السياسة الأمنية الفلسطينية وتحديات التطوير والتنفيذ

بقلم ممدوح نوفل في 10/09/2005

محتويات البحث

ـ دروس من التجربة.
ـ أهمية استثنائية للمسألة الأمنية.
ـ مكونات السياسية الأمنية الفلسطينية وتحدياتها.
ـ عقبات كبيرة تعطل التطوير وتعرقل التنفيذ.
ـ التباين بين السلطة والمعارضة ينذر بعواقب وخيمة.
ـ توافق القوى رهن بالالتزام بالديمقراطية وبما يتفق عليه
ـ مساهمات الجهات الخارجية مفيدة ولا غنى عنها.

مقدمة / دروس من التجربة
عند بحث التحديات المتنوعة التي تواجه السياسة الأمنيةالفلسطينية بشقيها الداخلي والخارجي، وتعيق عمل المؤسسة الأمنية، أعتقد بأنه من المفيد التذكير بدرسين أساسيين أكدتهما التجربة: الأول، أن مفهوم الأمن الاسرائيلي القائم على استعمار الشعب الفلسطيني والتوسع في ارضه، ساهم في نشوء جبال من الحقد والكراهية بين الشعبين والحق خسائر كبيرة بهما. وأخر إعتراف اسرائيل بوجود شعب فلسطين قرابة ٥٠ عاماً، واخر اعترافها
بالمنظمة ممثلا شرعيا لهذا الشعب قرابة ربع قرن. وساهم في تفجير أربع حروب كبيرة بين العرب وإسرائيل ١٩٥٦، ١٩٦٧، ١٩٧٣، ١٩٨٢ وحقن الشعوب العربية من المحيط الى الخليج وشعوب اسلامية بالعداء لإسرائيل.
وأكدت وقائع المفاوضات ان هذا الفكر الأمني التوسعي أربك قيادة حزب العمل في إدارة معركة السلام على مساراتها الثلاث، وتسبب بإنفصام في مواقفهم السياسية. وبصرف النظر عن أطروحة حزب العمل بشأن اتفاق “أوسلو” فبقايا هذا الفكر الأمني هي التي عطلت صنع السلام في عهده، وانتجت الحلول المرحلية وفرضت على الفلسطينيين الخضوع لفترة اختبار أمني طويلة، وصنفت أرض الضفة والقطاع الى ثلاث أصناف امنيةA B C . . والكل يتذكر كيف ان رئيس الحكومة الاسرائيلية الأسبق “رابين” لم يوقع “اوسلو” الا بعد موافقة عرفات وقيادة م ت ف على تأجيل قضايا ذات ابعاد أمني استراتيجية منها القدس واللاجئين والاستيطان والحدود والمياه، وتعهدت بالوفاء بالشق الأمني من “اوسلو” وتنفيذ جميع الالتزامات الأمنية الواردة فيه، خاصة جمع السلاح ومنع العمليات ضد اسرائيل والاسرائيليين. ووافق رابين، في حينه، على دخول قرابة عشرة آلاف مقاتل من قوات م ت ف بعد ان اقتنع بأن قدرة عرفات على الوفاء بالالتزامات الأمنية رهن بنوعية الكادر وعدد القوات التي ستدخل معه، وليس بحجم تنظيم حركة فتح في الضفة والقطاع فقط
والدرس الثاني الذي اكدته التجربة هو أن مفهوم الأمن الفلسطيني والاتفاقات الأمنية الفلسطينة ـ الإسرائيلية ظلت موضع تباين وخلاف بين أطراف النظام السياسي الفلسطيني. وبعد أكثر من ١٠ سنوات من قيام السلطة لا تزال قوى السلطة والمعارضة مختلفة حول السياسة الأمنية الوطنية. وتتبنى الاطراف مفهومين مختلفين ورؤيتين متعارضين لدور أجهزة الامن. والمفهومان يتعارضان ويتناقضان في المسائل الجوهرية في أغلب الاحيان، ويتقاطعان، أحيانا، في قضايا فرعية، ويتلاقيان في شعارات عامة من نوع الدفاع عن الوطن والحرص على أمن المواطن وحقوقه. وتدقيق التناقض القائم بين المفهومين الامنيين يؤكد قابليته للتحول الى تناقض عدائي تناحري، كما حصل في قطاع غزة مؤخرا وحصل في فترات سابقة في مناطق فلسطينية أخرى. الى ذلك، تجدر الاشارة إلى أن كلا المفهومين والرؤيتين لهما أنصارهما ومؤيديهمافي إطار النظام السياسي الفلسطيني بقواه الوطنية والاسلامية: الأول، تتبناه السلطة والقوى المؤتلفة تحت راياتها وقوى رئيسية في منظمة التحرير الفلسطينية. وينطلق أصحابه من قراءة واقعية لطبيعة المرحلة التي يمر بها النضال الفلسطيني وموازينالقوى، وحال قوى حركة التحرر الوطني العربية بشقيها الحاكم وغير الحاكم، ومن اتجاه حركة السياسية الدولية. وتقوم رؤياهم على تحقيق الاهداف الوطنية او معظمها عبر الحلول السياسة والمفاوضات مع قوة الاحتلال، على قاعدة الأرض مقابل السلام وتطبيق قراري ٢٤٢ و ٣٣٨. ويستند اصحاب هذا التوجه الى مبادرة السلام الفلسطينية التي أطلقها المجلس الوطني عام ١٩٨٨، والى قرارات المؤسسات الشرعية الفلسطينية، وضمنها المجلس الوطني(البرلمان)، وقرارات المجلس المركزي، والمجلس تشريعي، ومؤسسة الرئاسة، ومؤسسة رئاسة الوزراء. التي أكدت الالتزام بحل النزاع بالطرق السلمية والمفاوضات، ووفق قرارات الشرعية الدولية. ويتمسك أصحاب هذا الاتجاه باعتبارهم السلطة الشرعية المنتخبة ولها الحق، بل واجبها، تطبيق القانون والنظام، وفرض احترام اتفاقات السلطة مع الاطراف الاقليمية والدولية وضمنها الاتفاقات الامنية.
والثاني، تتبناه قوى المعارضة داخل وخارج منظمة التحرير الفلسطينية، وينطلق أصحابه من قراءة خاصة، اعتقد انها خاطئة، لطبيعة المرحلة التي يمر بها النضال الفلسطيني. ويعتبرون استراتيجية العمل العسكري ضد الاحتلال الاسرائيلي ومرتكزه الاستيطان، وضمنها العمليات “الانتحارية” سبيلا لتحقيق الاهداف الوطنية. ويؤمنون بأن “ما اخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”، وأمن الوطن الفلسطيني، (شعب وأرض ونظام حكم) يتحقق فقط بعد التحرير الكامل وعودة اللاجئين وقيام الدولة المستقلة. ويختلف أصحاب هذا الرأي في ما بينهم حول قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية والنزاع العربي الاسرائيلي، وحول مفهوم التحرير وحدود الدولة وحل مشكلة اللاجئين. ويصرون على العمل العسكري ويعتبرون العمليات الانتحارية أكثر اشكال النضال جدوى في التأثير على إسرائيل، ولا يترددون في تجاوز التزامات السلطة واتفاقاتها مع اسرائيل وتعهداتها الأخرى.
شخصيا أختلف مع الاتجاه الثاني وأرى انه يستند لقراءة خاطئة لطبيعة المرحلة واتجاه الحركة السياسة في الميدانين الاقليمي والدولي. وأعتقد أن اصحابه يسيرون في طريق مسدود، والاخذ بتوجهاتهم يلحق أضرارا فادحة بالمصالح الفلسطينية العليا، ويزيد في عذاب الناس دون تحقيق نتائج تستحق التضحية. واصرار أصحاب هذا الاتجاه على تنفيذ توجهاتهم يفجر صراعا داخليا داميا. وأرى ان حل هذا الخلاف الجوهري يكمن فقط في التزام جميع القوى الوطنية والاسلامية بالديمقراطية واحترام قواعدها كناظم للعلاقة بين السلطة والمعارضة، وغير ذلك يؤجج الخلاف ويعقد الحل ويزيد في آلام الشعب الفلسطيني.
أولوية استثنائية للمسائل الأمنية
في سياق بحث التحديات التي تواجه السياسة الأمنية الفلسطينية في هذه المرحلة وتعيق تطويرها وتنفيذها، يتبادر للذهن جملة من الأسئلة منها: لماذا البحث الان في هذه المسألة ؟ ثم ما هي المكونات المطلوب توفرها في هذه السياسة؟ وما هي العقبات التي تواجهها وكيف السبيل لتخطيها، وما هي الابحاث المطلوبة؟ وهل يمكن تطوير سياسة أمنية وطنية في ظل الاحتلال؟ ومن هي الاطراف المعنية بالمساهمة في صياغتها وتطويرها؟ وكيف يمكن جعلها تحظى بقبول سياسي؟ وما هي المساهمات التي يمكن الترحيب بها من جهات خارجية؟
بصرف النظر عن تأثير التطورات السياسة على أمن الشعب الفلسطيني، ورأي قوى المعارضة خصوصا أنصار العمل العمل العسكري و”العمليات الانتحارية”، فالحديث في مسألة رسم السياسة الأمنية الفلسطينية وتطويرها له أهمية استثنائية، خصوصا في هذه الفترة، لاعتبارات كثيرة منها:
1) احتدام الصراع السياسي داخل الساحة الفلسطينية ومع الطرف الآخر “اسرائيل” وتعاظم المهام الملقاة على عاتق أجهزة الأمن الفلسطينية، لجهة تجنيب الناس في الضفة والقطاع خسائر بشرية ومادية ومعنوية إضافية، والمحافظة على ما تحقق من انجازات وطنية مهما كانت محدودة، وصيانة أمن المواطن والمجتمع والسهر على تطبيق القانون وفرض احترام النظام العام. خصوصا ان أمن الوطن والمواطن أصبح معرضا لاخطار استراتيجية بعد تنفيذ خطة الانفصال الشارونية واستكمال بناء الجدار، ونطاق حالة الفلتان الأمني اتسع أكثر من أي وقت مضى، وزادت الجريمة بأنواعها.
