تحرر قطاع غزة حدث تاريخي لا يحتمل الارتباك

بقلم ممدوح نوفل في 07/08/2005

بات في حكم المؤكد ان ينفذ رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون “خطته” للانفصال عن الفلسطينيين وسحب الجيش وإخلاء قطاع غزة من المستوطنين مهما كانت الظروف. وحشد للمهمة كل طاقات الدولة التعبوية الامنية والسياسية ووظف لها علاقاته الدولية وصداقاته الشخصية. ونال دعما امريكيا منقطع النظير. وتشير المعلومات الى ان الجيش الاسرائيلي سيبدأ منتصف أب “اغسطس” الجاري اجلاء المستوطنين في ثلاث مستوطنات شبه معزولة (نتساريم وموراج وكفارداروم) وستبقى منشئاتها المدنية تحت سيطرته بانتظار قرار القيادة السياسية. ويرتبط هذا التصميم، بتقدير شارون للمصالح العليا لاسرائيل أمنياً وسياسياً وديموغرافياً، ولا علاقة له بموجبات السلام ومتطلبات تطبيق “خريطة الطريق” الدولية. وشارون لا يخفي ان أحد أهداف “التنازلات المؤلمة” شطب “الخريطة” وشطب عملية السلام وإلغاء انجازاتها، والالتفاف على الاجماع الدولي حول حق الفلسطينيين في دولة تشمل الضفة الغربية.
وأبرز الحجج التي يقدمها لقواعد “ليكود” وجمهور اليمين المتطرف في الجدل الداخلي المستعر حول “الخطة” هي المحافظة على يهودية الدولة، وتعزيز الروابط الاسرائيلية الامريكية. وهو مقتنع بأن قطاع غزة بمساحته الصغيرة وموارده القليلة وكثافته السكانية عبئاً استراتيجياً على دولة اسرائيل. ويعتقد أنها لن تكون قادرة، مع مرور الزمن، على تحمل تكاليف استمرار وجودها فيه مادياً وامنيا وسياسياً. ويعد شارون انصاره ومؤيديه بأن تكون الخطوة آخر تنازل يقدمه للفلسطينيين، وأن يعوضه بالتوسع في الاستيطان في الضفة الغربية وترسيخه في القدس.
وفي سياق تصميمه على تنفيذ مشروعه، حسم شارون، بسرعة، النزاع مع لوبي المستوطنين الذين تنتمي غالبيتهم الى حزب “ليكود”. وهدد الوزراء بالطرد من الحكومة في حال الامتناع عن دعم “الخطة”. ولتحقيق هدفه اعتمد شارون مع المستوطنين، المتشبثين بالبقاء في القطاع ويستغلون أخصب الاراضي وأجمل المواقع، استراتيجية العصا والجزرة؛ أمر الجيش بتنفيذ “الخطة” بالقوة ومهما كان الثمن، ودعا الى إنزال أشد العقوبات بالعسكريين الذين يعصون الأوامر ويرفضون المشاركة بعملية الإجلاء. وأقر بالاعتماد على “الكرم” الامريكي، أكثر الموازنات سخاء لتعويض المستوطنين وإعادة توطينهم في أماكن أخرى. ولم يتوقف عند التحذيرات من احتمال وقوع “نزاع أهلي واسع” داخل اسرائيل بسبب “الخطة”. وظل يتعامل مع المشكلة على أنها خلاف يتعلق بالمصالح العليا للدولة وليس خلاف تكتيكي يقبل المناورة والاجتهاد.
