ليس من حق المعارضة عرقلة استثمار الانتخابات الفلسطينية

بقلم ممدوح نوفل في 14/01/2005

بعد فوزه في الانتخابات تلقى ابو مازن سيلا من برقيات التهنئة من الملوك والرؤساء العرب وعدد واسع من زعماء العالم. وهنأه هاتفيا الرئيس الامريكي ورئيس وزراء اسرائيل شارون وشمعون بيريز وعدد من أركان النظام السياسي في اسرائيل. وامتدح بوش نسبة مشاركة الفلسطينيين في الانتخابات واعتبر نتائجها مشجعة وقال: “أريد أن أهنئ أبو مازن واتطلع إلى الاجتماع به في الفرصة المناسبة واستقباله في واشنطن”. وأشار الى أنه يريد دفع مؤتمر لندن المرتقب مطلع آذار/مارس القادم الى مساعدة الفلسطينيين في بناء مؤسساتهم وتأمين احتياجاتهم. ولم يتحدث عن دور المؤتمر في احياء عملية السلام وتنفيذ خريطة الطريق..وفي السياق ذاته دعا بوش اسرائيل إلى دعم تطوير المؤسسات الفلسطينية، وشدد على اهمية تمسك إسرائيل برؤية دولتين لشعبين يعيشان جنبًا إلى جنب بأمن وسلام. وطلب منها الالتزام بتعهداتها بخصوص “خطة الانفصال” واكد اهمية أن تنسحب من مناطق تعهدت بالانسحاب منها.
فهل الاحتضان الدولي للانتخابات الفلسطينية ونتائجها والصحوة الامريكية ازاء المسالة الفلسطينية يمثلان فرصة لتحسين الموقف الفلسطيني، أم انها صحوة مؤقتة محدودة التاثير؟ وهل هذا الاحتضان يستحق التعامل معه بايجابية، أم سوف يكون احتضانا خانقا يفرض على الفلسطينيين تنازلات والوعود الكثيرة التي تلقها عباس خادعة وانتظار تنفيذها مضيعة للوقت؟ وهل ستعطي المعارضة وانصار العمل العسكري رئيس السلطة المنتخب فرصة استثمار الموقف الدولي من الانتخابات؟
قبل الاجابة على الاسئلة المطروحة وتحليل الانتخابات وقراءة فعلها في الساحة الدولية، لابد من الاشارة الى انها ثاني انتخابات ديمقراطية تجري في فلسطين في غضون ثمان سنوات، وحظيت باهتمام عربي ودولي كبيرين. والتمعن في مسارها وفي ردود الفعل والعربية والدولية على مجرياتها يؤكد انها سارت بشكل طبيعي وبصورة حرة وديمقراطية ونزيهة، ونالت رضا الفلسطينيين في الداخل والخارج، واشاد جميع المراقبين بنزاهتها. ولم يتردد بعض المثقفين والحزبيين العرب في المطالبة بانتخابات في بلدانهم على غرار الانتخابات الفلسطينية. والملاحظات التفصيلية والجزئية التي اثارها بعض المرشحين ومناصريهم لا تمس الصورة ولا تغير في الشهادة الصادقة والمهمة التي ادلى بها المراقبون.
ولا احد يستطيع انكار ان الانتخابات كانت استفتاء حول التوجهات السياسية وحول أشكال النضال الأنسب لتحقيق الاهداف الوطنية. وان اكثر من 80% ممن شاركوا فيها يؤيدون السلام ومع المفاوضات سبيلا لاسترداد الحقوق. والاغلبية الساحقة بايعت ابو مازن وتوجهاته وهي تعرف مسبقا انه ينادي باعتماد النضال السياسي والجماهيري والدبلوماسي بجانب المفاوضات سبيلا لتحقيق الاهداف. ويعارض “العسكرة”، ويرفض اعتماد الكفاح المسلح والعمليات “الانتحارية” وقصف اسرائيل بالصواريخ والهاونات شكلا رئيسيا للنضال. وقبل افتتاح مراكز الاقتراع اقترح بعض المقربين على ابو مازن التوقف عن نقد العسكرة والعمليات الانتحارية وتجنب خسارة اصوات انصار العمل العسكري في الشارع وأصوات كوادر شهداء الاقصى، لكنه رفض الاقتراح وأصر على موقفه وقال: اريد من البداية ان اكون واضحا في المسائل الحساسة حتى اذا كلفني ذلك خسارة الانتخابات. وظل يكرر موقفه طيلة فترة الحملة الانتخابية. وأصر على التراجع علنا عن وصف اسرائيل سهوا بالعدو الصهيوني واعتبرها زلة لسان، ويعتقد البعض ان هذا التراجع افقدة في اللحظة الاخيرة نسبة مهمة من الاصوات.
