تقديم كتاب “مغدوشة” قصة الحرب على المخيمات ـ فيصل حوراني

بقلم ممدوح نوفل في 10/07/2005

مقدمة
في مقدمة “ليلة انتخاب السيد الرئيس”، رأى فضل النقيب أن ممدوح نوفل استوفى مهمة الفن الأولى حين أفلح في استعادة الاحساس بالحياة وتحويل الاشياء المألوفة إلى أشياء غير مألوفة. وقد عرض كاتب مقدمة الكتاب الذي سبق هذا الكتاب الأسباب التي بنى رأيه عليها، وفيها ما يغنيني عن الإفاضة . فقد وجدت في “مغوشة، قصة الحرب على المخيمات” ما وجده فضل في سابقه. إننا هنا أيضا إزاء نص استوفى شروط العمل الفني وهو يقدم روايةّ أحداثها وأبطالها واقعيون.

وباستعادة تقويم فضل الكتاب السابق، يمكن القول عن هذا الجديد إنه قدم هو الآخر مشهدا من مشاهد التراجيديا الفلسطينية وتميز بتقديم مشهد من التراجيديا اللبنانية. ليس هذا فقط، بل إنه أغنى المشهدين كليهما، حين قدم ما فعله الأشقاء العرب وما أحجموا عن فعله ولم يهمل ما فعلته إسرائيل، فأحاط بالصورة التراجيدية كاملة.

يستند الكاتب إلى خزين غني بالخبرة والمعلومات ويغدق علينا منه بسخاء غيرمسبوق. وقد تضافر أمران جعلا خزين ممدوح وفيراً: موقعه القيادي الذي جعله واحدا من صانعي الأحداث ووصله بصانعيها الآخرين؛ وولعه بتقصي التفاصيل، الولع الذي تخدمه عين نفاذة وبصيرة لا تهمل دلالة أي حدث. ويمكن التذكير هنا بأن الذين شغلوا في الساحة الفلسطينية مكانة مساوية لمكانة ممدوح واستحوذ عليهم الولع بالتفاصيل كانوا كثيرين. لكن ممدوح تفرد بين هؤلاء بمواظبته على كتابة يوميات يسجل فيها أولا بأول كل ما كان يفعله أو يسمع به أو يعاينه. وإلى اليوميات، واظب المولع بالتفاصيل على كتابة محضر كامل لكل لقاء عمل اشترك فيه، وعني بأن يضم المحضر أقواله هو وأقوال الآخرين وملاحظاته على الجميع. وفي هذا وذاك، حرص الكاتب على أن لا تتأثر صياغته ليومياته ومحاضره لا بأهوائه ولا بآرائه المسبقة.

هذا الخزين، او هذا النوع من الخزين وفر لصاحبه ما لم يتوفر لسواه ممن كتبوا شهاداتهم او ألفوا قصصا وروايات تستقي مادتها من مجرى الحياة العامة. إنه الخزين الذي أغنى الراوي عن النبش في ثنايا ذاكرته وذاكرات غيره، وهو الذي جنبه مشقة تقصي النتف المتفرقة في المراجع العامة. وبوجود الخزين الغني، لم يعد الكاتب في حاجة إلى المخيلة لملء فجوات الذاكرة أو استدراك ما أهملته المراجع.

معنى هذا أن الرواية التي يحكيها ممدوح هنا لم تنج من شوائب الأهواء والآراء المسبقة وحدها، بل نجت كذلك من المؤثرات السلبية التي تلون محفوظ الذاكرة بألوان مستجدة فتطمس لونه الأصلي أو تبهته. وببقاء اللون الأصلي، نجت الرواية من مؤثرين إثنين كان من شأن أي منهما أن يشوهها: جنوح المخيلة أو قصورها؛ والأخطاء المتعمدة وغير المتعمدة التي قد تنطوي عليها المراجع العامة. وثمة ميزة أخرى؛ فبالإستناد على ما سجل بتمامه في حينه، توفرت للسرد والوصف واستنباط الدوافع طزاجةّ كاملة المذاق. وذلك لأن الراوي احتفظ بهذه الطزاجة حين نقل ما نقله من خزينه الى الرواية. وهكذا، تلقينا رواية تحكي ما جرى قبل عقود بالصيغة التي كان يمكن أن يحكى بها يوم وقوعه أو لحظة وقوعه بالذات. ومما لا شك فيه أن طزاجة الحكي فعلت فعلها في تعزيز صدقية الرواية، الصدقية التاريخية والصدقية الفنية. وبتوفر المذاق الطازج، خدم التاريخي الفني في النص وخدم الفني التاريخي: عزز كل منهما حضور الآخر.

مع كل ما تقدم، معه كله، لم يكن من اليسير الظفر برواية موثوقة لو لم يكن الراوي أمينا أمانة تامة، ليس فقط في إعداده خزينه في حينه، بل، أيضاً، في التعاطي معه بعد انقضاء عقود. وما أسهل أن يدرك القارئ أن ممدوح نوفل نقل من أوراقه القديمة ما نقله إلى الرواية دون أن يخضع العملية للأهواء أو الآراء المسبقة، لا لقديمها ولا لمستجدها. لم يبرز ما يحبذه ويكتم أو يبهت ما لا يحبذه، بل أعطى لكل منهما مساحة متساوية. وبهذا، أتاح الراوي للقارئ أن يتلقى الحكايات المتعددة للحدث الواحد ويطّلع على وجهات النظر المتباينة بشأنه.

