جميع أطراف النزاع الفلسطيني الاسرائيلي بحاجة الى الهدنة

بقلم ممدوح نوفل في 13/02/2005

بديهي القول ان قمة شرم الشيخ الرباعية “الطارئة” عقدت مطلع شهر شباط/فبراير الجاري بمباركة امريكية وكان ظل مندوب البيت الابيض، الغائب، حاضرا كل الوقت وفي كل زاوية من زوايا المؤتمر. وما كان لهذه القمة ان تعقد لولا تأكد الرئيس حسني مبارك من تغير المناخ جزئيا في تل ابيب ورام الله، ولن تفشل وتوفر فرصة لاحراز بعض التقدم على طريق فكفكة الأزمة وتبريد النزاع مع اسرائيل.
وبصرف النظر عن الضجة الاعلامية الكبيرة التي سبقت وتلت القمة، فالفلسطينيون وضمنهم كوادر السلطة، يجمعون على ان نتائجها جاءت محدودة قياسا لحجم القضايا الامنية والاقتصادية الضاغطة على القيادة والناس في الضفة والقطاع. وكثيرون تبنوا رأي المعارضة واعتبروا شارون الرابح الاكبر من اللقاء الذي جمعه بالرئيس الفلسطيني محمود عباس وملك الاردن عبد الله الثاني والرئيس المصري حسني مبارك. ومهما تكن اهداف ونوايا شارون من اعطاء مصر دورا ظل يرفضه، فانه لم يدفع ثمنا يعادل قيمة وقف جميع الاعمال العسكرية الفلسطينية المحرجة له داخل حزبه وفي الشارع واستئناف اتصالاته بالقيادة الفلسطينية، وتطبيع علاقته بالقيادتين المصرية والاردنية وعودة سفيري البلدين الى تل أبيب في عز أزمته مع كوادر في حزبه ومع حلفائه في القوى اليمين.
ورغم مصادفة وجودها في المنطقة لم تفكر وزيرة الخارجية الامريكية كونداليزا رايس استغلال قمة شرم الشيخ، ولو في مجال الاعلام والدعاية لمهمتها االجديدة في الخارجية. وتجنبت المشاركة فيها ولم تحاول زج ثقلها وتعديل جدول أعمالها لصالح تجاوز المسائل الامنية في شقه الفلسطيني، ولم تحاول من خلف الكواليس تحويلها الى قمة سياسية تبحث قضايا جوهرية. وآثرت التريث وتركت الزعماء يمهدون الطريق امام حركتها اللاحقة ويعلنون ما اتفقوا عليه ويحصد كل منهم الممكن من نتائجها المحدودة. وقدمت الوزيرة رايس للقيادة الفلسطينية في رام الله رشوة معنوية لا تسمن ولا تغني من جوع، وقالت انها مقتنعه انه “بدون إقامة دولة تحقق طموحات الفلسطينيين لن ينعم الشرق الأوسط بالسلام المنشود”. وشددت على أهمية ان تكون الدولة الفلسطينية كاملة وواسعة بقدر كاف كي تقوم بمهامها على نحو جيد”.
وتدقيق نتائج القمة يبين انها لم تتجاوز، لا في الشكل ولا في المضمون، ما تم التفاهم عليه في التحركات التمهيدية التي قام بها الوزير اللواء عمر سليمان ومبعوث الادارة الامريكية وليم بيرنز. وتم الاعلان عن عودة السفيرين المصري والاردني الى تل ابيب، والتزم شارون بوقف اطلاق نار متبادل مع السلطة، ووافق على استئناف التنسيق الامني بين الطرفين حول اطلاق سراح دفعة كبيرة من المعتقلين، وخروج الجيش الاسرائيلي من خمس مدن فلسطينية، وعودة المبعدين في قضية كنيسة القيامة الى بيوتهم..الخ من الاجراءات الأمنية الصغيرة، كخطوة على طريق عودة الاوضاع الى ما كانت عليه قبل 28 ايلول/سبتمبر 2000 واحياء المفاوضات السياسية على المسار الفلسطيني حول القضايا الكبيرة العالقة.