2) مركزية موقع الأمن في الفكر السياسي الاسرائيلي:
بصرف النظر عن اهداف القيادة الاسرائيلية من المبالغة في الحديث عن مسالة الامن، فالحوار مع مؤسسات المجتمع المدني الاسرائيلي تين أنها عقدة تاريخية حقيقية يعيشها الاسرائيليون، اشكناز وسفارديم، مؤيدون ومعارضون للسلام وتؤثر في مواقفهم. وهذه العقدة نشأت مع المجازر والمحارق التي ارتكبها النازيون في الثلاثينات والاربعينات بحق اليهود الاوروبين، أضيف لها كوابيس اربع عقود من الخوف من العرب الذين يسعون لتدمير دولة اسرائيل وذبح اليهود ورميهم في البحر.
الى ذلك، يعرف جميع المعنيين بالنزاع العربي الاسرائيلي أن مٍسالة أمن دولة أسرائيل احتلت على امتداد النصف الثاني من القرن الماضي موقعا مميزا في سياسات الدول الكبرى خصوصا الولايات المتحدة، ونالت اهتمام الهيئات الدولية دون استثناء. وهذا الاهتمام الدولي امتداد للاهتمام الكبير الذي حظي به أمن اليهود في أوروبا بعد اضهاد النازية لهم. وبصرف النظر عن النوايا، فقد دفع شعب فلسطين وشعوب عربية أخرى ثمن الاضطهاد والاهتمام. وزادت خسائر الفلسطينيين والشعوب العربية بسبب فشل القيادات العربية والفلسطينية في اقناع العالم بعدالة قضيتهم، وعدم التأثير في حركة السياسة الدولية. ويجب الإعتراف أن هذه القيادات أخطأت في إدارة النزاع على مدى نصف قرن، وقدم النظام السياسي الرسمي العربي للقيادة الإسرائيلية مستلزمات ابراز عقدة الأمن المزمنة عند اليهود، وسهل استخدامها في تغطية مواقف اسرائيل العدوانية وأطماعها التوسعية.
ورغم تفوق اسرائيل عسكريا على العرب مجتمعين وامتلاكها أسلحة نووية، وادراك الاسرائيليين أن الدولة الفلسطينية سوف تكون ضعيفة عسكريا ومرتبطة إقتصاديا لسنوات طويلة بإسرائيل، فالقوى الاسرائيلية، بيسارها ويمينها حاكمة ومعارضة، ظلت موحدة حول مفهوم الامن بابعاده الاستراتيجية. وجميعها يعبر سرا وجهارا عن أربع مخاوف أمنية استراتيجية: الأول، خطر وقوع هجوم عسكري مباغت تشنه الجيوش العربية ـ يوما ما ـ ضد اسرائيل، تكون أراضي الضفة الغربية وغزة وقوات السلطة الفلسطينية رأس حربتة. والثاني تحول الدولة الفلسطينية ـ يوما ما ـ الى دولة معادية لاسرائيل تسعى لتحقيق طموحات الفلسطينيين في أرض فلسطين التاريخية وإعادة اللاجئين والنازحين الى بيوتهم، وتستعين بالفلسطينيين في اسرائيل لتحقيق هذه الاهداف. والثالث،ان تعقد الدولة الفلسطينية تحالفات واتفاقات مع قوى اقليمية معادية لاسرائيل. والرابع،ان يواصل “المتطرفون” الفلسطينيون، تنفيذ عمليات إرهابية عبر أراضي الدولة الفلسطينية.
وفي جميع مراحل الصراع ظلت القيادة الاسرائيلية تعتمد على قوى اسرائيل الذاتية وقدراتها القتالية في صيانة أمن دولة اسرائيل وتعاملت مع العوامل الخارجية الاخرى باعتبار عوامل فرعية مساعدة، وبنت المؤسسة الامنية والقدرات العسكرية القادرة على انجاز هذه المهمة وحافظت على تفوقها العسكري على العرب مجتمعين.
ورغم تخلي العرب والفلسطينيين منذ سنوات طويلة عن الأفكار المتطرفة الداعية الى تدمير دولة إسرائيل وتخليهم عن الحل العسكري، ودخولهم مفاوضات معها، واعترف بعضهم بها وتبادل العلاقات الدبلوماسية والتجارية معها..الخ ظلت هذه المخاوف تتحكم بالموقف الاسرائيلي في عهد حزب العمل كما في عهد الليكود. ولم يفلح العرب والفلسطينيون في طمأنة المواطن الاسرائيلي على أمنه ونزع ذريعة الأمن من يد القيادة الإسرائيلية. وإن طغيان المسائل الأمنية على اتفاقات الطرفين يؤكد هذا الاستخلاص.
وظلت اسرائيل في عهد اليمين واليسار تستخدم الأمن في الهروب من دفع استحقاقات صنع السلام مع العرب وإعطاء الفلسطينيين الحد الادنى من حقوقهم المشروعة. وخلقت “انتفاضة الأقصى” “المعسكرة” والعمليات “الانتحارية” مناخا خصبا لصعود القوى المتطرفة وسهلت إحياء مقولة صهيونية قديمة “اسرائيل جزيرة صغيرة تعيش وسط بحر عربي معاد”. وأحيت العمليات “الانتحارية” خوف قطاع عريض من الاسرائيليين من العرب والفلسطينيين “الذين يريدون تدمير اسرائيل ورمي اليهود في البحر”.
3) تزايد أهمية موقع الأمن في نضال الشعب الفلسطيني من أجل انتزاع حقوقه الوطنية المشروعة، خصوصا في مرحلة فشل عملية السلام وصعود التطرف في الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي. وبات موضوع المن ومحاربة “التطرف” ومنع العمليات العسكرية ضد اسرائيل والاسرائيليين وتدمير البنية “للارهاب”، شروطا إسرائيلية أساسية لاستئناف عملية السلام. وهذه الشروط وافقت عليها الولايات المتحدة الامريكية وقوى دولية أخرى.
وإذا كانت العمليات “الانتحارية سهلت على القيادة الاسرائيلية اقناع العالم بهذا الموقف، فإن طمأنة المواطن الاسرائيلي على أمنه، ونجاح قوى الأمن الفلسطينية في تطبيق التزامات السلطة الشرعية، يشجعه على فتح مسافة عن القوى المتطرفة، ويعطل استغلال اليمين عقدة الأمن لاغراض ايدلوجية وحزبية، ويعزز فكر السلام مع العرب والفلسطينيين.
4) مركزية دور الأمن في تثبيت وجود السلطة الفلسطينية وتعزيز مكانتها وهيبتها. حيث أكدت وقائع الحياة في العقد الماضي أن شرعية السلطة الفلسطينية المستمدة من التاريخ والانتخابات الشعبية الحرة والمباشرة، لا تكفي لحمايتها وتثبيت وجودها وفرض احترام قراراتها واتفاقاتها. وأكدت أيضا أنه لا غنى عن دور مباشر لقوات أمن قوية في حماية مراكز ومؤسسات السلطة وفرض احترام قرارات الحكومة واحترام اتفاقاتها مع إسرائيل والأطراف الدولية والاقليمية. وجاءت أحداث غزة الأخيرة لتعزز هذا الاستخلاص.
وبين عدم تردد “قوات” حركة حماس في استخدام السلاح ضد أجهزة السلطة ومؤسساتها ان وجود السلطة برمته، وليس توجهاتها السياسية فقط، معرض لاخطار حقيقية. وفي كل الأحوال، اذا كانت السلطة غير قادرة، في هذه المرحلة، على مجابهة الخطر الذي يمثله الاحتلال وسياسة اليمين الاسرائيلي بقيادة شارون، فهذا لا يبرر خروج قوى في المعارضة الفلسطينية على الأنظمة والقوانين والتطاول على السلطة ورئيسها المنتخب. كما لا يعني أن على السلطة الاستسلام للقوى الحزبية المتربصة بها، خاصة إن هذه القوى ترفض الالتزام بالديمقراطية ولا تحترم نتائج الانتخابات ولا تكتفي بعرقلة عمل السلطة.
5) انتشار ظاهرة “الارهاب” على المستوى الدولي بعد أحداث ١١ سبتمبر في أمريكا. وجاءت العمليات الأرهابية التي وقعت في اسبانيا ولندن وزادت في اهتمام العالم في محاربة هذه الظاهرة. وبات موضوع الأمن الذاتي للدول، وضمنها الدولى الكبرى، قضية مركزية في سياساتها وعلاقاتها بعضها ببعض. واذا كانت المصالح الفلسطينية العليا تفرض على السلطة التفاعل مع إعلان الامم المتحدة ودول ديمقراطية كثيرة حربا عالمية ضد الارهاب والارهابيين فهذا الأمر يزيد في ضرورة بناء مؤسسة أمنية فلسطينية قوية. وبغض النظر عن الاسباب فإن نجاح القيادة الاسرائيلية في ادراج أعمالها العدوانية ضد الفلسطينيين ضمن هذه الحرب، وتحول الشرق الاوسط خصوصا العراق الى ساحة قتال ضد الارهاب زاد في أهمية موقع المسالة الأمنية في السياسة الفلسطينية.
مكونات السياسة الأمنية الفلسطينية
تقوم السياسة الأمنية الفلسطينية على عدد من المبادئ الأساسية، بعضها تضمنته مواد “الدستور” وبعضها الآخر قيد البحث والنقاش في الأطر التشريعية والقيادية الأخرى. وتؤكد التجربة ان مسألة رسم سياسة أمنية فلسطينية مستقلة ظلت تصدم بقيود الاحتلال. وقليلا ما نجح قادة المؤسسة الأمنية الفلسطينية في تنفيذ طموحاتهم ورغباتهم الوطنية. وبصرف النظر عن الأمنيات، فان موازين القوى والوضع العربي ومواقف الامم المتحدة والقوى الدولية من حل النزاع العربي الاسرائيلي، حولت أمن دولة اسرائيل الى تحدي مركزي وممرا اجباريا للفلسطينيين نحو الحرية والاستقلال وبناء الدولة وحل مشكلة اللاجئين.