وبصرف النظر عن الدوافع والاسباب التي دفعت البعض الى مقاطعة انتخابات الرئاسة والمبالغة في الحديث عن نواقصها وثغراتها فان النجاح الفلسطيني في اجرائها بصورة حرة ونزيهة خلال فترة 60 يوما فقط، وقبلها انتخابات بلدية جزئية يعتبر مكسبا وطنيا مهما، أظهر للعالم الوجه الحضاري للشعب الفلسطيني. واعتبره المراقبون انجازا ديمقراطيا كبيرا.
وهذا المكسب يمكن تفعيله في معالجة أزمة الحركة الفلسطينية، لجهة تعزيز الديمقراطية في العلاقات الداخلية وتطوير العلاقة مع الناس في الضفة والقطاع، وتعزيز النضال الفلسطيني في مواجهة الاحتلال وكسر الصمت الدولي على إرهاب الدولة الإسرائيلية، وأيضا في ازالة صفة الارهاب والتشويهات الاخرى التي لحقت بصورة الفلسطينيين في سنوات الانتفاضة. وحبذا لو يستمع الرئيس بوش الى سلفه الرئيس جيمي كارتر ومنافسه في الانتخابات الاخيرة جون كيري وهما يتحدثان عن حسن سير الانتخابات الفلسطينية ونمو وتجذّر الديموقراطية في المجتمع الفلسطيني، وينصح اسرائيل بالكف عن الادعاء بأنها الدولة الديموقراطية الوحيدة في المنطقة.
ومقاطعوا الانتخابات لا يستطيعون الطعن الان وفي المستقبل في شرعيتها وشرعية نتائجها، خاصة انها خضعت لرقابة شعبية وعربية ودولية مرموقة وواسعة. والشعب الفلسطيني فرح بها ورأى فيها ما يعزز نضاله من اجل انتزاع حقوقه المشروعة ويفتخر بانه مارس حقه الديمقراطي رغم وجود الاحتلال. وخير للجميع ان ان يدققوا في الوضع الجديد الذي افرزته الانتخابات في الحياة السياسة والحزبية، وفي العلاقات الفلسطينية العربية والدولية. وردود الفعل تبين ان العالم قرر التعاطى مع الواقع الجديد بايجابية، وابدت الدول الكبرى رغبتها في التعاون مع الرئيس المنتخب. وهذا الموقف يسهل على عباس كسر العزلة التي أطبقت على الفلسطينيين وقضيتهم ظلما في عهد الراحل عرفات واعادتها الى لائحة الأولويات الدولية. وليس عسيرا على ابو مازن بسمعته وشبكة علاقاته الاقليمية والدولية تذكير الدول الكبرى بمسؤوليتها حيال الفلسطينيين ورفع الظلم عنهم. وبرنامجه يجرد شارون الذريعة التي استخدمها في تخريب طريق السلام وعطل المفاوضات وتنصل من استحقاقات خارطة الطريق واستبدلها بخطة انفصال احادية الجانب.
وبديهي القول ان الانتخابات الرئاسية واستكمال الانتخابات البلدية والتشريعية يصعب على القيادة الاسرائيلية المضي قدما في تنفيذ توجهاتها ويفقدها مبرر التصرف بصورة احادية الجانب. وتعطي القوى الدولية غير المنحازة والصديقة اوراق قوة تستطيع استثمارها في الدفع من اجل استئناف المفاوضات وتطبيق قرارات الشرعية الدولية، وتتيح للعرب والقوى الحليفة تطوير اشكال التضامن مع النضال الشعب الفلسطيني العادل والمشروع داخل وخارج الامم المتحدة.