وبدلاً من إعلان شارون التزامه بـ”خارطة الطريق” التي وضعتها “اللحنة الرباعية” الدولية كآلية للحل، تمسك في خطاب رسمي وجهه باللغة العبرية لشعبه “بخطته” الخاصة بفك الارتباط واخلاء قطاع غزة من المستوطنين واعادة نشر قوات الجيش الاسرائيلي في محيطه. وأكد تصميمه على تنفيذها حسب الجدول الذي قرره بمفرده. وربط شارون تنسيق الخطة مع السلطة بتطورات الوضع الامني. وتمسك بالنهج التفاوضي القائم على ما يعرف بإجراءات بناء الثقة تحدد إسرائيل طبيعة هذه الإجراءات وتوقيت تنفيذها.
والتعديل الوحيد الذي حصل خارج تحضيرات اللواء عمر سليمان هو موافقة شارون مبدئيا على طلب ابومازن “شخصي” اطلاق سراح دفعة من الاسرى الفلسطينيين الذين اعتقلوا قبل اتفاق اوسلو عام 1993، لم يطلق سراحهم بعده لان “ايديهم ملطخة بالدم اليهودي” حسب تعبير شارون والمؤسسة الاسرائيلية. وفي هذا السياق اعتقد أن مطالبة مصر والاردن الضغط على شارون في القمة وبعدها وتحقيق ما رفضت الادارة الامريكية وعجز الاتحاد الاوروبي عن تحقيقه فيه ظلم كبير للبلدين ناهيك عن كونه مطلب ينم عن جهل بتعقيدات الصراع.
وبرغم الملاحظات الكثيرة والكبيرة على القمة فقد اعتبرتها القيادة الفلسطينية ناجحة، واعلنت قوى دولية واقليمية دعم توجهاتها وأكدت مساندة الهدنة الجديدة واشادوا بدور مصر في تنظيمها. والبعض يعتقد بتوفر فرصة لتحويلها من هدنة هشة الى هدنة ثابتة يمكن البناء عليها. وترحيب الادارة الامريكية والقيادتين الفلسطينية والاسرائيلية ومعظم قوى الشعبين بنتائج القمة يشير الى ان الجميع بحاجة الى الهدنة وكل له اعتباراته الداخلية والخارجية.
وأظن، وأغلب الظن في قضايا أمن المنطقة فيه إثم، ان مصالح القوى المحلية والاقليمية والدولية توفر فرصة لاستمرار الهدنة الجديدة بضع شهور اكثر من الهدنة الاولى التي توصل محمود عباس مع شارون في عهد عرفات عام 1993:
شارون بحاجة للهدنة، وأخذ بعين الاعتبار رغبة الحليف الامريكي في التهدئة لاعتبارات تتعلق بالعلاقة مع العرب ومجريات الحرب الجارية في العراق والازمة المتصاعدة مع سوريا ولبنان وايران. وبديهي القول ان شارون ما كان ليوافق على القمة لولا ثقته بانه لن يتعرض لضغوط جدية تجبره على تغيير خططه أو التراجع عن مواقفه التي التزمها امام الكنيست وامام كوادر حزبه “ليكود”. وما كان ليوافق على نتائجها المحدودة وتقديم ما قدم من التزامات سياسية وامنية لولا حاجته لتهدئة الوضع على الجبهة السياسية العسكرية مع الفلسطينيين والتفرغ لترقيع اوضاع حكومته ومعالجة مشكلات حقيقية داخل حزبه ومع حلفائه الاصليين في معسكر اليمين بلغت حد تهديده بالقتل علما انه يعتبر نفسه نبيهم الصادق الامين. ويسعى شارون جاهدا تجنب الفشل في تنفيذ خطة الانفصال، ويتمنى ان لا يضطر الى تجميدها تحت تضغط المستوطنين والمتمردين في حزبه، او تأجيل تنفيذها تحت وابل من قذائف المدفعية والصواريخ كما حصل مع رئيس الحكومة السابق ايهود باراك عند تنفيذ الانسحاب من جنوب لبنان.