اما التحدي الثاني المباشر فجاء من توقف عملية السلام وتعطل المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، وتنفيذ شارون وأركانه مشروع “خطة الانفصال” و”الانسحاب” أحادي الجانب، وتصميمه على استكمال بناء “الجدار” في عمق الاراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وتحويلة الى حدود جيوسياسية. الى ذلك، وفر شارون لهذا التحدي المقومات التشريعية والقانوية والامنية اللازمة، اضافة للدعم الأمريكي والدولي. وهذا التحدي قابل لأن يتحول اي لحظة الى مفجر لصراع دموي. خصوصا ان شارون حول، بعد “الجلاء”، قطاع غزة الى سجن كبير ومنع العمل في إسرائيل وقطع أرزاق العمال، وتعهد بتوسع الاستيطان في الضفة الغربية وتهويد مدينة القدس وتوسيع حدودها البلدية وضم مستوطنة معاليه ادوميم اليها. وتتلخص مكونات السياسة الأمنية الفلسطينية وأهدافها الاستراتيجية بعيد المدى والتكتيكية المباشرة في:
أ) المحافظة على أمن الوطن، وحماية الدستور، وتطبيق القانون، وتنفيذ قرارات السلطات الثلاث القضائية والتشريعية والتنفيذية. وحملت خطة شارون “الانسحاب” من قطاع غزة مهمام وطنية اضافية مباشرة ابرزها ضبط الوضع في القطاع بعد “الجلاء” وانهاء جميع مظاهر ازدواجية السلطة. ولا جدال في ان تنفيذ هذه المهام يمثل محطة مفصلية في مسيرة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، ويضع أجهزة الأمن الفلسطينية أمام امتحان مصيري الفشل فيه يعرض وجود السلطة لخطر حقيقي، ويؤسس لفوضى عارمة ويزج الشعب في صراع دموي يزيد في خسائره وعذابه. وبديهي القول ان حديث شارون عن احتمال اندفاع الوضع الامني في قطاع غزة الى حالة من الفوضى يؤشر أمنيا الى ان وجود خطة شارونية مبيتة لدفع الوضع الى الفلسطيني الى هذه الحالة المدمرة. وبجانب ذلك، فان أجهزة الامن الفلسطينية مطالبة بمواجهة توجه انصار العمل العسكري في الساحة الفلسطينية الذين يستعدون لتطوير عملياتهم ضد اسرائيل ونقل الهالونات والصواريخ للضفة واستهداف مدن اسرائيلية حدودية.
ب) تطوير قدرات أجهزة الأمن الفلسطينية بشريا وفنيا،وتحسين صورتها في الشارع الفلسطيني، وتمكينها من المحافظة على أمن المواطن الفلسطيني حيثما كان، وحماية حقوقه وممتلكاته الخاصة في مناطق السلطة الوطنية، والدفاع عنها في المواقع الأخرى. وتحضير أوضاع اجهزة الامن للتعاطي مع المرحلة الجديدة التي بدأت بعد رحيل، خاصة تراجع أوضاع مكانة حزب السلطة “فتح” في مختلف المجالات واحتمال تفجر مزيد من الصراعات الداخلية وضمنها صراعات داخل حزب السلطة نفسه. وتزامن ذلك مع صعود ثقل حماس في الشارع الفلسطيني وفوزها في الانتخابات البلدية بعدد مهم من المجالس البلدية والقروية.
جـ) فرض احترام الاتفاقات التي توقعها السلطة الشرعية مع إسرائيل والدول العربية والجهات الجهات الأخرى. والوفاء بالالتزامات في اطار الجامعة العربية والامم المتحدة . وأجهزة الأمن الفلسطينية مطالبة التوفيق بين متطلبات الأمن الوطني الفلسطيني (شعب وسلطة وأرض وممتلكات) ومتطلبات أمن إسرائيل والأسرائيليين حسب الالتزامات الواردة في الاتفاقات، بدءا من اتفاق “اوسلو” عام ١٩٩٣، مرورا بخريطة الطريق التي صاغتها اللجنة الرباعية الدولية، وانتهاء باي اتفاق امني تفصيلي يتم التوصل اليه في اطار تنفيذ “خطة” شارون واركانه للانفصال عن الفلسطينيين وسحب الجيش والمستوطنين من القطاع.
د) محاربة الجريمة بانواعها، وتطبيق القانون وفرض النظام العام في جميع الاراض الخاضعة لسلطة السلطة الفلسطينية. واسقاط تهمة المشاركة في الارهاب التي الصقها بها شارون في الحقل الدولي.

تحديات كثيرة وعقبات كبيرة تواجه تنفيذ السياسة الأمنية
في سياق بحث أزمة تنفيذ وتطوير السياسة الأمنية الفلسطينية، يمكن رصد نوعان من التحديات: الاول،عبارة مجموعة من التحديات السياسية تتمثل في مواقف القوى المعنية بالنزاع الفلسطيني الاسرائيلي. والثاني رزمة كبيرة من العقبات البنيوية والفنية كامنة في جسد المؤسسة الأمنية الفلسطينية، تتجلى في تشوش الهيكلية والرتب، وضعف الخبرة وقلة التدريب وترهل الكادر وعدم البراءة من تهم الفساد والتفسخ، بالاضافة الى نقص الأجهزة والمعدات الفنية.
وهذا البحث يتناول التحديات من منظور الأمن السياسي ويتطرق الى العقبات البنوية والفنية بمقدار ما يساهم في توضيح التحديات السياسية وأهمها: سياسة الاحتلال وموقف شارون السلبي من السلطة وابو مازن والامن الفلسطيني. موقف بوش وأركانه المؤيد لموقف شارون ظالما او مظلوما. موقف قيادة حماس وقوى المعارضة وتمردها على السلطة. تراث ياسر عرفات وأقواله لم استسلم ولم أتنازل واحذروا كرازاي. أحوال “فتح” وتحولها الى “حزب الرئيس” حركة عرفاتية، وتراجع دور اللجنة المركزية والمجلس الثوري. وصعود دور كتائب شهداء الاقصى، وكتلة فتح في التشريعي؛ واحتمال ان يكون مصيرها مثل “الناصرية”. تعثر عملية السلام، وصعود التطرف وضعف وتآكل معسكر السلام. اتساع نطاق الفقر والبطالة والجوع. عدم الحزم من قبل ابو مازن.
سياسة الإحتلال وموقف شارون السلبي من السلطة وأجهزتها ورئيسها.
يتساءل معظم أطراف النظام السياسي الفلسطيني وكثير من المفكرين الاستراتيجيين في حقل الأمن حول إمكانية تطوير سياسة أمنية فلسطينية في ظل الإحتلال. اعتقد أن السؤال مشروع، بصرف النظر عن دوافع أصحابه وخلفياتهم السياسة والأيدلوجية. ويمكن تأييده بتأكيد أن الاحتلال الاسرائيلي وسياساته الأمنية والاستيطانية والاقتصادية كان وما زال وسوف يبقى العقبة الرئيسية في طريق رسم وتطوير سياسة فلسطينية أمنية فعالة. وهو لم ولا يعير أمن الفلسطينيين أهمية تذكر ويتركز اهتمامه فقط على أمن اسرائيل والاسرائيليين في كل زمان ومكان، وضمنهم المستوطنين.
وفي سياق تحقيق هذا الهدف الأمني الاستراتيجي وافقت القيادة الاسرائيلية في عهد حزب العمل، قبل أكثر من ١٢ سنة على الدخول في حوار سري مع م ت ف، ووقعت معها عام ١٩٩٣ اتفاق “اوسلو” وتلاه اتفاقات اخرى معظمها أمني. ولاحقا على “اوسلو” وافق رابين على عودة قرابة عشرة آلاف كادر مدني وأمني فلسطيني. ومن يراجع ملف المفاوضات ويدقق نصوص “اوسلو” وملحقاته يجد ان مسألة أمن اسرائيل والاسرائيليين هي العمود الفقري للاتفاق ولعملية السلام وطبقا للرؤية الاسرائيلية. ومنذ ذلك التاريخ لم يتبدل جوهر الموقف الاسرائيلي في موضوع الأمن رغم تبدل الحكومات. وفرضت اسرائيل قيودا قوية على عملية بناء أجهزة الأمن الفلسطينية. وظلت مصلحة اسرائيل في عهد اليسار واليمين، العمل والليكود، تقوم على منع الفلسطينيين من تبني سياسة أمنية وطنية تعجل في استقلالهم وتصون حقوقهم.
وتطابقت المواقف الاسرائيلية زمن نتنياهو وباراك. وثبتت الاتفاقات الإسرائيليةـ الفلسطينية، بدءا من “اوسلو” مرورا باتفاق واي ريفر واتفاق “الخليل” وانتهاء بآخر اتفاق تفصيلي وقعه الطرفان، قواعد وأسس تشكيل أجهزة الامن الفلسطينية. وقيدتها ورسمت لها دورها بشكل تفصيلي وفق مقتضيات امن اسرائيل والاسرائيليين. وحددت عددها وتسليحها وتدريبها ومناطق انتشارها ونوع معداتها..الخ
ومراجعة سيرة الاتفاقات الموقعة بين الطرفين يبين ان رأي المؤسسة الامنية الاسرائيلية كان حاسما في رسمها، ناهيك عن دورها المركزي في تنفيذها. واستخدمت هذه المؤسسة في عهد حزب العمل استراتيجية العصا والجزرة في العلاقة مع السلطة الفلسطينية، وربطت تسليمها اراضي وصلاحيات اضافية بنجاح الأجهزة الفلسطينية في تنفيذ التزاماتها الامنية. واستخدمت حكومات اسرائيل المتعاقبة الامن ووقوع عمليات عسكرية ضدها وضد مواطنيها ذريعة غطت بها مماطلتها وتلاعبها بالجداول الزمنية لتنفيذ الاتفاقات.ويمكن القول ان تأخير تنفيذ القضايا الجوهرية من اتفاقات المرحلة الانتقالية التي نصت عليها اتفاق أوسلو مثل تنظيم عودة النازحين والمبعدين، تم لاسباب جوهرها أمني، وايضا مساومة القيادة الفلسطينية حول قضايا الحل النهائي.
