أبو مازن محشور بين مطرقة المطالب الفلسطينية وسندان شارون

بقلم ممدوح نوفل في 02/05/2005

بعد أكثر من مئة يوم على انتخابه رئيسا للسلطة الفلسطينية يجد محمود عباس نفسه مرة أخرى عالقا بين مطرقة المطالب الفلسطينية العادلة المتواضعة وسندان الرفض الاسرائيلي المسنود امريكيا. تماما كما حصل له عام 2003 عندما تولى رئاسة اول مجلس وزراء فلسطيني. حين اكثر شارون واركانه في حزب ليكود والحكومة في نعت ابو مازن بأقسى الصفات وأرذلها، بدءا من رجل ضعيف غير حازم وألعوبة بيد عرفات..وانتهاء بوصفه صوص دجاج لا يملك ريش ويحتاج الى من يعتني به ويرعاه.
في حينه لم يكن نجاح ابو مازن يتطلب تطويع النجوم ووضع القمر بين يديه، ولا حل قضايا القدس واللاجئين والحدود والاستيطان حلا عادلا. كان بحاجة فقط لبضع خطوات اقتصادية تحسن حياة الناس واجراءات امنية تخفف معاناتهم، ورفع الاقامة الجبرية المفروضة على الرئيس عرفات واطلاق سراح دفعة من المعتقلين. وناشد ابو مازن الرئيس بوش مساعدته والضغط على شارون والزامه منح عرفات حريته في الحركة والتنقل، باعتبار ذلك حقا مشروعا وضرورة عملية لنجاحه في رئاسة الوزراء. لكن لا حياة لمن تنادي، وسقطت حكومة ابو مازن ولم يغضب شارون وفرح في عبه، وكافأه الرئيس الامريكي بتحميل عرفات مسئولية الاطاحة بمحمود عباس وتعطيل عملية الاصلاح.
بعد رحيل عرفات رحب شارون بانتخاب عباس رئيسا للسلطة، ويومها توقع المتفائلون في الساحة الفلسطينية ان يكون شارون كريما مع ابو مازن ويغدق عليه بما يلزم لتقوية حكمه وتعزيز مكانته في صفوف الناس. وتحفظ واقعيون على هذه النظرة الجديدة لشارون ودعوا لعدم التسرع في اطلاق الاحكام. وقلت في حينها على صفحات “الحياة” “موقف شارون مناورة عمرها قصير، وموقفه الإيجابي من عباس لن يدوم طويلا، وموقفه المعادي ينطلق من قناعة أيدلوجية عنصرية راسخة، ولا مصلحة له في وجود رجل واقعي على رأس الهرم الفلسطيني، ولن يتوانى عن بذل كل جهد مستطاع لإرباك الرئيس ابو مازن.
واتهمت يومها بالتسرع وتبشير الناس بالمصائب. وبعد مئة يوم من تولي ابو مازن سلطاته الدستورية، نجد شارون يكثر في الحديث عن ضعف محمود عباس ويتصدر الحملة ضده عوض تقدير نجاحه في وقف اطلاق النار وتوفير الامن لاهل مدينة سديروت والمستوطنات في القطاع، وتوحيد الاجهزة الامنية والتقدم في مجال الاصلاح المالي. وقبل انخراطه في الحملة اطلق شارون العنان لوزراء المالية والخارجية والدفاع نتنياهو وشالوم وموفاز، وشنوا هجمات متلاحقة ضد ابو مازن. واتهمه الاول بانه عرفات رقم 2 والاستثمار في تعزيز حكمه خطأ جسيم. ويتهمه الثاني بانه لم يجسد الشريك المنشود وعلى العالم تفهم خطوات اسرائيل أحادية الجانب..والثالث اشاع انه وبخ عباس بسبب القصور في محاربة الارهاب ومنع اطلاق القذائف والصواريخ على مستوطنات قطاع غزة بعد قتل الجيش الاسرائيلي الاطفال الثلاث.
وموقف شارون واركانه من أحمد قريع رئيس حكومة ابو مازن الاولى ليس افضل بل أسوء واقسى. ومتهم بانه يتقمص شخصية عرفات ويتبنى افكاره وينافس عباس على زعامة فتح ورئاسة السلطة.