الفلسطينيون أيضا، شعب وسلطة ومعارضة بحاجة للهدنة، وجميعهم وافقوا على وقف اطلاق النار كل لاعتباراته. الناس في الضفة والقطاع رحبوا بالهدنة وببقية نتائج القمة رغم انهم لم يغيروا قناعتها بان شارون عقبة في طريق السلام. ويرون في وقف اطلاق النار وتحرير 900 معتقل من سجون الاحتلال وانسحاب الجيش الاسرائيلي من المدن..الخ انجازا مهما يقلص من خسائرهم البشرية والاقتصادية في مرحلة بالغة الصعوبة والتعقيد. ولم ينسوا ان شارون واركانه ظلوا يرفضون مبدأ وقف اطلاق نار متبادل واشترطوا نجاح السلطة الفلسطينية اولا في وقف العنف والعمليات العسكرية وحل المنظمات “الارهابية” وتجريدها من الاسلحة. ولم يتوقف الناس في الضفة والقطاع مطولا امام عودة السفيرين المصري والاردني الى تل ابيب، ولا عند وصف البعض للقمة بأنها قمة انتهاء الانتفاضة. وهم من البداية لم يصدقوا انها سوف تقود الى حل النزاع. واغلبيتهم كما اظهرت انتخابات الرئاسة ليسوا ضد انهاء “الانتفاضة المسلحة” ومع حل وضبضبطة “اجنحتها العسكرية”.
من جهتها، قيادة السلطة وكوادرها المدنية والامنية رحبت بالهدنة ونتائج القمة رغم معرفتهم محدوديتها، ويعتبروها خطوة في رحلة طويلة وشاقة، وهي اقصى ما امكن انتزاعه من شارون. ومقتنعون بان لا افق لتحقيق مكاسب وطنية كبيرة في مرحلة الليكود. وحال عملية السلام بعد 4 سنوات من الصدامات المسلحة وما رافقها من اجراءات على الارض بلغ مرحلة يصعب معالجتها دون تدخل حاسم للطبيب الامريكي.
وبصرف النظر عن النوايا فاعلان حماس والجهاد الاسلامي وقوى اخرى في المعارضة التزامها باتفاق وقف اطلاق النار يشير الى ان الهدنة تمثل في هذه المرحلة حاجة ضرورية ايضا لجميع القوى الوطنية والاسلامية دون استثناء. وإن تحلي الجميع بروح المسئولية العالية يحسن موقف المفاوض الفلسطيني في اللقاءات الامنية والسياسة ويساعد ابو مازن على انتزاع مزيد من الحقوق. وبديهي القول ان لا مصلحة لاي طرف فلسطيني تحمل مسئولية خرق وقف اطلاق النار وتعطيل اطلاق سراح قرابة الف معتقل مضى على بعضهم سنوات طويلة في سجون اسرائيل، والتسبب في الحاق مزيد من الخسائر بشعبه.
وعندما تعجلت قيادة حماس في الرد على خرق اسرائيل لتفاهمات شرم الشيخ لم اصدق، مثل معظم الفلسطينيين، انها وقوى المعارضة التي شاركت في قصف المستوطنات، متعجلة لهذا الحد في احراج ابو مازن واظهار عجزه في تنفيذ التزاماته، واثبات فشل الاجهزة الامنية الفلسطينية في السيطرة على الوضع. ولم استوعب خلفية رغبتها اظهار قدرتها كمعارضة على التحدي وتخريب اي اتفاق لا ترضى عنه حتى اذا قبل بها رئيس منتخب، علما ان الظهور بهذا المظهر يجلب لها متاعب داخلية ويزيد في متاعبها في الساحة الاقليمية والدولية.
الى ذلك، اظن ان رغبة قيادة حماس في المشاركة في المرحلة الثانية من الانتخابات البلدية المقررة بعد شهرين وخوض الانتخابات التشريعية المقررة في تموز /يوليو القادم تفرض عليها التمسك بالهدنة بالحد الادنى حتى انتهاء الشعب وقواه الوطنية من هذه المهمة الكبيرة. خاصة وانها تتوقع ان تحصد فيها نتائج هامة. وخير لحركة حماس وجميع قوى المعارضة استغلال الهدنة واتفاق السلطة مع اسرائيل على وقف الاغتيالات والاعتقالات والاقتحامات في الترويج لبرامجها الانتخابية بدل توتير العلاقات الوطنية، وتوفير ذريعة لشارون واركانه للتراجع عن التزاماتهم وتعطيل الانتخابات.
وفي جميع الحالات ليس معيبا القول بصوت عال ان الشعب الفلسطيني تعب بعد اربع سنوات من عمليات القصف والقتل والتدمير والاعتقال الاسرائيلية ويحتاج فترة استراحة. والحديث عن حاجته فترة راحة يلتقط فيها انفاسه لا تمس كفاحيته ولا تشوه تاريخه النضالي، بل ان انكار هذه الحقيقة يزيد في خسائر الناس وعذابهم دون مبرر.