صحيح ان الاتفاقات العربية الفلسطينية ـ الاسرائيلية أحدثت ثغرة في جدار الأمن الإسرائيلي في مرحلة انتعاش المفاوضات وتقدم عملية السلام، وغيرت جزئيا مزاج الشارع الاسرائيلي تجاه الأمن والعلاقة مع العرب والفلسطينيين، لكن ذلك لم يدم طويلا ولم يرقى لمستوى تحرير مفهوم الأمن الاسرائيلي من تأثيرات الأيدلوجيا الغيبية، ولم يرقى لمستوى التاثير في القرار السياسي الأمني الرسمي. ولم تقتنع القيادة الاسرائيلية بان صنع السلام مع العرب يفرض تجريد الأمن القومي الاسرائيلي من ايدلوجيا التوسع والهيمنة والعقد التاريخية. وتجدر الاشارة الى ان فكرة تقسيم اراضي الضفة والقطاع الى مناطق A B C منطلقها امني. وكان هدفها مساومة القيادة الفلسطينية واختبار اجهزة الامن ومدى قدرتها على القيام بمهامها الامنية وفقا للمفهوم الاسرائيلي. وأيضا التدرج في تسليمها الصلاحيات المحددة وابتزازها وفقا لنتائج الاختبار الامني.
وفي جميع مراحل الصراع، رفضت القيادة الاسرائيلية أي دور أمني لاي طرف ثالث، ولا يزال هذا المبدأ ساري المفعول. وألغت عمليا من اتفاق “اوسلو”، البند المتعلق باللجوء للتحكيم في حال وقوع خلافات. وعندما فرضت الخلافات الفلسطينية الاسرائيلية حول المسائل الامنية مشاركة الاستخبارات المركزية الامريكية ” C I A” في الاجتماعات الامنية الفلسطينية الاسرائيلية الرسمية اعتبر منظرو الامن الاسترتيجي الاسرائيلي اعطاء الامريكان دورا مباشرا في المسائل الامنية خطأ استراتيجيا وتم التراجع عنه في عهد حكومة بارك.
خاصة وان مواقف ال ” C I A ” لم تكن في صالح اسرائيل، وكثيرا ما أحرجتها.
وجدير بالذكر أيضا ان المؤسسة الامنية الاسرائيلية قاومت وتقاوم حتى الآن كل أشكال التعاون والتنسيق بين المؤسسة الأمنية الفلسطينية وأجهزة أمن الدول العربية والكبرى خاصة الولايات المتحدة الامريكية والقوى الدولية المعنية بالنزاع. وفي مراحل الصراع الطويل استهدفت أجهزة الأمن الاسرائيلية قادة وكوادر وخبراء في أجهزة الأمن الفلسطينية ليس لانهم مبدعين في العمل العسكري ضد اسرائيل والتجسس عليها، بل لأنهم نجحوا في توطيد العلاقة الأمنية مع الاستخبارات الامريكية ال C I A والبريطانية والفرنسية. وقصة اغتيال عاطف بسيسو احد أركان المؤسسة الامنية مثال على ذلك.
ولم تتوقف سياسة اسرائيل السلبية اتجاه المؤسسة الأمنية الفلسطينية عند هذا الحد، والكل يتذكر الضربات القوية التي وجهتها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لاجهزة الفلسطينية، لاسيما في عهد حكم اليمين زمن نتنياهو وشارون. وفي مرحلة “عسكرة الانتفاضة” الثانية تحولت الأجهزة الأمنية الفلسطينية ومقراتها واسلحتها ومعداتها الى هدف رئيسي لعمليات الجيش الاسرائيلي الجوية والبرية والبحرية. وقتلت اسرائيل وجرحت واعتقلت أعدادا كبيرة من كوادر وأفراد الأمن الفلسطيني، ولا يزال بعضهم يقبع في السجون. ويسجل للمؤسسة الأمنية الاسرائيلية، جيش واجهزة استخبارات، نجاحهم بامتياز في إضعاف وتدمير البنية التحتية والبشرية لاجهزة الأمن الفلسطينية وعطلت قدرتها في تنفيذ المهام.
وبرغم تدخل الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الأوروبي واللجنة الدولية الرباعية واستئناف الاتصالات الأمنية بين الطرفين، لا يزال شارون يتبنى موقفا سلبيا من المؤسسة الأمنية الفلسطينية، ويسعى بكل السبل الى اضعافها ويرفض تنفيذ اية خطوة تعزز مكانتها. رفض ويرفض تنسيق “خطة الفصل” و”الإنسحاب” (والأدق إعادة الانتشار) من غزة وأربع مستوطنات شمال الضفة مع السلطة وأجهزتها، ويصر على تنفيذها من جانب واحد. ورفض في آخر لقاء جمعه مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ورئيس الحكومة احمد قريع الإفراج عن أسلحة وذخائر ومعدات عسكرية قدمتها روسيا ودول أوروبية لأجهزة الأمن الفلسطيني. ولم تفلح وزيرة الخارجية الامريكية رايس في زيارتين متتاليتين في زحزحة الموقف شارون، وظل يصر على عرقلة جهود أجهزة أمن الفلسطينية وتعزيز مكانتها الوطنية، ويرفض تعزيز قدراتها والتعاون معها في مهام أمنية تهم الطرفين.
وشارون وحلفاؤه في البيت الابيض يعرفون ان تقوية سلطة ابو مازن في مواجهة المتطرفين وتعزيز مكانته داخل فتح والمنظمة لا يكلف الكثير. وأظن ان مساعدته في توفير الأمن والخبز واطلاق سراح بضع آلاف من الاسرى واستكمال الانسحاب من المدن وازالة الحواجز وفتح الشغل للعمال وتسهل حركة الاجهزة وتسليحها..الخ من الاجراءات التفصيلية لا تقلب ميزان القوى في المنطقة، ولا تمثل خطرا على أمن اسرائيل الاستراتيجي، ولا تضعف موقفها التفاوضي عندما يعود الطرفان الى طاولة المفاوضات. بل انها في المحصلة تضعف قوى التطرف في الجانب الفلسطيني وتساهم في توفير الأمن للاسرائيليين. لكن شارون لا يعيرها اهتماما يذكر، ويبدو ان شارون يفضل سيادة حال من الفوضى في الساحة الفلسطينية ليبرر تجميد عملية السلام وتنفيذ توجهاته السياسة والاستيطانية التوسعية.
لا شك في ان براعة شارون التكتيكية، وحسن اختياره الوقت لطرح خطة “الانفصال” و”الانسحاب”، وخصوصية العلاقة الإمريكية الإسرائيلية، مكنته من تجميد عملية السلام وتهرب من تنفيذ استحقاقات كبيرة تضمنتها “خريطة الطريق” التي طرحتها اللجنة الرباعية الدولية. الى ذلك يجب الاعتراف بأن الاعمال العسكرية الفلسطينية خصوصا “العمليات” التي استهدفت المدنيين داخل اسرائيل، سهلت على شارون تنفيذ سياسته، ووفرت له الغطاء لستر مواقفه وأفكاره المعادية للسلام ولجميع المبادرات الدولية التي تطالبه بإنهاء الاحتلال واعطاء الفلسطينيين بعضا من حقوقهم المشروعة. وسلحته بمواقف قوية في مواجهة قوى السلام في اسرائيل وضغوط بعض الاطراف الدولية اللجنة الرباعية. واستثمر شارون أيضا مواقف وتحركات المعارضة الاسرائيلية في التهرب من تنفيذ التزامات اسرائيل تجاه السلام وتجاه الفلسطينيين وايضا في تعزيز مكانة اسرائيل ومكانته الشخصية في الساحة الدولية وفي الحصول على مساعدات مادية لمعالجة مشكلاته الداخلية خاصة تعويض المستوطنين عن ممتلكاتهم في مستوطنات غزة التي قرر شارون اخلاءها.
وبصرف النظر عن نوايا شارون والظروف التي احاطت بقرار الفصل من جانب واحد، فالقراءة الموضوعية للخطة وأهدافها تبين انها تتضمن تراجعا استراتيجيا جديدا في المشروع الصهيوني التاريخي على الجبهة الفلسطينية وتغييرا جوهريا في نظرية الامن الاسرائيلية المبنية على التوسع والاستيطان. بعد التراجع والتغيير اللذين تما على الجبهات المصرية والاردنية واللبنانية. وفي جميع الحالات يكرس الانسحاب من قطاع غزة وتفكيك المستوطنات سابقة خشي زعماء حزب العمل، رابين وبيريس وباراك، الاقدام عليها عندما وصلوا رئاسة الوزراء. وقبلوا الانخراط في حكومة شارون من اجل تكريسها. اعتقادا منهم انها قابلة في ظروف دولية وإسرائيلية ان تتكرر في الضفة الغربية وتسهل على حزب العمل تنفيذ، يوما ما، مع عجز قادته عن تنفيذه قبل طرح شارون خطته.
الى ذلك، يسجل لمؤسسة الامن الفلسطينية انها قاومت الضغط والابتزاز وتصدت لمحاولات احتوائها من قبل المؤسسة الاسرائيلية وحافظت على وطنيتها. وإذا كان بامكان بعض القوى الدولية والمحلية توجيه تهم الفساد والتفسخ والترهل لكادرالمؤسسة الأمنية الفلسطينية، فوقائع الحياة تؤكد ان قيادة هذه المؤسسة وكوادرها قاومت تحويلها الى مؤسسة عميلة تنفذ سياسة الإحتلال الأمنية. ونفذت في حدود طاقاتها قرارات وتوجهات السلطة الشرعية، والتزمت بمهام التنسيق الامني مع المؤسسة الامنية الاسرائيلية وفق تعليمات القيادة السياسية وتحت رقابتها. ودافعت بحيوية وضمن السقف المتاح عن أمن الشعب الفلسطيني ومنحت أمن الناس وممتلكاتهم أولويةعلى متطلبات أمن الاحتلال ومنشئآته ومرتكزاته. وبالرغم من كل قيود الاحتلال لا مناص للمؤسسة الامنية الفلسطينية من تطوير أساليب عملها والنجاح في أداء واجبها الوطني.
موقف الولايات المتحدة المؤيد لإسرائيل ظالمة او مظلومة.