فهل تصنف اقوال شارون واركانه تحت بند تكتيك هدفه تحريض الرئيس بوش ضد عباس على ابواب زيارة القريبة واشنطن، ودفعه لمحاربة “الارهاب” وفق المفهوم الاسرائيلي، أم ان مواقفهم تندرج في اطار استراتيجية جيوسياسية امنية متكاملة ماضون في تنفيذها؟ ثم ما هي النتائج العملية لهذه السياسة سواء كانت موقفا تكتيكيا أم توجها استراتيجيا على العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية ومستقبل عملية السلام، وعلى الوضع الفلسطيني الداخلي وضمنه دور الرئيس ابو مازن؟
ليس سهلا التعرف دائما على نوايا شارون الحقيقية، ومعروف في اطار النظام السياسي الاسرائيلي بأنه مناور ومغرور يخفي دائما الاوراق المهمة قرب قلبه. وسيرة حياته الحزبية والعسكرية تؤكد ان له طريقا خاصا في ادارة الحكم يميزه عن سواه: يحدد لنفسه الهدف بعدها يتشاور مع المقربين في كيفية التنفيذ فقط. ويندفع نحو هدفه ولا يتورع عن استخدام وسائل قذرة غير مبدئية لتحقيقه. ولا يتردد في اللجوء الى الكذب والتحايل والتضليل والابتزاز في فرض توجهاته. ومواقفه المضللة في حرب لبنان 1982، وتكتيكه في حبس رئيس منتخب بدعم امريكي شواهد لا تزال حية. وفي وقت يكثر في الحديث حول السلام ينشغل في بناء الجدار وسرقة الاراضي وتوسيع المستوطنات في الضفة. ويرفض التعامل مع عباس كشريك، ولم يلتزم بتفاهمات قمة شرم الشيخ، وتراجع عن خطوات وافق عليها بحضور الملك عبد الله الثاني والرئيس حسني مبارك. ولم ينسحب من المدن الفلسطينية الخمس التي التزم بتسليمها للسلطة، ولم يطلق سراح الدفعة الثانية الصغيرة من الاسرى..الخ ولم يوقف عمليات الهدم والمداهمة الاعتقال والاغتيال، وظهر وقف اطلاق النار وكأنه ينفذ من الجانب الفلسطيني فقط.
وحسب احصائية منظمات حقوق الانسان ولجان مراقبة الحواجز قتل الجيش الاسرائيلي منذ اعلان الهدنة في 8 شباط (فبراير) الماضي 55 مواطنا منهم 17 طفل. وبلغ عدد الجرحى في الفترة نفسها 269 جريحا. واعتقل الجيش الاسرائيلي منذ وقف اطلاق النار 550 مواطنا اي بزيادة 50 عن عدد الذين اخلي سبيلهم، واجتاح البلدات والمدن الفلسطينية 769 مرة، وظل عدد حواجز ونقاط التفتيش في الضفة والقطاع تقريبا على ما هو عليه 657 حاجزا، واعتدى المستوطنون على المدنيين الفلسطينيين 92 مرة.
أعتقد ان أكثر الناس تفاؤلا لا يمكنهم تجاهل ان هذه مؤشرات تدعو الى القلق حول ما يضمره شارون ضد الرئيس الفلسطيني المنتخب محمود عباس. وموقفه السلبي من ابو مازن في واشنطن وقبلها تجميد الاتصال مع السلطة ورفض التنسيق معها، تؤشر الى ان المضمر ابعد أخطر من تحريض رئيس الولايات المتحدة الامريكية ومن الضغط على القيادة الفلسطينية لمحاربة “الارهاب. وقول شارون في حضرة الرئيس بوش وفي لقاءات عقدها مع اركان الادارة الامريكية “إن فشل محمود عباس وانهيار حكمه مسألة وقت وليس أكثر”، يجب ان يأخذ على محمل الجد والنظر اليه من زاوية شارون يعني ما يقول، وحديثه عن انهيار حكم عباس يعني في قاموسه تبلور الخطة في رأسه. وهذا الحديث يشبه حديث شارون مع الرئيس بوش في زيارة قديمةعن التخلص من عرفات “حاجته الله احيانا الى مساعدة البشر في تنفيذ ارادته”. واذا كان شارون “ساعد الله” في نقل عرفات من الحياة الدنيا الى العالم الآخر ولم يتمكن احد اكتشاف دوره، فلن يتوانى عن ايجاد وسيلة للاطاحة بابو مازن من رئاسة السلطة، وقد لا يكون مضطرا دفشه الى ملاقات ربه ويكتفي بافشاله ودفعه الى الاستقالة والهروب من مواجهة شعبه وقواعد حزبه وكوادر السلطة.