لا شك في أن مهام وطنية كثيرة وكبيرة مطلوبة من الرئيس المنتخب في هذه المرحلة بعضها لا يمكن تأجيلة مثل توفير الامن، ووقف سرقة الارض وبناء الجدار، ومحاربة البطالة والفقر والجوع، ويعرف ابو مازن العقبات الداخلية والخارجية الكبيرة التي تقف في طريق توجهاته. وبديهي القول انه بحاجة الى ما هو أكبر من دعاء الاخوة والرفاق بالتوفيق والنجاح، واكثر من برقيات التهنئة من الاشقاء والاصدقاء. ويستحق من انصاره دعما متواصلا، ومن المعارضة الاسلامية والعلمانية الالتزام بنتيجة العملية الديمقراطية واحترام ارادة الشعب واختياره الواعي والحر، وتجنب اثارة ما يمكن ان يشوه الصورة من جديد ويقلص فرص الحصول على تأييد العالم في مواجهة مخططات الاحتلال.
وليس من حق أحد ارباك حركة رئيس منتخب وتعطيل رغبته في ترجمة قناعته التي نال على اساسها ثقة الناس. أو التسبب في اضاعة فرصة وقف الخسائر البشرية والاقتصادية والسياسية التي وفرتها الانتخابات كما يعتقد، وتحقيق بعض الانجازات الوطنية واخراج الحركة الفلسطينية من النفق المظلم الذي تقف فيه.
واذا كان تشويه صورة الانتخابات والمبالغة في تضخيم الملاحظات والتشكيك في نزاهتها..الخ يلحق الضرر بالمصالح الفلسطينية العليا وبالمشككين أنفسهم، فان اصرار انصار العمل العسكري على فرض مواقفهم على الجميع يوتر العلاقات الوطنية خاصة علاقة حماس بحركة فتح واجهزة الأمن. وعملية معبر كارني الانتحارية التي نفذتها حركة حماس ليلة 14/1/2005 تؤكد تصميم اقلية على عدم احترام ارادة الناخب الفلسطيني وارباك السلطة وحشر الرئيس المنتخب في زاوية ضيقة. وخطورة هذا الموقف الحمساوي غير الديمقراطي لا يقتصر على توتير العلاقات الداخلية بل وأيضا تعطيل امكانية استثمار المناخ الايجابي التي خلقته العملية الانتخابية. وتزود شارون بالذرائع ومواصلة اعمال القتل والتدمير والحصار واستكمال بناء الجدار. وشخصيا لم أفهم الحكمة ولم استوعب أهداف قيادة حماس من تنفيذ عمليتين ضد اهداف اسرائيلية في الاولى عطلت حركة المواطنين الفلسطينيين عبر معبر رفح على الحدود المصرية، وفي الثانية اغلقت معبر كارني المخصص لاستيراد حاجات المواطنين وتصدير منتوجاتهم. وصحيح انهما موقعين عسكريين لكن الكل يدرك ان اغلاقهما يضر بمصالح الناس ويعقد حياتهم اليومية.
اعتقد ان عملية كارني تعكس موقف سلبيا من نتائج الانتخاتات، وتشحن مستقبل النظام السياسي الفلسطيني بالاسئلة وعلامات الاستفهام. وبديهي القول ان بامكان قيادة حماس وقوى المعارضة التسبب في عرقلة عمل الرئيس المنتخب وحتى افشال مهمته، لكن عليهم ان يدركوا أن فشله فشل للجميع وتعمد إفشاله يدفع بالخلاف الفلسطيني الداخلي إلى نقطة اللاعودة ويفتح الباب لصراعات ليست في صالح أحد.
وفي جميع الحالات لا خيار امام دعاة تجديد وإصلاح النظام السياسي الفلسطيني سوى دعم توجهات ابو مازن والعمل على ترجمة قوله “انتهى الجهاد الأصغر وبدأ الجهاد الأكبر” في مختلف ميادين العمل خاصة في العلاقات الوطنية، والحدث الديمقراطي “الانتخابات” وتفاعلاته سلاح فعال اذا اجيد استخدامه.
الى ذلك، يخطئ انصار الرئيس المنتخب اذا اعتقدوا ان بامكانهم النوم على حرير بعد الانتخابات وبعد الترحيب الدولي بنتائجها، وإذا توقعوا هدايا من شارون وحكومته. وعليهم ان يتذكروا أن الرئيس بوش هنأ أبو مازن ثم طالبه بمعجزة مستحيلة التحقيق طالب بها عرفات قبله، اي وقف “الإرهاب” وإصلاح مؤسسات السلطة قبل توفير المقومات الضرورية لذلك.
.