وفي سياق الحديث عن التحديات الأمنية الخارجية التي واجهت ولا تزال تواجه أجهزة الأمن الفلسطينية، لا مناص من مراجعة مواقف الولايات المتحدة الأمريكية من النزاع الفلسطيني الاسرائيلي، لانها ظلت حاسمة في جميع جوانب الصراع وجميع مراحله. وإذا كانت مواقف رئيس الحكومة الاسرائياية الجنرال شارون تحتل راهنا المرتبة الأولى في التحديات التي تواجه أجهزة الأمن الفلسطينية وتعيق قدرتها على تطوير ذاتها، فموقف الادارة الامريكية من هذه الأجهزة هو تحدي رئيسي آخر لا يمكن إغفال تأثيره على تنفيذ المهام الامنية المنوطة بها. والكل يعرف أن مواقف الادارات الامريكية المتعاقبة، بما هي الراعي الرئيسي لعملية السلام، كان لها تأثير مباشرة في وضع أسس بناء السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية وتحديد واجباتها مهامها وعلاقتها بالطرف الآخر. وجميع الاتفاقات الفلسطينيةـ الاسرائيلية الأمنية الرئيسية والفرعية، تمت برعاية أمريكية وبعضها صناعة أمريكية خالصة. وجاءت أحداث ١١ سبتمبر، واعلان الادارة الامريكية الحرب على الارهاب بما هو ظاهرة عالمية خطيرة، وزادت في الاهتمام الامريكي بمسائل الأمن في المنطقة وضمنها دور الامن الفلسطيني في مكافحة القوى “الارهابية” حسب المفهوم الامريكي.
وفي جميع الحالات تبقى دراسة التحديات والعقبات التي واجهت وتواجه أجهزة الامن الفلسطينية ناقصة اذا لم تتناول مواقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة من مسألة أمن اليهود قبل قيام دولتهم وبعد قيامها. وإذا كان لا مجال في هذه الدراسة لمراجعة موسعة للمواقف الامريكية فاستحضار لمحة موجزة عن تاريخ هذه العلاقة يساعد في توضيح الصورة ويبين أثر هذا الموقف على الأمن الفلسطيني وتوجهاته:
قبل قيام دولة اسرائيل بسنوات أولت الولايات المتحدة الأمريكية اهتماما كبيرا بمسألة أمن اليهود في اوروبا وانحاء متفرقة من العالم، وبعد قيام دولة اسرائيل تعاملت مع أمنها باعتباره جزءا لا يتجزأ من أمن الولايات المتحدة الأمريكية الإستراتيجي. وفي عام 1917 أيدت الولايات المتحدة وعد وزير خارجية بريطانيا “بلفور” لزعماء الصهيونية باقامة دولة لليهود في فلسطين. وفي العقدين الثالث والرابع من القرن الماضي تبنت الولايات المتحدة وعديد الدول الاوروبية مسألة انقاذ يهود أوروبا من الاضطهادي النازي. وساهمت بحماس شديد في دعم هجرة اليهود إلى فلسطين، وأهملت مع بريطانيا، دولة الانتداب، مصالح شعب فلسطين وحقوقه التاريخية التي كفلتها له الشرائع السماوية وقرارات المنظمة الدولية.
في حينه رأت الولايات المتحدة الامريكية في اسرائيل عنصر حماية للمصالح الامريكية “وبخاصة النفطية” المتزايدة في الشرق الأوسط، وعامل ضبط واستقرار لأوضاعه، وقاعدة متقدمة تعتمد عليها في قمع حركة التحرر الوطنية العربية المناهضة لتوجهاتها السياسة والعسكرية، وأيضا في مواجهة خطر الشيوعية الذي تصاعد مباشرة بعد الحرب مباشرة. ورأت أيضا في قيام دولة لليهود استجابة ضرورية لطموحات الحركة الصهيونية وحلا انسانيا عمليا للمسألة اليهودية في اوروبا التي تفاقمت قبل وخلال الحرب الكونية الثانية، وحلا شافيا لمشكلة من تبقى من اليهود الذين اضطهدوا على يد النازية الالمانية ونجو من محارقها. وأيضا مكافئة للحركة الصهيونية على دور “اللواء اليهودي” في الحرب العالمية الثانية.
وفي الأمم المتحدة لم تتأخر ادارة الرئيس الامريكي ترومان عام 1947 في تأييد قرار التقسيم والاعتراف بقيام دولة اسرائيل، بل كانت حريصة على ان تكون أول المعترفين بها. ومارست ضغوطاً شديدة على وفود الدول الأعضاء في الجمعية العامة للحصول على ثلثي الأصوات من أجل اصدار شهادة ميلاد للدولةالعبرية وإقرار القرار رقم ١٨١.
ولاحقا، لم تضغط الادارة الامريكية لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ولم تبذل عام ،١٩٤٨ وبعده، جهودا لتنفيذ قرار الامم المتحدة رقم ١٩٤ الخاص باللاجئين الفلسطينيين رغم انها أيدته. ولم تحاول منع اسرائيل من احتلال أراضي فلسطينية جديدة خارج ما أعطاه لها قرار التقسيم .وفي عام ١٩٤٩، وبعد التوقيع على اتفاقية الهدنة المصرية الاسرائيلية، دعمت الولايات المتحدة أهداف اسرائيل في الوصول الى خليج العقبة، وفي الاستيلاء على منطقة “ام رشاش” “ايلات” بالرغم من رغبة بريطانيا في ابقائها تحت السيادة العربية لاغراض عسكرية لها علاقة بتأمين اتصال قواتها المرابطة على ضفاف قناة السويس وقواعدها العسكرية في الاردن. وبهذه المساندة عززت الولايات المتحدة الامريكية الموقف العسكري الاستراتيجي الاسرائيلي واعطتها منفذا مهما على البحر الاحمر استخدمته اسرائيل في اقامة صلات تجارية مع الدول الافريقية والاسيوية، وفي تهديد الدول العربية الواقعة على هذا البحر.
الى ذلك، واصلت الادارة الامريكية على مدى نصف قرن كامل التعامل مع الصراع العربي الاسرائيلي من منطلق الصراع مع الاتحاد السوفيي في اطار الحرب الباردة التي اشتعلت بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي مطلع خمسينات القرن الماضي. وعملت باتجاهين: توطيد دعائم دولة “اسرائيل” وحمايتها، ومحاولة إقناع العرب والفلسطينيين بان وجود هذه الدولة بات حقيقة عليهم التسليم بها. والثاني إبداء الاستعداد “نظريا” للمساهمة في معالجة قضية اللاجئين الفلسطينيين كقضية إنسانية افرزها قيام الدولة الجديدة “اسرائيل” ومنذ ذلك التاريخ وحتى الان قدمت الولايات المتحدة لاسرائيل بشكل متدرج ومتصاعد دعماً أمنيا وسياسيا واقتصادياً خيالياً، وربطت مبيعات السلاح لدول لمنطقة بمصلحة أمن اسرائيل.
وأظن ان لا جدال في أن جميع المواقف الاسرائيلية ذات الأبعاد الأمنية الاستراتيجية المتعلقة بالنزاع لم تكن يوما معزولة عن التوجهات الامريكية. والتزمت الحكومات الاسرائيلية عمالية وليكودية، منذ قيام الدولة عام 1948، بتنسيق سياساتها الأمنية مع الأدارة الامريكية. وفي مرحلة الحرب الباردة بين المعسكرين “الاشتراكي” و”الرأسمالي” وعلى مدى أكثر نصف قرن إلتزمت القيادة الاسرائيلية العمل في خدمة الاستراتيجية العسكرية الامنية الامريكية. طبقت المؤسسة العسكرية الأمنية الاسرائيلية هذا التوجه بحماس شديد ووطدت علاقتها بالمؤسسة الأمنية الامريكية. بل إن التنسيق الاستخباراتي والسياسي بين الادارة الامريكية واسرائيل ظل موضع تفاخر اسرائيلي تنافست الحكومات والاحزاب والقيادات الامنية والعسكرية على تعميقه وتطويره. ويسجل للصهيونية نجاحها في تعبئة الرأي العالمي ضد المواقف الفلسطينية والعربية، وحولت رفضهم قرار التقسيم رقم 181ودخول الجيوش العربية فلسطين لانقاذ الممكن من أرضها وأهلها الى أدلة ومماسك عملية على نوايا العرب تدمير اسرائيل وذبح اليهود. وأقنعت العالم بأن امنها في خطر وأنها لا تملك نوايا هجومية وتسعى للدفاع عن وجودها.
ويسجل للقيادة الاسرائيلية نجاحها في استثمار اشتعال الحرب الباردة بين المعسكرين بصورة جيدة. ووأجادت ركوب رياحها وجعلت نفسها جزءا من التحالف الغربي. ووظفت فها امكانتها المتنوعة لصالح مخططات وتوجهات حلف “الناتو”، وتحولت الى قاعدة عسكرية أمنية في مواجهة حلف “وارسو”. واستغلت تأجج نيران الحرب الباردة في المنطقة واندفاع العرب للتقرب من السوفيت وتهديدهم بتدمير اسرائيل وحملتهم مسئولية رفض البحث عن حلول سياسية للصراع. وروجت أن أمنها مهدد. وفي سياق تعزيز أمن اسرائيل أمدتها الولايات المتحدة بالكثير من مقومات الحياة والتقدم، وخاصة التطور العسكري والعلمي والاقتصادي. وزودتها بمتطلبات القوة اللازمة لمواجهة العرب حلفاء السوفيت.
ومع احتدام الحرب الباردة وتطور علاقة عبد الناصر بالسوفيت زادت الادارة الامريكية في دعم إسرائيل اقتصاديا وعسكريا. وبدلا من الضغط على اسرائيل والزامها بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، إقترح في عام ١٩٥٥ وزير الخارجية الأمريكي دالاس مشروعاً لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في صحراء سيناء. وتضمن اقتراحه توطين بعضهم في عدد من الدول العربية. في حينه رفض العرب والفلسطينيون الاقتراح وقامت مظاهرات وتحركات شعبية في أكثر من بلد ضد المشروع. وندد الفلسطينيون في كل اماكن تواجدهم بفكرة التوطين وأكدوا تمسكهم بحقهم في العودة.
