بعد عرفات لا رئيس غير منتخب للشعب الفلسطيني

بقلم ممدوح نوفل في 05/12/2004

تواجه القيادة الفلسطينية في مرحلة ما بعد عرفات عقبات داخلية كثيرة، بعضها ناتج عن الاحتلال والظروف الموضوعية المحيطة بالسلطة وقوى المعارضة ومنظمة التحرير، وبعضها الاخر من صنع الذات تتحمل مسئوليته قيادات القوى الوطنية والاسلامية بنسب متفاوتة كل حسب موقعه وثقله الوطني. وأخطر الظواهر السلبية السائدة في الساحة تتمثل في :غياب الديمقراطية كناظم للعلاقات الوطنية وضعف موقعها في لوائح وممارسات الاحزاب والحركات. ترهل اوضاع “فتح” واستفحال عددا من الظواهر المرضية في بنيتها التنظيمية وفي علاقاتها. ضعف السلطة التنفيذية وتفكك أجهزتها الامنية وانتشار المحسوبية والفساد والبطالة المقنعة في معظم مؤسساتها. اصرار البعض على ادارة الصراع في ميدان العمل العسكري الذي تتفوق فيه اسرائيل ومواصلة العمليات “الانتحارية” حتى اذا شوهت صورة النضال الفلسطيني في الساحة الدولية ودفعت الاسرائيليين نحو التطرف. وتردي الوضع الأمني، وتدهور الوضع الاقتصادي وبلوغه حافة الانهيار، وارث أبو عمار بشقيه الايجابي والسلبي، أعباء كبيرة اضافية تثقل كاهل خليفة عرفات ايا كان اسمه ووزنه.

الى ذلك، توفر الانتخابات الرئاسية المقررة مطلع كانون الثاني/يناير 2005 فرصة جيدة لاستعادة زمام المبادرة سياسيا. وبات بالامكان استثمار الحركة الدولية النشيطة التي بدأت بعد رحيل عرفات في اجراء الانتخابات التشريعية والبلدية، وازالة التشويه الذي لحق بصورة النضال الفلسطيني واظهار تمسك الفلسطينيين بالديمقراطية باعتبارها حاجة وطنية داخلية قبل ان تكون مطلبا أمريكيا. واستثمار الحركة ايضا في حشر شارون وإلزامه بتنفيذ استحقاقات خريطة الطريق وإزالة العراقيل التي عطلت عملية السلام وجمدت الاتفاقات. والعمل بكل السبل على نزع الالغام التي زرعها في طريق الحقوق الفلسطينية، وتأكيد ان الشريك الفلسطيني كان موجودا في عهد عرفات وموجود بعده. ووقف اجراءته العدوانية وازالة الحواجز العسكرية من الطرقات وسحب الجيش من المدن والقرى والمخيمات وإعادته الى مواقعه قبل انطلاق الانتفاضة” اواخر أيلول/سبتمبر 200 .

وبديهي القول ان تردد القيادة الفلسطينية في استثمار الفرصة وتضيعها، والتأخر في حل الاشكالات الداخلية والتهرب من مواجهة الازمة، والتلكؤ في عملية تجديد واصلاح ودمقرطة الاوضاع..الخ يزيد في الخسائر الوطنية ويضاعف المسئولية الشخصية والحزبية، واستثمار الفرصة السياسية الجديدة يبدأ:

أولا بالتزام كوادر فتح والقوى الوطنية والاسلامية بوضع مصالح الشعب العليا فوق اي اعتبار ايدلوجي وسياسي وتنظيمي او شخصي. وتفادي أخطاء الماضي خاصة ما ظهر منها في سنوات الانتفاضة الاربع الماضية. والتجرد من العقلية الفصائلية المتزمتة واعتماد الديمقراطية وانتهاج سياسة واقعية في ميدان السياسة الدولية. والتعقل في ادارة الصراع مع اسرائيل واعتماد سياسة طويل النفس في استرداد الحقوق، ووقف كل نشاط يساعدها في تحول صورة الفلسطيني الضحية الى قاتل وارهابي. والحرص دائما على توسيع جبهة الحلفاء والاصدقاء وتقليص جبهة الخصوم والاعداء وتحييد ما امكن تحييده. وتوحيد الموقف الوطني حيث أمكن وتوزيع الادوار حيث تعذر التوحيد.