الشاهد الأريب لا يحيرك في أمره ولا يترك مجالا للشك في صدق ما يحكيه، حتى حين لا تتفق معه بشأن ما يمكن استخلاصه من دلالة أو رأي. يفرد الشاهد الأديب ما لديه، لا يكتم منه شيئاً ولا يضيف إليه شيئاً تحت أي ذريعة. يروي ما خبره بنفسه، وما رآه بأم عينه أو سمعه بأم أذنه، ويترك لك أن تكوّن رأيك وتستخلص الدلالة وتنشيء حكمك بنفسك. ومما لا شك فيه أن راوي قصة احتلال مغدوشة والحرب على المخيمات هو شاهد أريب.

يضيق الراوي بشخص ما ويملك أسباباً تبرر ضيقه، لكنه لا يتعسف بفرض أسبابه وحدها على النص. إنه يبسط هذه الأسباب خلال روايته، يصف سلوك الشخص ويصور شخصيته ومواقفه، لكنه يبسط أيضا أسباب الآخرين الذين يخالفونه الرأي في الشخص نفسه. ويفعل الراوي الشيء ذاته بوجهيه إن تعلق الأمر بشخص يعجبه هو ويضيق آخرون به. هو يضيق مثلا بشخصية نايف حواتمة حد الاختناق ويسرد الوقائع التي تشي بضيقه وتبرره:
ختل الأمين العام للجبهة الديمقراطية التي كان هو عضواً في مكتبها السياسي وقائداً لمسلحيها، وتلوّن هذا الأمين العام، وارتهان مواقفه لحساباته المفرطة في الذاتية، واستهانته بالنظام الدالخلي للجبهة، وتعسفه في استخدام سلطته بما هو أمين عام، ووهن عزيمته حين يحتاج الأمر إلى العزائم الشديدة، وما إلى ذلك مما هو متواتر في ثنايا الرواية. إلا أن وفرة الأسباب التي تسوّغ الشعور السلبي ضد نايف حواتمه لا تدفع الراوي إلى إغفال الوقائع التي تظهر الأمين العام في صورة أخرى، خصوصا وقائع دفاع قادة آخرين في الجبهة عن أمينهم العام وما يعدّونه هم حرصا منه على صيانة مصالح هذه الجبهة. ويعجب الراوي بالزعيم اللبناني وليد جنبلاط حد الافتتان وبالبيت الجنبلاطي ولا يهملوجهات نظر آخرين يرون فيهما رأيا مخالفا، بل يورد من الوقائع والآراء ما يستوفي المواقف المختلفة كافة.
وفي هذا وذاك وما يماثلهما وهو كثير، وسواء اتفق القارئ مع الكاتب أو خالفه الرأي، تتضاعف أهمية النص ويحتفظ السرد بسلاسته وعفويته وقدرته على الإمتاع.

يروي ممدوح نوفل وقائع خريف 1986 على الساحة اللبنانية، الخريف الذي شهد أقبح جولات حرب المخيمات. وتشكل وقائع احتلال القوات الفلسطينية بلدة مغدوشة اللبنانية مركز السرد وتستحوذ على الجزء الأكبر من مساحته، لأن الإحاطة بملابسات احتلال بلدة لم يسيء أهلها الى الفلسطينيين أحوجت الراوي إلى استحضار سلسلة من الوقائع التي تفسر الدافع الفلسطيني لاحتلال البلدة. وفي المحصلة، ظفرنا بنص يروي أهم ما جرى على الساحة اللبنانية منذ حل الوجود الفلسطيني المسلح فيها ويرسم الصور والشخصيات التي صنعت مجرى الأحداث منذ 1968.

وبفتح الخزين المحتفظ بطزاجته، حضرت الجروح بطزاجتها هي الأخرى، ما انفغر منها قبل حرب المخيمات وما انفغر في إبّانها، وما أوقعه خصوم الفلسطينيين بهم وما أوقعوه هم بأنفسهم. وبسرد لا يتكلف أي صنعة، حكى الراوي ما هو مؤسٍ وما هو مبهج، وصور القبيح والحسن، واستحضر الخيّر والشرير والذي بين بين، ووضع أمامنا ما فعله صانعو الأحداث وشهودها وما قالوه، النجوم منهم والمغمورين، ما يوجع من الفعل والقول وما يريح، ما هو وضيع وما هو ماجد، لم يبالغ في إبراز شيء ولم يتستر على شيء.