ورغم الدعم المادي والسياسي العسكري والمعنوي الذي تلقته إسرائيل في تلك المرحلة من الولايات المتحدة الامريكية والدول الاوروبية، الا ان قيادتها ومواطنيها ظلوا قلقين على الوجود، وظلوا يخشون على أمنهم من هجوم يشنه العرب. وزاد قلقهم بعد قيام ثورة 23 تموز 1952 في مصر بقيادة عبد الناصر، خاصة ان التقصير في تحرير فلسطين كان عنوانا للثورة عبد ناصر، ورفع قادتها شعار تحرير فلسطين وطرد اليهود منها. وإستغلت اسرائيل الخطاب القومي الناصري والحديث الاعلامي الدعاوي العربي عن تحرير فلسطين، وحولته الى قنبلة دخانية لتغطية نواياها العدوانية التوسعية وعمقت الحقد والكراهية في صفوف مواطنيها ضد العرب وكرست الخوف منهم. واستخدمته في تبرير رفضها تنفيذ قرارات الامم المتحدة. وحصلت اسرائيل على مساعدات عسكرية كبيرة أمريكيسة واوروبية كبيرة لمواجهة عبد الناصر حليف السوفيت الراغب في تدمير اسرائيل ورمي اليهود في البحر.
وتحت ستار المحافظة على أمن اسرائيل وسكانها ودرء الخطر القادم من نظام ناصر و”المخربين الفلسطينيين” المدعومين منه، شاركت اسرائيل بريطانيا وفرنسا عدوانهما على مصر. في حينه، عارضت الولايات المتحدة الامريكية الامريكية العدوان الثلاثي وضغط على أطرافه للانسحاب من الاراضي المصرية ومن قطاع غزة الذي احتلته اسرائيل. وكانت تلك المرة الاولى اليتيمة التي مارست فيها الادارات المتعاقبة الضغط على اسرائيل للأنسحاب من الاراضي العربية التي احتلتها.
وفي سياق معالجة مشكلات اسرائيل الامنية والاقتصادية وجه عام 1962 الرئيس الامريكي كينيدي رسالة إلى الملوك والرؤساء العرب عرض فيها تصوره لحل المشكلة الفلسطينية، على أساس حق كل فلسطيني بالعودة إلى وطنه إذا شاء، أو تعويضه عن ذلك إذا لم يشأ. لكن إسرائيل رفضت بشدة هذه الأفكار وشنت حملة واسعة ضدها. ولم يوافق العرب عليها لأنها حملت في طياتها مشروعا لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية، وتضمنت دعوة بصورة مبطنة للاعتراف بوجود إسرائيل كدولة من دول المنطقة.
ومع تصاعد الحرب الباردة بين العملاقين كانت الولايات المتحدة الامريكية تزيد في دعمها العسكري والسياسي والاقتصادي لاسرائيل. ورفضت الاعتراف بمنظمة التحرير التي قرر الزعماء العرب تشكيلها في قمة القاهرة عام 1964. واتخذت موقفا عدوانيا من حركة فتح وباقي الفصائل الفلسطينية التي ظهرت مطلع ستينات القرن الماضي وتبنت الكفاح المسلح.
وفي اطار الحرب الباردة شجعت الولايات المتحدة اسرائيل على العدوان على مصر وسوريا حليفتي الاتحاد السوفيتي. وشنت اسرائيل عدوانها الشهير في حزيران 1967، واحتلت مساحات واسعة من الاراضي المصرية والسورية وبقية الاراضي الفلسطينية (الضفة الغربية) التي كانت جزءا من المملكة الاردنية الهاشمية الاردنية. وابناء جيل هزيمة 1967 يتذكرون الانذارات الامريكية للاتحاد السوفيتي بعدم التدخل، واسطول النقل العسكري الذي تحرك جوا وبحرا من القواعد العسكرية الامريكية في امريكا واوروبا وبلدان أخرى، لدعم الهجوم الاسرائيلي وتعويض جيش الدفاع عن خسائره في الحرب رغم انها كانت محدودة.
واسفرت تلك الحرب عن نتائج أمنية ذات ابعاد استراتيجية تفاعلاتها لا تزال قائمة حتى الآن. وتعرض الامن الاستراتيجي للشعب الفلسطيني للخطر وانضمام مئآت الوف “النازحين” الفلسطينيين لاخوانهم اللاجئين الذين رحلّوا عام 1947و 1948. ودخل الشرق الاوسط طورا جديدا من الصراع الاقليمي ومن صراع الدول الكبرى على أرضه. ورغم وضوح قرار مجلس الدولي رقم 242 حول انسحاب القوات الاسرائيلية من الاراضي العربية التي احتلتها في حرب حزيران ، الا أن الحكومة الاسرائيلية تذرعت بالامن ورفضت تنفيذ القرار. وحصدت نتائج استراتيجية هامة منها تعزز مكانتها العسكرية والامنية في استراتيجية الحلف الاطلسي.
ولم تحاول الادارة الامريكية في حينه الضغط على القيادة الاسرائيلية لتنفيذ القرار، وساندت مواقفها واستخدمت حق الفيتو مرات عدة وعطلت قيام مجلس الامن الدولي بمعاقبة اسرائيل وعطلت تنفيذ قراراته. وظنت إسرائيل لفترة أن انتصارها الساحق على العرب وتمركز قواتها في مرتفعات الجولان وعلى نهر الاردن والضفة الشرقية لقناة السويس يوفر لها ظروف وأوضاع أمنية مثالية، ويمكنها توسيع حدودها على كل الجبهات، وفرض شروط الإستسلام على الدول العربية والاستمرار في إنكار وجود شعب فلسطين، وانكار حقوقه التي نصت عليها قرارات الشرعية الدولية. لكن هذا الاعتقاد سرعان ما تبدد بعد اصطدامه بالكرامة القومية.
وكرد فعل على الهزيمة ونتائجها رفض الفلسطينيون بقيادة م ت ف الاعتراف بالقرار242 واعتبروه مجحفا بحقوقهم. وفي القمة العربية التي عقدت في الخرطوم 29/8/ ـ1/9/67 رفع الزعماء العرب بتوجيه من عبد الناصر شعار “لا صلح ولا إعتراف ولا مفاوضات مع إسرائيل”. وتمسكوا بشعار تحرير فلسطين وكل الأراضي العربية المحتلة. وواصلوا الحديث عن تدمير دولة اسرائيل. ورفعوا القيود التي فرضوها على الحركة الوطنية الفلسطينية. وراحوا يتحدثون عن حرب التحرير الشعبية وتصعيد الكفاح الفلسطيني المسلح. وشجع بعضهم الاحزاب والحركات الفلسطينية السياسية على تبني الكفاح المسلح. واطلقوا العنان للفدائيين الفلسطينيين ليقوموا بما يمكن القيام به من اعمال عسكرية ضد اسرائيل. وظل الاعتراف بدولة سرائيل أحد أكبر المحرمات الفلسطينية والعربية على المستويين الشعبي والرسمي. وأصبح ذكر فلسطين واللاجئين مقرونا بظلم العالم للشعب الفلسطيني، وجرح المشاعر القومية والدينية للشعوب العربية والأسلامية.
إلى ذلك، لم تزعج شعارات قمة الخرطوم القيادة الاسراتئيلية ولم تقلق المؤسسة الأمنية الاسرائيلية، واستثمرتها الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة سنوات طويلة في التهرب من تنفيذ قرارات الامم المتحدة المتعلقة بنتائج الحرب وتكريس احتلالها للاراضي الفلسطينية والعربية.
في حينه أبدت الولايات المتحدة استنكارها الشديد لتوجهات الخرطوم واعتبرتها احد افرازات الحرب الباردة ونتيجة منطقية الضربة القوية التي تلقتها استراتيجية غريمهم الاتحاد السوفيتي واهانة اسلحته وصناعاته الحربية. وزادت في تعزيز قدرات اسرائيل العسكرية، وقدمت لها مساعدات مالية سخية ساهمت في تكريس الاحتلال الاسرائيلي.
وعندما شن المصريوين والسوريون هجومهم الواسع المباغت في اكتوبر 1973، دخلت الحرب الباردة على الخط بصورة مباشرة وقوية، وتدخلت الولايات المتحدة الامريكية لمنع العرب من استثمار الفوز المحدود الذي حققوه. وقدمت لاسرائيل مساعدات عسكرية واستخبارية ضخمة، واظهرت استعدادها للتدخل المباشر في القتال اذا اقتضت الضرورة ذلك وأصبح امن اسرائيل مهددا. وساندت الادارة الامريكية في عهد كارتر اسرائيل في المفاوضات التي أجرتها مع القيادة المصرية. وساهمت في التوصل الى اتفاقات كامب ديفيد الثنائية المصرية الاسرائيلية. صحيح ان هذه الاتفاقات اتاحت لمصر استعادة ارضيها التي احتلت عام 1967، الا انها أدت فك ارتباط مصر بالنزاع مع اسرائيل حول القضية الفلسطينية، قبل ان تعيد مصر للفلسطينيين قطاع غزة الذي احتلته اسرائيل في عهد الوصاية المصرية
وعندما شنت هجومها إسرائيل الواسع على لبنان عام 1982، غطت ادارة الرئيس ريغان هذا العدوان واعتبرته عملا ايجابيا يندرج في اطار مكافحة الارهاب وردع السوفيات وعملائهم في المنطقة. ويوم خروج القوات الفلسينية قال ريغان “عززنا جهودنا في المنطقة بهدف تطوير السياسة المشتركة مع أصدقائنا الاسرائيليين لردع السوفيات وعملائهم عن القيام بمزيد من التوسع في أرجاء الشرق الاوسط، والتصدي لهم إذا لزم الأمر”. وبعد رحيل منظمة التحرير من لبنان وتبعثر قواتها وكوادرها اعتقدت الادارة الامريكية ان الفرصة سانحة لفرض الاستسلام على الفلسطيين، وانهاء دور منظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني وحل المسألة الفلسطينية من جديد في اطار عربي اسرائيلي.
وبعد انفجار الانتفاضة الأولى أواخر عام 1987 أدركت الإدارة الأمريكية أن إنتقال مركز النضال الوطني الفلسطيني من الخارج إلى الضفة الغربية وقطاع غزة حرر قيادة م ت ف من ضوط كثيرة ووضعها بصيغة وأخرى خارج نطاق تأثير الدول العربية المباشر في قرارها. وبعد أقل من ثلاث شهور من إنطلاقة الإنتفاضة تحرك “شولتس” وزير الخارجية الأمريكي أواخر شباط 1988 إلى المنطقة لإستطلاع الأوضاع فيها، ولإستكشاف نوعية الخطوات الدبلوماسية الممكنة. بعدما تبين له بأن الإجراءات العسكرية الإسرائيلية الروتينية والإستثنائية غير قادرة على إخماد نيران الإنتفاضة.
