربها أكثر من إسرائيل وأنصارها في الكونغرس.
صحيح ان دعوة الرئيس بوش رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لزيارة البيت الابيض ولقاؤه في 20 تشرين الأول 2005 لها أهمية كبيرة في هذا الوقت بالذات، الا اني لست متفائلا بنتائج هذه الزيارة، واستبعد أن تكرم ادارة بوش الرئيس محمود عباس على ما قام من اجل السلام خلال فترة ولايته القصيرة وانها سوف تستجيب لطلباته المتواضعة، وتلزم شارون احياء عملية السلام واستئناف المفاوضات السياسية، وتنفيذ “تفاهمات” قمة شرم الشيخ باعتبارها جزء من “خارطة الطريق” الدولية، وان تضغط لاطلاق سراح دفعة كبيرة من المعتقلين على أبواب الانتخابات التشريعية تضم الكوادر القيادية واعضاء المجلس التشريعي وفي مقدمتهم عبد الرحيم ملوح عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ومروان البرغوثي وحسام وجميع الراغبين في الترشح للانتخابات التشريعية المقررة مطلع العام القادم.
وفي جميع الحالات يجب ان يحصل عباس في زيارته، بالحد الأدنى، على تعهد من الرئيس بوش وأركان ادارته بوقف تدخل شارون في الانتخابات التشريعية ومنعه من تنفيذ تهديده بعرقلتها في حال مشاركة حماس فيها، لان التدخل الاسرائيلي فيها وعرقلة شارون يقويان مواقف حماس ويعززان الاتجاهات الفلسطينية المتطرفة ولا يضعفهما. وإذا كان من الصعب الآن تقدير النتائج البعيد لتعطيل الانتخابات التشريعية الفلسطينية، فنتيجتها المباشرة كارثة محققة على وضع السلطة ورئيسها عباس وعملية السلام.
وإحالة الرئيس المريكي الموضوع الى لقاء يعقده عباس وشارون هروب من تحمل المسؤولية تزيد في تعقيد الوضع وتضاعف الخسائر.
والقراءة الموضوعية لنتائج اللقائين السابقين الذين عقدهما عباس وشارون في القدس وشرم الشيخ وما تلاهما من أحداث سياسية وامنية، لا يبعث على التفاؤل بنتائج اللقاء الثالث إذا قدر له ان يعقد. خاصة ان سلوك الرجلين ومواقفهما تشيران الى أنهما لم يعودا شريكين في عملية سلام واحدة، وسوف يتوجهان الى اللقاء وهما يحملان أجندتين مختلفتين يصعب التوفيق بينهما: ابو مازن، يحمل ملفات كبيرة مترابطة الاول يتعلق بضرورة استئناف المفاوضات حول قضايا الحل النهائي القدس اللاجئين الحدود الاستيطان المياة ومستقبل العلاقة الامنية بين الطرفين. وآخر يتضمن كشفا بالخروقات الاسرائيلية ويحدد سبل تنفيذ “تفاهمات شرم الشيخ” خصوصا اطلاق سراح الاسرى و استكمال الانسحاب من المدن الخمس. والملف الثالث يحتوي مسائل يمكن تصنيفها في بند توابع “خطة الفصل” التي نفذت من جانب واحد في قطاع غزة. ومواد هذا البند كثيرة أهمها استكمال الانسحاب من اراضي قطاع غزة حتى حدود عام 1967، والتعويض عن استغلال المستوطنين الاراضي والمياه الفلسطينية، وفتح معبر رفح على الحدود مع مصر والمعابر الاخرى على الحدود الفلسطينية الاسرائيلية، وتشغيل مطار غزة، واستكمال بناء الميناء، والعلاقات التجارية والعمل في اسرائيل، الممر الآمن بين قطاع غزة والضفة الغربية.
بالمقابل يتوقع ان يكرر شارون معزوفته المعروفة حول ضرورة محاربة الارهاب والارهابيين وتجريد حماس من اسلحتها. ويتوقع ان يسترسل في الحديث حول تقصير السلطة في انجاز هذه المهمة وقد يقلل من ادبه كما فعل في لقاء سابق. وفي كل الاحوال سوف يبقى شارون مشدودا قبل وبعد وخلال الاجتماع مع عباس الى معاركه الداخلية خصوصة معركةالانتخابات داخل ليكود وانتخابات الكنيست، ولن يكترث بوضع السلطة ورئيسها. وسوف يركز شارون على انتزاع ما يحتاجه للفوز على خصومه وارضاء المتطرفين الاسرائيليين في ليكود والشارع لدعمه في الانتخابات القادمة.
وبجانب مشاكله مع بوش وشارون يواجه محمود عباس مشاكل وعقبات كبيرة على الجبهة الداخلية لا تقل خطورة عن الاشكالات الخارجية. أولها، ضعف ثقافة الديمقراطية في المجتمع الفلسطيني وصعود الافكار المتطرفة، ورفض حماس وقوى المعارضة التزام الديمقراطية كناظم للعلاقات الداخلة، واصرار هذه القوى على فرض مواقفها وتوجهاتها رغم انها لا تملك الشرعية وليست سلطة منتخبية وتمثل أقلية في المجتمع وفق نتائج انتخابات الرئاسة التي جرت مطلع العام الجاري 2005 وأيضا نتائج الانتخابات البلدية التي لم تستكمل حتى الان. والاشكالية الثانية الرئيسية التي تواجه عباس تتمثل في بعض من تراث ابو عمار، وترهل اوضاع الحزب القائد “فتح” وتأزم العاقة في صفوف قيادته وبروز صراعتها السياسية والشخصية على السطح، والثالثة، هي ضعف قدرات السلطة وضمور نفوذها وضعف قوى السلام في الساحتين الفلسطينية والاسرائيلية. اما العقبة الرابعة وهي أكبر العقبات واعقدها، فهي تدهور الوضعين الأمني والاقتصادي وتنامي حالة القلق في المجتمع وعدم توفر القدرة على وقفها. وهذه العقبات مع اشكالية العلاقة مع بوش وشارون تحول دون تقدم عباس على طريق تحقيق برنامجه الذي بشر به الناس وعلى اساسه انتخبوه. وعلى جميع المعنيين بنجاح أبو مازن الغوص في اعماقها واكتشاف العلاج الشافي لها قبل فوات الاوان.