ولئن تعددت عناصر الدراما في النص كما هو الشأن في أي نص يحكي حكاية ملحمية، فإن واحدا منها برز أكثر من سواه وكان أوجعها وأشدها تأثيرا في دمج الفاجعة الشخصية بالفاجعة العامة. إنه أسى الوطني متقدم الذهن معلي شأن المبادئ وهو يعارك متخلفي الذهن في الصف الذي ينتمي إليه ونهّازي الفرص فيغلبه هؤلاء. وهو الأسى الذي يكتمل الإحساس به في النص كما في الحياة حين يضطر المناضل إلى إخلاء الميدان ويبقى نهازو الفرص فيه.
الحضور الكبير لهذا العامل يغري بالإفاضة في الحديث عنه لو لم يكن من غير الجائز مصادرة حق القارئ في التعرف عليه بنفسه. ويمكن الاكتفاء بتنويه لا بد منه: فالمعاناة التي وفق ممدوح في تصويرها تلقي ضوءً ساطعاً على طبيعة الصراع الداخلي في الساحة الفلسطينية، صراع الفصائل في ما بينها والصراع داخل كل فصيل. ولكم تعددت وجوه الصراع الداخلي، هذه التي يرصد النص كثيرا منها: الصراع بين الموغلين في سياسة وبين الذين يعارضونها، الصراع بين الراغبين في أن يستقل العمل الوطني الفلسطيني عن أنظمة الحكم العربية وبين التابعين لهذه النظمة أو المستخذين أمام ضغوطها، الصراع بين الوالغين في شتى أنواع الفساد وبين المتشبثين بالنزاهة، بين من توهن الأخطار عزائمهم وبين الأشداء، ناهيك بالصراع بين متقدمي الذهن وبين المتخلفين. وما أشد وقع المونولوجات التي يبثها الراوي في ثنايا الحكاية الطويلة فتنقل إلينا صخب الهواجس والأسئلة التي أضطرمت في نفسه وأوجاعها، وما أيسر أن يكتشف القارئ أنها الأسئلة والهواجس ذاتها التي تضطرم حتى الآن في نفس كل قابض على الجمر!

استحضرت الرواية أسباب خيبة أمل صاحبها في الجبهة الشعبية ثم في الجبهة الديمقراطية التي انقسمت عن الشعبية، وأشرت على ما سيتواتر بعد ذلك فيوصله أو يكاد يوصله إلى خيبة أمل عامة. وكان من المنطقي أن يمضي الموجوع بخيبة الأمل في واحد من الطرق التي مضى فيها نظراؤه، فيلبس القبع ويتبع الربع الموغل في الأخطاء والفساد، أو يعتزل العمل العام، أو يجد الوسيلة التي تبقيه فيه من دون أن يتعرض لخيبات أمل أخرى. وقد وجد ممدوح نوفل ما أبقاه في الخدمة العامة فاختار الكتابة. وإن جاز للإنسان أن يتنبأ وفق ما يرغب فيه، فالمتوقع أن يوغل المنتقل إلى الكتابة في ميدان الكتابة بمقدار ما ينأى عن الحمأة المنفرة.
لكن، حتى لو لم يمض إلى أبعد مما بلغه، فقد ظفرنا من ممدوح نوفل حتى الآن بما يكفي لإحلاله في مكان لائق بين الكتاب المتميزين . لقد جاء الرجل إلى الميدان الجديد متأخراً بعض الشيء، غير أنه جاء إليه من التجربة الفلسطينية الفريدة والمديدة والتي ظلت تغتني بشيء جديد في كل يوم جديد. لم يحتج ممدوح للمخيلة لأن في التجربة الفلسطينية أفضيةً قلما يبلغها الخيال ذاته. وها هو ذا منجزه في هذا الكتاب وغيره وهو يقدم البرهان على ما توفره التجربة الفلسطينية وما يمكن اغترافه منها.

لقد ذكّرنا فضل النقيب بكتّاب كبار كتبوا ما وصف بأنه رواية غير خيالية، كما ذكّرنا بآخرين كتبوا الرواية غير الخيالية فكبروا بها. وفي “مغدوشة، قصة الحرب على المخيمات” نحن إزاء رواية أخرى من هذا النوع، الرواية التي تستقي مادتها كلها، وقائعها وشخصياتها، من الواقع ولا تتدخل المخيلة في صياغتها لا بكثير ولا بقليل. وبهذا الكتاب كما بسابقه، لم يعد ممدوح نوفل هو الناشط في الشأن العام الذي ينشر يوميات أو شهادات، بل انتقل إلى مرتبة الكاتب المحترف ووقع على عاتقه ما يقع على المحترفين من مسؤولية، وصار للقراء والنقاد الحق الكامل في أن يعاملوا منجزه على هذا الأساس.

لا أملك قبع الناقد ولا أنوي أن أملكه، فليس من حقي أن أنضم إلى ربع النقاد. لكني أتوقع أن يتعامل النقد الجاد مع هذا الكتاب بما له وما عليه، وليس بما له فقط كما فعلت أنا في هذه المقدمة. وإذا كان من المتوقع أن يبرز النقد مثالب الكتاب ، فمن المؤكد أن هذه المثالب لا تطمس مزاياه الغالبة. إنه منجز صعد ممدوح نوفل به خطوة أخرى نحو امتلاك زمام الكتابة الراقية.

فيصل حوراني

10/7/2005