ومع تجديد تحركاتها بإتجاه حل قضايا المنطقة، بدأت الإدارة الأمريكية بالحديث علنا بصيغة مبهمة عن الحقوق السياسية للفلسطينيين، بعدما ظلت سنين طويلة ترفض إستخدام هذا التعبير، وظلت ترفض إستخدام مصطلح حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. وقبل وصوله للمنطقة طرح وزير الخارجية الأمريكية “شولتس” مبادرة سياسية، أكد فيها ضرورة الشروع في تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. في حينه رفضت القيادة الفلسطينية إقتراح “شولتس” ومارست ضغوطا قوية على شخصيات الداخل ومنعتهم من اللقاء به. ورأت في الإقتراح خدعة كبرى هدفها إنتزاع موافقة القيادة الفلسطينية على شطب نفسها بنفسها لصالح قيادة بديلة، فلسطينية أردنية، تشكلها الإدارة الأمريكية. وشطب خيار الدولة المستقلة لصالح كيان هزيل تابع لإسرائيل، أو حل فدرالي مع الأردن أو كونفدرالي في أحسن الأحوال.
بعد فشل جولة “شولتس” في المنطقة انتعشت أمال القيادة الفلسطينية. وإعتبر بعض أعضائها بأن ما يجري على الأرض هو إنقاذ من الله للقضية الفلسطينية ومنظمة التحرير وقيادتها بعد الضربة القوية التي تلقتها في لبنان عام 1982. وتصور بعض أركانها بأن يوم إعلان الإستقلال الفلسطيني بات قريب. وبالغ بعضهم بقدرات الإنتفاضة ونتائجها، بلغ حد رفض أن تكون حدود الدولة الفلسطينية المنشودة محصورة في الأراضي التي إحتلت عام 1967، وطالبوا بتبني القيادة الفلسطينية موقفا رسميا خلاصته المطالبة بتنفيذ قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن مجلس الأمن الدولي عام 1947. ونبش بعض قادة المنظمة والفصائل حقدهم الدفين على الأنظمة العربية التي تآمرت على الفلسطينيين ومنظمة التحرير. ولم يخل الأمر من تفاقم شعور البعض بالذنب تجاه التقصير فترة طويلة مع أهل الداخل.
………………………………………………………
التحديات والعقبات الداخلية
اما بشأن التحديات الداخلية فهي ولا شك كثيرة وصعبة، ويمكن تقسيمها الى صنفين كلاهما يؤثر في رسم السياسة الأمنية وتنفيذها: الاول سياسي يتعلق بوضع السلطة واوضاع “فتح”، حزب السلطة الذي يتولي زمام قيادة أجهزة الامن الفلسطينية. وكذلك موقف قوى المعارضة من السلطة ومن أجهزة الامن الفلسطينية ومفهومها للمسائل الامنية في مرحلة التحرر الوطني.
والثاني مسائل فنية تعبوية تتعلق ببنية أجهزة الامن الفلسطينية ذاتها.
واذا كانت مهمة هذا البحث التركيز على الصنف الاول من العقبات والتحديات السياسية فان الاشارة السريعة الى إشكالات الصنف الثاني ضرورة لا غنى عنها. وفي هذا السياق لا أحد يتجنى على القيادة السياسية وقيادة المؤسسة الامنية حين يحملها مسؤولية ترهل أوضاع المؤسسة الامنية على حد تعبير وزير الداخلية نصر يوسف أمام المجلسش التشريعي. لقد تلكأت القيادة السياسة في بلورة استراتيجية أمنية واضحة ومتكامل، وخلطت بين متطلبات أمن الدولة ومقتضيات أمن الثورة. التزمت بالحل السياسي والمفاوضات، وتغاضت في احيان كثيرة عن ظهور مقومات تعارض هذا الحل وتعتمد الخيار العسكري، ولم يتوقف الأمر على الاتجاهات السياسة معارضة بل ظهرت في برامج وتوجهات حزب السلطة، وسخرت لها امكانات السلطة. عملت على بناء أجهزة أمن للسلطة وتغاطت عن بروز جماعات مسلحة بعضها أقرب الى مليشيا تابعة نظريا للسلطة، تعمل بصورة موازية لاجهزة الامن وتتمرد عليها. وكثيرا ما اصطدمت أجهزت الأمن الفلسطينية بمواقف وممارست “كتائب شهداء الاقصى”، و”كتائب أبو الريش”..الخ التابعة بصورة واخرى ل”فتح” حزب السلطة. ولا أحد يتجنى على قيادة السلطة انها تغاضت وسهلت لقوى المعارضة تشكيل مليشياتها المسلحة الخاصة. التي لم تقصر في التمرد على أجهزة السلطة وجر السلطة كلها الى مواقف تتعارض مع التزاماتها الدولية ومع الطرف الآخر.
والتدقيق في لوائح وانظمة عمل المؤسسة الأمنية يبين انها ظلت ناقصة، وقليلا ما تم الالتزام بها في مجالات بناء الأجهزة وهيكليتها، واختيار الكوادر وتأهيلها، ونظام التعيين والترفيع والرواتب والمكافئات. ويضاف لذلك كله جملة من العقبات الفنية والتنظيمية المعقدة فرضتها الاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية الأساسية أعقدها نقص الأجهزة والمعدات وضعف الامكانات البشرية والتسليحية المسموح بها والمتاحة للاجهزة وما رصد من السلطة لبناء الأجهزة وتطويرها.
اما العقبات والتحديات الداخلية ذات البعد السياسي فهي كثيرة وشديدة التعقيد وتحد من قدرة أجهزة الامن على النهوض بالمهام المسندة اليها والتوفيق بين متطلبات الأمن الوطني الفلسطيني (شعب وسلطة وارض وممتلكات) ومتطلبات أمن اسرائيل والاسرائيليين وفق الالتزامات الواردة في الاتفاقات بدءا من اوسلو وانتهاء بخريطة الطريق.
أظن ان طغيان الفصائلية على بنية المؤسسة الأمنية الفلسطينيية أخطر وأعقد هذه التحديات، ومفاعيلها السلبية سوف تظهر بقوة بوضوح في المرحلة القادمة، وقد تفرض نفسها على اطراف النظام السياسي الفلسطيني كقضية مركزية مؤثرة في تنظيم الوضع الوطني خصوصا إذا فازت قوى المعارضة بالسلطة عبر صناديق الاقتراع، او قررت المشاركة في تشكيلة الحكومة بعد الانتخابات التشريعية. ولا أحد يكشف سرا حين يقول ان أكثر من 97% من كوادر أجهزة الأمن الفلسطينية حزبيون ينتمون الى “فتح” ويلتزمون أوامر قيادتها.
لقد فازت قوى المعارضة في انتخابات ديمقراطية نزيهة بنسبة كبيرة من المجالس البلدية، ويتوقع لها ان تفوز بنسبة مهمة في المجلس التشريعي. وبصرف النظر عن أسباب تحقيق هذا النجاح فتأييد الشارع لها يسلحها بحق المطالبة بتنفيذ مواقفها وتوجهاتها “المتطرفة” وهذا يملي على أجهزة الامن الفلسطينية أخذ هذا الامر بعين الاعتبار.
الى ذلك، أعتقد أن تمسك المعارضة الفلسطينية بمواقفها المعروفة من الاتفاقات الامنية والسياسية التي وقعتها السلطة مع الجانب الاسرائيلي يزيد في تعقيد عمل أجهزة الامن الفلسطينية في المرحلة القادمة. أما إصرار هذه القوى على تنفيذ قناعتها المتعلقة بالكفاح المسلح اسلوبا رئيسيا او وحيدا “للتحرير” وتحقيق الاهداف الوطنية فانه يعني مزيدا من العسكرة لحركة النضال الفلسطيني، ويربك علاقة السلطة مع اسرائيل والقوى الدولية المعنية بالنزاع واستقرار المنطقة، ويشل عمل أجهزة الأمن الفلسطينية ويهدد وجودها.
لا شك في أن سياسة رئيس الحكومة الاسرائيلية ساهمت في تعزيز توجهات القوى الفلسطينية “المتطرفة” التي تؤمن بالعمل العسكري سبيلا للتحرير. وجاءت خطة الفصل من جانب واحد التي نفذها شارون خارج عملية السلام ودون تنسيق جدي مع السلطة، وعززت توجهات المعارضة “العسكريتارية”. وبصرف النظر عن الاسباب والدوافع الحقيقية التي دفعت شارون الى الانسحاب من قطاع غزة وتدمير المستوطنات هناك، فلا أحد يستطيع القول ان ادعاء المعارضة بان دورها اساسي في اجبار شارون على هذه الخطوة باطل لا أساس له.
وأظن ان تبشير المعارضة بتصعيد العمل العسكري ضد قوات الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية ينبؤ باحتلال هذا الجانب من التحديات موقعا اساسيا في المرحلة القادمة يعقد عمل اجهزة الامن الفلسطينية ويمثل تحدي جدا لها لا يمكنها تجاوزه بالقوة وبالاستناد الى قدراتها القتالية، خاصة ان انصاره زادوا في الشارع الفلسطيني وفي صفوف قوى النظام السياسي الفلسطيني بشقيه سلطة ومعارضة. والحديث عن انتفاضة ثالثة في المفهوم الدارج يعني مزيدا من العسكرة وليس التوجه لتوسيع العمل الجماهيري السلمي. ويعني تطوير العمليات العسكرية في مناطق الضفة الغربية ودخول الهاونات والصواريخ ميدان القتال واستهداف مدن اسرائيلية حدودية واحتمال استخدام معدات وأسلحة جديدة.
الى ذلك، سوف تواجه أجهزة ال،من الفلسطينية تحديد جديد يتمثل في ضبط الوضع الأمني في قطاع غزة بعد الانسحاب الاسرائيلي. وتزداد تاثيرات هذا التحدي على دور اجهزة الامن الفلسطينية تبعا لموقف المعارضة الفلسطينية من مسألة وحدانية السلطة/ ومدى استعداد التشكيلات المسلحة لحل نفسها والانخراط في أجهزة السلطة. كما تتأثر أيضا بتوجهات الجانب الاسرائيلي وخططه ازاء الوضع في القطاع بعد الانسحاب العسكري واخلاء المستوطنات، وتحديدا موقفه من رقابة المعابر، وحركة البضائع والافراد من الخارج الى القطاع، والحركة بين الضفة والقطاع ومسألة اعادة تشغيل المطار وبناء المطار..الخ وبديهي القول ان اصرار الجانب الاسرائيلي على فرض وؤيته على الجانب الفلسطيني يعقد مهمة اجهزة الامن الفلسطيني في ضبط الوضع ويزيد في امكانية انتشار الفوضى.
