ترتيب الوضع الفلسطيني قبل وبعد اخلاء قطاع غزة من المستوطنين

بقلم ممدوح نوفل في 12/04/2005

بناء على التجربة الطويلة والمرة يؤمن الفلسطينيون بأن غريزة نهب الارض واستيطانها قوية عند رئيس الحكومة الاسرائيلية شارون ودوما أقوى من حب العيش بامان وسلام مع العرب. ووقائع العلاقة في عهده تؤكد انه يستمتع في قهر الفلسطينيين شعبا وقيادة وقوى حزبية. وبغض النظر عن رأي الرئيس الامريكي، فصديقه شارون عمل كل ما يمكن من اجل تعطيل تنفيذ “رؤية بوش” لتسوية النزاع ونسف مقومات قيام دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيل. وذبح في السنوات الاربع الماضية عملية السلام من الوريد الى الوريد، على مرآى الجميع، ونسف انجازاتها ودفن الاتفاقات التي انبثقت عنها في عهد من سبقوه وحقن الشعبين بالحقد، ويعمل بكل ما اوتي من قوة على اقامة جدران واسوار الكراهية والعداء بينهما.
وبصرف النظر عن نوايا شارون واصراره على تنفيذ خطته من جانب واحد، ومباركة الرئيس بوش الضمنية لهذا التصرف، فخطة شارون لها مضاعفات سلبية على مستقبل عملية السلام كثيرة المؤكد منها؛ تحوّيل الانسحاب واخلاء مستوطنات غزة من خطوة على طريق السلام الى عبء اضافي على قوى السلام خصوصا في الجانب الفلسطيني. وهذه الخطوة تعزز مواقف وتوجهات انصار العمل العسكري ودعاة اعتماده سبيلا وحيدا للتحرير وتضعف مكانة انصار تسوية النزاع بالطرق السلمية عبر المفاوضات السياسية، وتظهر على انها انتصار للتيار الاول ونتيجة جهدهم وتضحياتهم لا علاقة للتيار الثاني به. وتضع السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس أمام امتحان أمني سياسي صعب، للفشل فيه مضاعفات خطيرة على الوضع الفلسطيني أخطرها فشل الرهان على دور “أبو مازن” الانقاذي وفقدان الثقة ببرنامجه وتوجهاته واضعاف سلطته، وتعميق أزمة حزبه السياسي “فتح” المتفاقمة في فترة حرجة وعلى ابواب الانتخابات البلدية والتشريعية. وتسريع صعود التطرف وانتشار الفوضى وانعدام النظام، وظهور عجز منظمة التحرير والسلطة والحكومة واجهزتها الأمنية في تحمل مهمة وطنية لا مفر منها.
إلى ذلك، يرجح ان يلتزم شارون بتنفيذ “الخطة” بدءا من تموز القادم، ودعم الرئيس بوش المادي والسياسي لها يشجعه على المضي قدما. وبديهي القول ان فشل السلطة في السيطرة على الوضع قبل وخلال وبعد التنفيذ يكرس نوعا من ازدواجية السلطة ويفتح الباب أمام بروز سلطات محلية وحزبية تتحالف بعض الاحيان وتتصارع في معظمها. وفي العادة يرافق هذه الحالة تراجع في دور السلطة المركزية لحساب المعارضة والمتضررين من تطبيق القانون وفرض النظام. واعتقد ان نجاح القيادة الفلسطينية في امتحان بسط السيطرة في المناطق التي سيخليها الاحتلال يتطلب الشروع فورا في:
1ـ تحضير الوضع الحكومي والشعبي للنهوض بالمهمات الناشئة عن الخطوة الإسرائيلية وصياغة توجهات تحشد الجهود لصالح متطلبات الاحتمال الاكثر ترجيحا. والمباشرة في التحرك في جميع الميادين وعدم الانتظار ريثما يبدأ الانسحاب. واعتبار الانسحاب يسهل حياة الناس ويريحهم من كابوس الاحتلال، وإخلاء شارون أية مستوطنة في الضفة أو القطاع وسحب الجيش الإسرائيلي من أي جزء من الأرض مكسبا وطنيا مهما، سواء تم بشكل أحادي الجانب أو بالتنسيق مع السلطة أو بترتيبات مع طرف ثالث، شريطة أن لا يتم على حساب الحقوق الثابتة. وتحضير القوى والوسائط اللازمة لملء الفراغ وحصر الممتلكات والاراضي، وعمل دراسات تحدد الممتلكات الخاصة وتميزها عن العامة.