في موازاة ذلك، يواصل شارون حملته على السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية بحجة التقصير في مكافحة “الإرهاب” والتردد في تجريد مسلحي حماس والفصائل الأخرى من أسلحتهم. وفي وقت يهدد بتوجيه ضربة قاسية مدمرة لقطاع غزة في حال تعرض الجيش لنيران فلسطينية مؤثرة اثناء “الانسحاب”، أوعز للمعنيين في اجهزة الأمن باجراء الاتصالات مع المعنيين في السلطة للبحث في توظيف الامكانات الفلسطينية في خدمة الاخلاء و”الانسحاب” وفق رؤية اسرائيل. وحققت المباحثات تقدماً محدودا ظل محصورا في الاطار التقني، من نوع تسليم الجانب الفلسطيني خرائط المصانع والبنية التحتية التي تبين شبكات الكهرباء والماء والطرق والجسور. ولم تعالج المحادثات مسائل كبيرة حساسة مثل الارتباط القانوني والسياسي بين اراضي القطاع التي سيجلو عنها الاحتلال مع الضفة والقدس، والممر الأمن بين الضفة والقطاع، ومستقبل عملية السلام بعد “الانسحاب” وأيضا ترسيم الحدود، ومصير تعديل حدود عام 1949 الذي تم من جانب واحد في منطقة ايرتز عام 1967، وضم ما يقارب 80 كيلومتر مربع من الارض الفلسطينية لاسرائيل..الخ
وجدير بالذكر أن العلاقات التجارية مع قطاع غزة وترتيب وضع المعابر موضع تبيان في الجيش والقيادة السياسية: منهم من يدعو الى ابقاء معبر رفح وحركة البضائع والأفراد تحت سيطرة الجيش ويرفض اشراك اي طرف ثالث. ويخشى أصحاب هذا الرأي تكريس الطرف ثالث سابقة يجري اعتمادها لاحقا في معالجة قضية المعابر من والى الضفة الغربية. ومنهم من يقترح تقسيم المعبر الى معبرين؛ الأول؛ يخصص للركاب يسلم للفلسطينيين تحت إشراف طرف ثالث أوروبا ومصر، ومعبر ثان خاص بالبضائع يتم استحداثه قرب بلدة “كيرم شالوم” داخل اسرائيل عند ملتقى الحدود الفلسطينية الاسرائيلية المصرية. ورغم محاولات انصار هذا الرأي تغطية موقفهم الاستعماري بموضوعة الأمن، الا ان جوهره اقتصادي يعبر عن تمسك أصحابه ببقاء سوق قطاع غزة حكرا على المنتوجات الاسرائيلية. ومعروف للجميع أن الضفة والقطاع هما أكبر ثاني سوق للمنتوجات الاسرائيلية، يخشى كثيرون فقدان ثلثه “القطاع” لحساب منتوجات آخرين.
الى ذلك، يسعى شارون لإبقاء هذه المسائل الجوهرية ذات الابعاد السياسية معلقة الى ما بعد الانتهاء من تنفيذ خطته، وان تصبح مادة مفاوضات طويلة مع الفلسطينيين والوسطاء الدوليين. ويخطط لتوظيفها في الهروب من الاجابة على أسئلة اليوم التالي “للانسحاب”، واستخدامها في قتل الوقت حتى الانتهاء من الانتخابات الاسرائيلية العام القادم. وقبل أيام من بدء تنفيذ “الخطة” رسميا، يمكن القول ان شارون لم يهمل أي عامل من عوامل النجاح والتخلص من عبئ الاستيطان واخراج جيشه من مستنقع غزة. واهتم بالعامل الاقليمي المتعلق بالدور المصري، وأبدى تساهلاً في المحادثات مع المصريين حول ضبط الحدود مع القطاع، ووافق على تعزيز الوجود العسكري المصري ونشر كتيبة مشاة جديدة في المنطقة، ولم يسمع تحفظ بعض أركان القيادة العسكرية وأقطاب في حزب “ليكود” حول تعديل اتفاقات كامب ديفيد.
لا شك في أن “الانسحاب” سوف يتم، وقطاع غزة سوف يتحرر من الاستعمار الصهيوني قبل نهاية العام. وهذا التطور التاريخي يخلق حراكا نوعيا في الساحتين الفلسطينية والاسرائيلية، وينقل الصراع محطة جديدة أعقد وأعنف. وهذه التطورات تخضع الفكر الفلسطيني لامتحان لم تواجه مثله أطياف الحركة الفلسطينية، الفشل فيه ممنوع ويتسبب في كارثة جديدة. وجميع القوى الوطنية والاسلامية ملزمة باعادة النظر في علاقاتها بعضها ببعض ووضع اسس جديدة لتنظيم علاقتها بالناس وادارة شئون الحياة اليومية. وتجد نفسها للمرة الأولى، تعمل من دون مشجب الاحتلال الذي ظل يستخدم في تبرير الفشل والتقصير.
إلى ذلك، بديهي القول ان النجاح في المرحلة الجديدة لا يتوقف فقط على انتزاع بقية الحقوق في قطاع غزة، واعادة بناء ما دمره الاحتلال، واجادة ادارة الشؤون الأمنية والاقتصادية، بل وأيضا في ادارة الصراع ضد الاحتلال في الضفة، وقلب السحر على الساحر “شارون” وتحويل خطة “الانسحاب” وجلاء المستوطنين عن القطاع الى سابقة وخطوة ثابتة في عملية السلام.