سوف تواجه أجهزة الامن الفلسطينية في المرحلة القادمة تبعات توقف عملية السلام فترة ليست قصيرة. فالانسحاب من غزة واربع مستوطنات في شمال الضفة نفذ في سياق توجه شاروني هدفه شل عملية السلام وقطع الطريق على تنفيذ خريطة الطريق الدولية. وشارون لا يخفي موقفه القائم على اهمال الشريك الفلسطيني وتجاوزه. ويعلن صباح مساء لا خطوة فك ارتباط ثانية. وفي جميع الحالات اعتقد ان تفاعلات خطوة شارون داخل ليكود واليمين الاسرائيلي سوف تقود الى انتخابات برلمانية مبكرة يصعب التكهن بنتائجها التنظيمية لكن نتيجتها على عملية السلام معروفة سلفا. تبدا بتصعيد المواقف وزيادة المطالبة الاسرائيلية وتنتهي بتجميد المفاوضات الى ما بعد الانتهاء من المعركة الانتخابية ودائما تحظى مثل هذه التوجهات بمبارك أمريكية والى حد ما دولية
الى ذلك يفترض ان لا يكون خلاف على ان المطالب والشروط الامنية الاسرائيلية لاي تسوية سياسية تبقى مساحات واسعة من الاراضي الفلسطينية في الضفة الغربية تحت الاحتلال، وتفقد اي كيان فلسطيني معظم مقومات السيادة والاستقلال حتى لو سمي دولة مستقلة واعترف العالم بها. وعلى القيادة الفلسطينية ان تتوقع ان يسقط الجانب الاسرائيلي في مفاوضات الحل النهائي، في حال استئنافها يوما ما، كل ما له علاقة بالسيادة والأمن الفلسطينيين. وأظن ان اعلان قيام دولة فلسطينية واعتراف اسرائيل بها لن يغير في استراتيجية الأمن الاسرائيلية القائمة على:
1) الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية الكبيرة في الضفة الغربية والتمسك بالحد الادنى باطروحة حزب العمل التي تقدم بها في محادثات طابا مطلع عام 2001 في عهد باراك. حيث أصر الجانب الاسرائيلي على الاحتفاظ بتجمع مستوطنات أرائيل بين قلقيلية وسلفيت. ضم تجمع مستوطنات غوش عتصيون القائمة بين بيت لحم وحلحول والخليل، وضم أراضي “إصبع اللطرون” التي بنى فيها مدينة “مودعين” وطالب بضم جميع المستوطنات الواقعة داخل حدود بلدية القدس الشرقية. وأصر على ضم مستوطنة “مدينة” “معاليه أدوميم” التي تفصل جنوب الضفة عن وسطها وتشرف على البحر الميت. ومستوطنة جبعات زئيف التي تفصل القدس عن رام الله وتفصل المدينتين عن منطقة اللطرون وعدد كبير من القرى الفلسطينية الواقعة غرب المدينتين.
2) ضمان تجريد الضفة الغربية وقطاع غزة من السلاح الثقيل، وضمان عدم قيام الدولة الفلسطينية بتصنيعه. وعدم التزود بالدبابات وبالمدافع المضادة لها، وبالطائرات والأسلحة المضادة لها. وأن لا تمتلك الدولة الفلسطينية جوى قوىة او بحرية جدية قوية مسلحة باسلحة ثقيلة حديثة. وسيصرعلى بقاء المجال الجوي الفلسطيني تحت السيطرة الأسرائيلية المطلقة، وبقاء المياه الإقليمية الفلسطينية تحت راقبتهاالامنية الدائمة.
3) ضمان سيطرة الأجهزة الامنية الفلسطينية على الأمن داخل حدود “الدولة الفلسطينية”. ومنع تحول أراضيها الى قواعد إنطلاق لعمليات عسكرية صغيرة او كبيرة ضد إسرائيل، وضد الاسرائيليين وضمنهم المستوطنين. ومنع التحريض ضدها او القيام بأعمال عنف ضد وجودها المدني والعسكري في الضفة وقطاع غزة. وضمان التنسيق الأمني الثنائي المشترك وتطويره حسب الحاجة ووفق تطور الوضع ميدانيا. وابقاء الامن الفلسطيني خاضعا للتجربة والاختبار فترة طويلة. والشق الأمني من اتفاق “واي ريفر” نموذج مصغر لما ستسعى اسرائيل فرضه على “الدولة الفلسطينية”.
4) تعهد “الدولة الفلسطينية” بعدم الدخول في أحلاف واتفاقات ومعاهدات امنية وعسكرية مع اي طرف آخر بصرف النظر عن طبيعة علاقته باسرائيل.
5) إجراء تعديلات جوهرية على حدود عام 1967. وحدود دولة اسرائيل الامنية في نظر الليكود واركان المؤسسة العسكرية هي نهر الاردن. وتمتد الى حيث تتواجد المستوطنات، وخزانات المياه الجوفية التي تطمح اسرائيل الى ضمها. وبرامج احزاب اليسار الإسرائيلي تؤكد مشاركتها بصيغة وأخرى موقف شارون الداعي الى اجراء تعديلا واسعة على حدود الضفة الغربية. واكثر اوساط العمل اعتدالا يعتقد ان استقطاع نسبة 4ـ 8% من أراضي الضفة الغربية أمرأ ضروريا للأغراض الأمنية الحيوية، وبقاء بعض التجمعات الاستيطانية تحت السيادة الإسرائيلية. صحيح أن بعضهم تحدث عن مبادلة الأراضي المنوي ضمها بمساحات مماثلة من اراضي النقب المجاورة لقطاع غزة، إلا أن أصحاب هذه الأطروحات لم يوضحوا أفكارهم وأبقوها في إطار جس النبض وإستطلاع ردود الفعل الفلسطينية.
6) نشر الجيش الاسرائيلي على طول الحدود مع الاردن ومصر. وبقاء المعابر الدولية الى الضفة والقطاع تحت السيطرة الامنية الاسرائيلية ولو بصورة غير مباشرة وربما عبر طرف ثالث بما في ذلك الإشراف على الموانئ والمطارات والممر بين الضفة وغزة لضمان الامن. والتحكم بنوعية الحركة ومنع تدفق اللاجئين والنازحين الى أراضي الدولة الفلسطينية، وحرمان الدولة الفلسطينية من اي تماس مباشر مع الدول العربية المجاورة.
7) الاحتفاظ بعدد من القواعد العسكرية القوية على طول الحدود. واقامة محطات الإنذار المبكر في مرتفعات الضفة الغربية وعلى سواحل قطاع غزة وحدوده مع مصر، وحيث تراها ضروريا لأغراض الأمن الأستراتيجي والأعمال الإستخبارية. وضمان حرية وسلامة حركة الجيش الإسرائيلي الى هذه القواعد، وتعاون الفلسطينيين في حمايتها من الإعتداءات المحلية.
8) ضمان عدم بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية تحصنات عسكرية قوية من نوع زرع الألغام وحفر الخنادق على الحدود وإقامة السواتر والدشم القتالية..الخ.
واخيرا يمكن القول ان مفهوم الأمن الاسرائيلي القائم على الاستعمار والتوسع ساهم في نشوء جبال من الحقد والكراهية بين الشعبين الاسرائيلي والفلسطيني، وأخر إعتراف اسرائيل بوجود الشعب الفلسطيني وممثله م ت ف عقود طويلة. وساهم في تفجير أربع حروب كبيرة بين العرب وإسرائيل 1956، 1967، 1973، 1982، وانتفاضتين تم عسكرت احدهما بسرعة. وهذا المفهوم وترجماته حقن الشعوب العربية من المحيط الى الخليج بالعداء لإسرائيل. واربك موقف حزب العمل في المفاوضات مع الفلسطينيين، وقد يكون سببا رئيسيا في تدمير ليس فقط عملية السلام بل قتل البذرة .
الى ذلك، يمكن القول ان التحديات التي تواجه اجهزة الامن الفلسطينية كبيرة، تعرقل قدرتها على انتهاج سياسة امنية مستقلة، ويعيق تنفيذها، ويحد من امكانية تطوير قدرات الاجهزة الامنية. ونجاح هذه الأجهزة في موجهتها يحتاج الى معجزة في وقت لا مجال فيه لمعجزات خيالية. خصوصا في حال طغيان الذاتية الحزبية على المصالح الوطنية العليا ونقص الديمقراطية وعدم احترامها كناظم للعلاقات الوطنية.
اذا كان بقايا الفكر الصهيوني التوسعي عطل في السنوات العشر الاخيرة الوصول الى حل يوفق بين الامن الاسرائيلي والسيادة الفلسطينية، ولا افق لحل امريكي او دولي يفرض على اسرائيل ، فلا خيار أمام الفلسطينيين في هذه المرحلة سوى الصمود في الارض والتمسك بالحقوق المشروعة التي ضمنها الشرعية الدولية، ورفض المفاهيم الامنية الاسرائيلية التوسعية التي تقوض السيادة الفلسطينية. وأيضا التمسك بالاتفاقات الموقعة بين الطرفين بدءا من اوسلو وانتهاء بخريطة الطريق والتوفيق بين متطلبات الأمن الوطني الفلسطيني ـ شعب وسلطة وارض وممتلكات ـ ومتطلبات أمن اسرائيل والاسرائيليين وفق الالتزامات الواردة في الاتفاقات ورفض الخضوع لابتزازات شارون والمؤسسة الامنية الاسرائيلية. والعمل على ضبط الوضع في قطاع غزة بعد “الانسحاب”، وتعطيل هدف شارون في خلق حالة من الفوضى في القطاع. وتحضير الاوضاع الذاتية لمواجهة تبعات توقف عملية السلام بعد هذا “الانسحاب” واستكمال بناء الجدار وتكريسه حدودا تفصل بين الطرفين.