2ـ العمل على حشد التأييد الاقليمي والدولي لاعتبار خطة الانسحاب والإخلاء الإسرائيلية ليس اكبر من اعادة انتشار للقوات الاسرائيلية، وانهاء استغلال المستوطنين اراضي فلسطينية بصورة غير قانونية دام أكثر من ثلاثين عام. وإن بقاء المعابر البرية والحدود مع مصر والمياه الاقليمية واجواء قطاع غزة والضفة تحت السيطرة الإسرائيلية يعني بقاء الاحتلال بكل ما يترتب على وجوده من مسؤوليات. وتنفيذ خطة الفصل لا يعفي إسرائيل من مسؤوليتها المادية والمعنوية كقوة احتلال ألحقت اضرارا فادحة بالفلسطينيين وممتلكاتهم واقتصادهم وملزمة قانونيا بتعويضهم وتوفير فرص عمل للعمال. وبما ان الاتفاقات الاساسية بين السلطة وحكومة إسرائيل تقر بوحدة الضفة والقطاع كمنطقة سيادية واحدة، فصفة الاحتلال تبقى تلازم إسرائيل طالما الجيش والمستوطنين يحتلون اجزاء من الضفة.
3ـ تهدئة الجبهة الداخلية وترتيب البيت الوطني والعمل على تحقيق إجماع يرفض اي تصرفات ميدانية تضر بالمصالح العليا. والتفاهم مع “القوى الوطنية والاسلامية” على وحدانية السلطة في تنفيذ خطة الفصل في حال التوصل الى اتفاق مع الجانب الإسرائيلي. واعتبار كل شيء يتركه او يخليه الاحتلال ممتلكات وطنية السلطة الرسمية واجهزتها المدنية والأمنية مسؤولة عن استلام الارض وما عليها من منشآت مع حفظ حقوق الملاكين الاصليين كاملة وفي حال تعذر التفاهم مع المعارضة لا يجب التساهل مع من يخرق النظام ويتطاول على الممتلكات ويعمل على عزله شعبيا. وتتخذ الإجراءات الضرورية لتنفيذ قرارات القيادة المنتخبة والمحافظة على الممتلكات العامة وفرض القانون في المناطق التي يخليها الاحتلال.
4 ـ وضع خطة سياسية أمنية لمواجهة جميع الاحتمالات، والعمل على توفير اوسع دعم حزبي وشعبي لتوجهات السلطة واسناد اجهزة الأمن في تنفيذ مهماتها. والشروع في عمل الحوارات والدعاية والاعلام والتعبئة اللازمة لتسهيل عملية بسط السيطرة، وتعريف الناس باهداف الخطة وفوائدها. وإبلاغ الجميع ان السلطة تعتبر كل تعطيل لقيامها بمسؤولياتها يرقى لمستوى خيانة المصالح العليا.
5ـ تسريع عملية توحيد أجهزة الأمن الفلسطينية وتكليف مجلس الأمن القومي والمجلس العسكري بتنفيذ الخطة الفلسطينية، وتوفير القوى والوسائط اللازمة وتقريبها من ارض العمليات. واعلان التعبئة واجراء التدريبات العملية اللازمة لتنفيذ الواجبات. ومنع الجماعات المسلحة ايا كان انتماؤها من ممارسة نفوذ غير شرعي يتعارض مع القانون. ولعل تشكيل قوة خاصة تسند لها مهمة السيطرة على الوضع ويجري تدريبها مسبقا على الخطة يزيد في نسبة النجاح.
6 ـ التدقيق في موقف الحكومة الإسرائيلية الرسمي المعلن يؤكد ان موعد بدء الجانب الإسرائيلي في تنفيذ المرحلة الاولى من خطته ليس بعيد، وان الوقت الممنوح للاجهزة الفلسطينية محدود، أقل من مئة يوماً، بالكاد يكفي لتجميع القوى والوسائط وتأهيلها. وبديهي القول إن وجود طرف ثالث في الميدان (أمم متحدة، قوات أميركية، أو متعددة الجنسية) يقوم بمهمة الفصل بين الطرفين واستلام كل ما تخليه إسرائيل من ارض ومبان ومنشآت وإعادة تسليمها للفلسطينيين..الخ يسهل مهمة قوى الأمن الفلسطينية. وفي حال رفض شارون دور الطرف الثالث ،وهو الارجح، فالمصلحة الفلسطينية تفرض الأخذ بخيار التعامل مع كل خطوة يخطوها شارون على الأرض وفق قاعدة أخذ النتائج المفيدة ورفض الضار منها، والتمسك بزوال الاحتلال ومرتكزاته باعتباره اعتداء صارخاً وبالجرم المشهود على الشعب الفلسطيني. والتسلح بقرارات الأمم المتحدة وقرارات محكمة العدل الدولية الدولية التي تدعو إلى انسحاب إسرائيل من كل أراضي الضفة الغربية والقدس وغزة والعودة إلى حدود العام 1967.