وتعرف قوى المعارضة الوطنية ان شارون وأركانه ليسوا غيوريين على دمقرطة الوضع الفلسطيني واصلاح البيت، وليسوا حريصين على نجاح اي صنف من الانتخابات. ويطربون لوصف اسرائيل بالدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط. واظن أنهم يبحثون الان عن ذريعة لمواصلة سياستهم العدوانية وضمنها تخريب الانتخابات وبالحد الادنى تشويه صورتها. وينتظرون عملية “انتحارية” ضد اهداف مدنية في اسرائيل تساعدهم في تحقيق مرادهم.

وفي سياق معالجة الخلاف الداخلي بشأن العمل العسكري وعسكرة الانتفاضة لعل يفيد تذكير ادارة بوش ودول الاتحاد الاوروبي والقوى الاقليمية المعنية باستقرار المنطقة، بأن عرفات رفض، لاعتبارات عديدة حل هذا الخلاف بقوة السلاح وتحاشى التصادم مع أنصار العمليات الانتحارية. خاصة انه لم يلمس موقفا امريكيا او اوروبيا او اسرائيليا يغريه للتضحية وحسم الموقف ووضع حدا لهذا النمط من العمليات. وبعد عرفات أعتقد ان دفع القيادة الجديدة، أي كان على رأسها، الى اتخاذ موقف مغاير لموقف عرفات ومطالبتها بحسم الامر بالقوة تحت شعار ضرورة تأكيد الرغبة في محاربة الاهاب..الخ يعجل في فشلها ويعني مطالبتها بما يفوق طاقتها ودفعها الى الانتحار.

وانصار العمل العسكري والعمليات الانتحارية يقدمون خدمة وطنية كبيرة للشعب الفلسطيني وقضيته ان هم بادروا واعلنوا وقف عملياتهم مدة ستة أشهر مثلا لتسهيل تحركات القوى الاقليمية والدولية وتقديم الدعم والاسناد للشعب الفلسطيني. وتمكين قيادة حركة فتح والسلطة من ا ترتيب أوضاعها بعد عرفات. ومساعدة الرئيس الجديد المنتخب في تدبر امر حمله الثقيل، وتمكينه من استثمار المناخ الدولي والعربي وحشد الطاقات الوطنية للنجاح في مهمته الصعبة والتصدي لمخططات شارون في سرقة الارض وبناء الجدار.

ثانيا/ تعزيز الديمقراطية في العلاقات الوطنية. والمضي قدما في انتخابات الرئاسة واجراؤها في موعدها المحدد مطلع كانون الثاني/يناير 2005. وبذل الجهود لاجراء الانتخابات البلدية والتشريعية قبل منتصف العام القادم. واظن ان خضوع شارون واركان اليمين للضغوط الامريكية والاوروبية والموافقة على مشاركة أهل القدس في انتخابات الرئاسة كما شاركوا في انتخابات عام 1996، يؤكد عدم قدرة اسرائيل بزعامة شارون على التمرد على الارادة الامريكية والدولية عندما يحسم العالم موقفه. وهذه الموافقة الاسرائيلية تزيل عقبة من طريق الانتخابات البلدية والتشريعية. واجراء المرحلة الاولى من الانتخابات البلدية (26هيئة محلية) في موعدها يوم 23 كانون الاول/ديسمبر القادم هو الاختبار الثاني للسلطة بعد رحيل عرفات. ونجاحها في الاختبار الاول نقل السلطة يسهل النجاح في الثاني.

وبصرف النظر عن رأي المعارضة التي قاطعت انتخابات 1996 فان وقائع الحياة أكدت ان المقاطعة ألحقت أضرارا فادحة بالمصالح العليا للشعب وبالمقاطعين أنفسهم. وأضعفوا دور المجلس التشريعي في مواجهة مؤسسة الرئاسة وفي مراقبة السلطة، وحرموا المجلس من حرارة البحث والنقاش التي يولدها وجود معارضة قوية. وغابت المعارضة عن المشاركة في صياغة القوانين والانظمة والتشريعات التي تنظم المجتمع الفلسطيني. وفي سياق تبرير الموقف الخطأ تورط من لم يشارك في انتخابات عام 1996 في مهاجمة العملية الديمقراطية، والمجلس المنتخب وطعنوا بشرعية دوره. وتصحيح هذا الخلل الذي نتج عن ذاك الخطأ يفرض على حماس والجهاد الاسلامي والجبهتين الشعبية والديمقراطية الاعتراف بالخطأ والمشاركة في الانتخابات الجديدة الرئاسية والتشريعية والبلدية. وخلق اجواء ديمقراطية تنافسية حقيقية وتأكيد العزم على المشاركة في تحمل عبئ مرحلة ما بعد عرفات الثقيل.