اعتقد ان التدقيق في اوضاع الجبهة الداخلية يبين أن القوى الوطنية والاسلامية مرتبكة في مواجهة “خطة” شارون، واوضاعها ليست على ما يرام، وعلاقاتها تبعث على القلق ولا توفر الشروط الضرورية لاستيعاب الحدث النوعي المنتظر. واذا وضعنا جانباً القضايا اليومية المرتبطة بالتطاول على السلطة وأجهزتها والتمرد على قراراتها وتعدد مراكز القوى وخلق حالة من ازدواجية السلطة، والفلتان الأمني والعنف ضد السكان وممتلكاتهم والفساد..الخ فان ترتيبات النظام السياسي، سلطة المعارضة قاصرة عن مواجهة التحديات والنهوض بالمهام الجديدة لهذا الحدث التاريخي. ولا يزال حزب السلطة “فتح” والقوى المؤتلفة معه ضائعين يركزون على مساءل مظهرية، ولم يجدوا المنهج القادر على استقطاب الناس وتبديد قلقهم واقناعهم بقدرة أجهزة السلطة السيطرة على الوضع بعد جلاء الاحتلال.
وبينت اجتماعات مركزية فتح التي عقدت في عمان الشهر الماضي وما تلاها من مواقف فتحاوية، ان الاتفاق على تجاوز الماضي وعدم فتح ملفاته الشائكة، لم يرسي أساسا ثابتا لعلاقة فتحاوية صحيحة. ولم تعمر “وحدة القيادة” التي حرص أعضاء مركزية فتح على إظهارها، وجاءت الاحداث وأكدت انها شكلية ونار الخلافات الداخلية ظلت كامنة تحت الرماد. واعلان فتحاوييون عن الشروع في تشكيل جيش شعبي في قطاع غزة، ومعها تصريحات فاروق القدومي “أبو اللطف”، أمين سر حركة فتح، حول تشكيل الوفد الفلسطيني للقمة العربية، التي لم تعقد، تؤكد هذا الاستخلاص المقلق.
لقد منح ابو اللطف نفسه حق التصرف ليس فقط كزعيم اول لفتح، بل وقرر تشكيل الوفد الدولة للقمة وسمى رئيسه واعضاءه. علما ان القمة، قمة دول وليس اجتماع زعماء حركة تحرر وطني، ومخاطبة الجامعة العربية ورؤساء الدول مسألة تخص السلطة ورئيسها، وليس لفتح علاقة رسمية مباشرة بها. ولا ادري اذا كان الفتحاوييون ابناء حزب السلطة، اصحاب فكرة تشكيل جيش شعبي مهمته السيطرة على القطاع بعد الانسحاب، يدركون ان موقفهم هذا يرسّم ازدواجية السلطة ويؤسس لفوضى عارمة، ويرخص لحماس وقوى المعارضة تشكيل مليشياتها الخاصة بموازاة أجهزة الأمن الفلسطينية..
الى ذلك، لم يتوقف تضعضع الجبهة الداخلية عند هذا الحد، ولم تستطع حماس وقوى الاقتراب من السلطة الى حد تشكيل جبهة موحدة يفرضها تحدي “الانسحاب” من القطاع والطبيعة الجديدة للصراع في الضفة. صحيح ان قوى المعارضة التزمت بالهدنة لكن هذا الالتزام لا يزال هشا ولا أحد يضمن استمراره. والهدنة تعالج مسألة العلاقة مع قوة الاحتلال لفترة، لكنها لا تعالج القضايا الوطنية الملحة ولا تزيل قلق الفشل في الامتحان. وجل اهتمام المعارضة منصب على مساءل مظرية وسبل تحقيق مكاسب حزبية صغيرة وليس تحضير الوضع الوطني للنهوض بمهام ما بعد التحرير وجلاء الاحتلال.
لا شك في ان اتفاق السلطة والمعارضة حول جميع القضايا المختلف حولها أمر غير ممكن لاسباب كثيرة، لكن هذا لا يعني البقاء في وضع انتظار والاستسلام لما تقرره الاقدار خلال وبعد “الانسحاب”. وما دام الجميع متفقين على الاستمرار في “الهدنة” وتجميد الصراع الداخلي وتحاشي “صوملة” الوضع، فاني أعتقد ان الحركة في الاتجاه الصحيح تبدأ بالاتفاق على رفض اي ترتيبات اسرائيلية تتعارض مع المصالح الوطنية العليا. واقرار المهام الوطنية للمرحلة الانتقالية والشروع في معالجة االملح منها. ووضع ترتيبات وطنية سياسية وتنظيمية انتقالية ملزمة، تستمر حتى ظهور نتائج الانتخابات التشريعية التي لا بد من اجراءها باسرع وقت، ويفضل قبل نهاية العام. وفي جميع الحالات لا غنى عن الاقرار بوحدانية السلطة واحترام قراراتها وتسهيل عمل اجهزتها ومساعدتها في السيطرة على كل شبر يجلو عنه الاحتلال.