ولعل النجاح في المهمة يتطلب أن تبادر جهة فلسطينية (السلطة أو المجلسين التشريعي والوطني) إلى عقد مؤتمر شعبي ورسمي يحضره أكبر عدد من الوزراء وأعضاء المجلسين التشريعي والوطني، وأعضاء “لجنة المتابعة للقوى الوطنية والإسلامية” والشخصيات الوطنية وممثلين عن النقابات والاتحاد الشعبية. ويصدر عنه بيان يؤكد تغليب المصلحة العامة على المصالح الخاصة. ويدعو المواطنين إلى الوحدة والالتزام الكامل بأحكام القانون وعدم خرقه بأي شكل من الأشكال والعمل على المحافظة على إنجازات الشعب وممتلكاته ومنع الانحدار نحو الفوضى والتخريب أو الاقتتال الداخلي. وتجنب الفتنة ونبذ كل تصرف يتنافى مع القيم والقوانين والمصلحة العامة.
وان يطالب المؤتمر السلطة التنفيذية بحماية ممتلكات الشعب ويشكل لجنة وطنية برئاسة وزير في السلطة تضم مثلا المحافظ وقائد الشرطة، ومندوب عن وزارة العدل والأمن وممثلين عن القوى ورؤساء البلديات في المناطق المعنية بالإخلاء ..الخ مهمتها البت بالممتلكات التي يخليها المستوطنون واستلام شكاوى المواطنين ذوي العلاقة ومعالجتها مع الجهات المعنية. وان يرافق المؤتمر حملة إعلامية كبيرة منظمة في وسائل الإعلام تلفزيون وإذاعات وصحف المحلية للحديث عن المؤتمر ومهامه ونتائج أعماله. ودعوة الشعب الفلسطيني إلى الالتزام بالنظام العام، وعدم خرق القانون ونبذ كل الجهات والأفراد الخارجة عن القيم و العادات الفلسطينية.
كما يجب التنبه لعدم الوقوع في اسر المبالغة والتطير في قراءة خطة شارون ووعود بوش، فالمبالغة والتطرف يمينا أو يسارا يقود إلى رسم توجهات خيالية تلحق ضررا بالمصالح العليا. واعتقاد بعض قوى المعارضة الرافضة لعملية السلام أن بالامكان تكرار تجربة الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان واحدة من هذه التوجهات الخيالية. والسؤال الواقعي المطروح على القيادة الفلسطينية هو: هل بإمكانها تحويل خطة شارون الى سابقة في مجال إزالة الاستيطان وتحرير مزيد من الأراضي؟ وليس اكثر.
وفي كل الأحوال لا مناص من متابعة العمل من أجل إحداث تغيير في الشارع الإسرائيلي، وإقناع أغلبية الإسرائيليين ان المستوطنين والمستوطنات عقبة في طريق السلام وسبباً رئيسياً في اختلال الأمن على طرفي الحدود. وتنفيذ خطوة إخلاء وانسحاب جديدة في الضفة الغربية يساهم في توفير الأمن للشعبين ويرسي أسساً جيدة لتعايشهما كجارين مسالمين.
إلى ذلك، يتمنى أنصار السلام ودعاة الإصلاح في الجانب الفلسطيني، أن يدمر شارون بيوت المستوطنات، ويبقى المنشآت الصناعية والزراعية والبنية التحتية، ويعفي الشعب الفلسطيني من إشكالية توزيعها واستخدامها. ويعتقدون أن طبيعة المباني في المستوطنات مصممة لاستيعاب اسر محدودة، والمسكن الواحد فيها “فيلا” مع حديقته قابل للتحول إلى مبنى يضم شققا تستوعب عشرات الأضعاف. والكل يعرف أن اقل من ثمانية آلاف مستوطن يسيطرون على ثلث مساحة ارض القطاع الصغيرة العزيزة والأجمل، وان بيعها لطرف ثالث يعني استهلاك جزء كبير من المساعدات الدولية للفلسطينيين في مجال لا يحتل قمة الاولويات الوطنية، واسرائيل سوف تطلب مبالغ خيالية تغطي رشوة المستوطنين وتزيد.