وخطورة حديث شارون تكمن في انه يصرح بما يشاء ويتحرك اينما وكيفما يريد باسم حكومة يشارك فيها حزب العمل، وتحت سمع وبصر الرئيس الامريكي واركانه، ولا يجد نفسه مضرا لمراعاة الحدود الدنيا من اللياقة التي تحفظ للقيادة الفلسطينية كرامتها وتحترم مشاعر جمهورها. ولا يخفى شارون انه عاد من زيارته العاشرة لواشنطون مسرورا، وتأكد ان بعض التباين مع الصديق بوش حول توسيع مستوطنات الضفة لا يفسد الود والاحترام المتبادل. وتأكد ان بوش متمسك برؤيته حول استحالة عودة اللاجئين الى اسرائيل وعدم العودة الى حدود 1967 وضم الكتل الاستيطانية الكبيرة لاسرائيل.
ويسود الشارع الفلسطيني وناس السلطة اعتقاد بان بوش واركانه، وقوى اليسار واقطابه بيريز رامون وبيلن وساريد، مشغلون هذه الايام بحشد الدعم والتأييد لشارون. ومبهورين بخطوته “الشجاعة” في الانسحاب واخلاء مستوطنات غزة، ولا أحد يكترث بمصير ابو مازن وتدهور وضع حركة فتح وتآكل رصيدها في الشارع. وجميعهم يضعون متطلبات نجاح شارون فوق اي اعتبار آخر، ويتجاهلون متطلبات نجاح ابو مازن وابو علاء وتعزيز ثقة شعبهما بهما. وغير معنيين بفهم المتغيرات في اوضاع النظام السياسي الفلسطيني، وليسو قلقين من تحقيق حركة حماس نجاحا مهما في الانتخابات البلدية والتشريعية القادمة على حساب حزب الرئيس محمود عباس ودور قوى السلام في الساحة الفلسطينية.
الى ذلك، يخطئ من يعتقد ان زيارة مساعد وزير الخارجية الامريكي ديفيد ويلتش ونائب رئيس مجلس الامن القومي اليوت ابرامز للمنطقة غيرت في مواقف شارون. صحيح ان زيارتهما والاتصالات التمهيدية التي سبقتها اسفرت عن استئناف الاتصالات الامنية والسياسية الفلسطينية الاسرائيلية، وارضاء للرئيس بوش سمح شارون لبيريز لقاء ابو علاء ولموفاز لقاء دحلان ولمستشاره دوف فايسغلاس لقاء عريقات، لكن النتالئج العملية لزيارة المبعوثين الامريكيين واللقاءات تؤكد ان شارون ظل على موقفه السلبي ويتمسك بتنفيذ “خطة الانفصال من جانب واحد ويسعى لتكريس فكرة عدم وجود شريك فلسطيني ويريد السلطة شاهد زور وليس اكثر.
أعتقد ان شارون ارضاء للرئيس بوش قد يلتقي بالرئيس عباس قبل سفره الى وشنطن، لكن المؤكد انه لن يقدم شيئا لم يقدمه لعرفات. ويرجح ان يبيع شارون ابو مازن مرة ثانية قضايا الانسحاب من المدن الخمس، واطلاق سراح 400 اسير بقية دفعة ال 900 والعودة للتنسيق الامني، التي باعها له وللرئيس مبارك والملك عبد الله الثاني في شرم الشيخ مطلع شباط الماضي ولم تنفذ. ولم لا يتصرف شارون على هواه طالما انه يلمس عجز محمود عباس عن تدبير الامن ولقمة الخبز كما وعد الناس في وقت تضاعف دخل العرب من النفط مرات عدة. وحبذا لو ان زعيما عربيا يسبق ابو مازن الى واشنطن يحمل للرئيس بوش موقفا عربيا موحدا يصر على حماية ابو مازن وتخليصه من شباك شارون ويرفض العبث الاسرائيلي بالقدس ومقدستها.