واتخاذ قوى المعارضة اتفاق اوسلو ذريعة لمقاطعة الانتخابات مرة أخرى يعني الاستمرار في فرض العزلة على الذات والبقاء خارج اللعبة البرلمانية الى إشعار آخر، وخسارة منبر مهم للتعبير عن المواقف. وشخصيا لا أفهم لماذا لا يشارك اعداء اتفاق اوسلو في الانتخابات علما أنها الوسيلة الوحيدة التي تمكنهم من الغائه اذا فازوا ؟! ثم كيف يمكن ان تكون الانتخابات البلدية التي قرروا المشاركة فيها شرعية وخارج مظلة اوسلو بينما الرئاسية والتشريعية تحت مظلته؟ أليس كل الوضع الفلسطيني الذي نعيشه على الارض منذ اكثر من عشر سنوات هو نتاج اتفاق اوسلو ؟ ولماذا لا تستفيد قيادة المعارضة وكوادرها من الامكانات التي تتيحها الانتخابات مثلما استفادوا من اتفاق اوسلو وعادوا من المنافي الى أرض الوطن؟ ثم لماذا يخافون من ميت، ألم يقولوا مرات عدة ان اوسلو مات ودفن تحت انقاض “المقاطعة” بعد ان داسته الدبابات والمجنزرات في شوارع رام الله والمخيمات والمدن الفلسطينية الاخرى؟

وبصرف النظر عن جواب المعارضة فإن الفراغ الذي خلق بعد عرفات لا يمكن اشغاله بالتعيين او بانتخابات تجري داخل الاطر الضيقة. والشرعية التاريخية التي يتمتع بها ابو مازن أبرز المرشحين والمناضلين المخضرمين لا تكفي لقيادة السفينة في مرحلة ما بعد عرفات والوصول بها بر الدولة بسلام وأمان. وخليفة عرفات ايا كان اسمه بحاجة للشرعية الشعبية والدستورية اضافة للتاريخية ، وحصوله عليها يزوده بقوة معنوية في مواجهة العقبات الداخلية والخارجية، ويوفر العباءة التي تغطى بها عرفات وقت الشدة. وبديهي القول ان على الجميع احترام النتيجة المعبرة عن ارادة الشعب ومساندة الرئيس الجديد ايا كان دينه او انتمائه، وتحاشي كل ما يربك موقفه ويضعف صموده في وجه الضغوط المقبلة.

وفي سياق الحديث في الانتخابات تجدر الاشارة الى قيادة فتح والقيادة الفلسطينية أخطات حين أجلت عقد مؤتمر الحركة وأجلت اجراء انتخابات رئاسية وتشريعية وبلدية حيث كان بالامكان انجازها قبل عام 2000. وبديهي القول ان المصلحة الوطنية تفرض استغلال الحركة الدولية الجديدة وتصحيح هذا الخطأ. إلى ذلك يسجل للشهيد ابوعمار انه حقق ما أراد حين أصر على اجراء انتخابات رئاسية بعد عودته للوطن، ورفض مقولة بعض المتزلفين من قانونيين وسياسيين مقربين: انت منتخب من المجلس الوطني رئيسا لدولة فلسطين التي اعترف بها العالم، والمجلس الوطني أعلى من المجلس التشريعي، والدولة اكبر من السلطة. وتحققت نبوءة عرفات بإن اجراء الانتخابات بحضور مراقبين دوليين ومشاركته شخصيا فيها يكرسها ركنا من اركان الديمقراطية الفلسطينية، ويحولها الى قاعدة دائمة لاختيار رئيس دولة فلسطين، وقال: “لن يكون بعدي رئيس سلطة او دولة غير منتخب”. وهذا ما يجب الالتزام به.