تفرد في قيادية السفينة الفلسطينية وسط بحور هائجة ـ الحلقة الثالثة

بقلم ممدوح نوفل في 10/11/2004

واجه عرفات منذ توليه زعامة منظمة التحرير في العام 1968 محاولات اسرائيلية ودولية وعربية وفلسطينية لزعزعة مكانته القيادية في المنظمة وفي حركة “فتح” التي ساهم في تأسيسها. لكن ميكافيليته وبراجماتيته وقدرته العالية في قراءة حركة الزاوبع السياسة والحزبية قبل وصولها، واتقانه المناورة والتكتيك وبناء التحالفات وفكها بسرعة، مكنته من الخروج بسلام من الكمائن التي نصبت في طريقه. ونجح في مقاومة المحاولات الداخلية والخارجية لتقليص نفوذه وتحويله إلى شخصية رمزية مجردة من الصلاحيات. ونجح بجدارة في السيطرة على الوضع الداخلي الفتحاوي والفلسطيني العام ولم يتورع عن استخدام كل الوسائل والحيل في فرض مواقفه وتوجهاته السياسية والتنظيمية على عموم الحركة الوطنية. وطبع مرحلة طويلة من حياة الشعب الفلسطيني بطابع عرفاتي مميز لا يمكن تكراره ويصعب تقليده.
كان عرفات مناورا من الطراز الاول وامتاز بقدرته على التعامل مع جميع صنوف البشر، ولم ينسف جسرا بناه مع عدو او صديق، وكان يحرص على بقاء شعرة معاوية حتى في علاقته مع الشيطان. ولم يكن يغضب حين يسمع رواية قصته مع ابليس يوم ادى مناسك الحج : والتي تقول ذهب عرفات للحج وفي موقع رمي الجمرات رجم ابليس 6 رجمات فقط واحتفظ بالسابعة، وظن مرافقه في الحج ان الحاج أبو عمار أخطأ في العد وقال له سيدي الرئيس رميت 6 رجمات فقط اجابه بصوت منخفض لا ترفع صوتك حتى لا يسمعنا الله، من يدري قد تتحسن علاقة ابليس مع الله وعندها سأذكّره بأني كنت أرحم به من الآخرين”.
ظل أبو عمار وفيا لاخوانه ولكل من قاتل معه طالما ظل قريبا منه ومواليا له، وكان الابتعاد عنه يعني دخول صاحبه عالم النسيان وكان التصادم الجدي معه يعرض صاحبه لاقسى العقوبات.
ورغم صلابته، بكى أبو عمار شهداء صبرا وشاتيلا. وقال عار علينا الصمت امام استباحة الدم الفلسطيني، ويجب ان لا نغفر او ننسى وكان مقتنعا بان الذاكرة الحية تصون الحقوق وتعبأ الاجيال. والشيء ذاته حصل يوم فجيعة استشهاد ابو جهاد واستشهاد ابو اياد وابو الهول وابو محمد العمري في تونس.
كانت ثقته بشعبه عالية واعتزازه بفلسطينيته مطلقة. لم يعرف اليأس في حياته، ورآى في الانتفاضة الاولى هبة من الله وفي الثانية اشراقة نور التحرير والعودة الاستقلال. وحاول عسكرة الأولى وشجع على عسكرة الثانية وراى في العسكرة ورقة قوة بيد الفلسطينيين في مواجهة العنجهية الاسرائيلية والضغط على الادارة الامريكية ودفعها لارغام حكام اسرائيل على احترام مصالح الطرف الفلسطيني.
ظل يؤمن بان الثورة سوف تنتصر وان الدولة الفلسطينية سوف تقوم شاء من شاء وابى من ابى.. وان طفلا فلسطينيا سوف يرفع يوما ما علم فلسطين فوق مآذن وكنائس القدس..كان مقداما في المواجهات الداخلية كما الخارجية، وكان شجاعا وقت الشدائد والمحن وظل شعاره “الارض تفلحها عجولها فقط”. وكان قائدا ميدانيا يهتم باوضاع المقاتلين، ويحفظ عن ظهر قلب اسماء الكوادر الصغيرة والكبيرة. والموقع الذي لم يستطيع زيارته أبان المعارك في النهار زاره في الليل. وفي حصار بيروت رفض عرض المبعوث الامريكي فيليب حبيب بالخروج بلباس الصليب الاحمر الدولي، وأصر على الخروج المشرف وبكامل السلاح. وفي سياق قطع الطريق أمام من قال من القيادة الفلسطينية دعونا نقبل العرض، وقف عرفات بعدما عمل استخارة وقال: “هبت رياح الجنة، الله امرني ان استمر في المقاومة حتى الشهادة”.
وعبر قيادته مسيرة النضال أكثر من 40 سنة، بنى عرفات الوضع الفلسطيني السياسي والتنظيمي والعسكري بصيغة يصعب على اي انسان بمفرده التحكم به سواه. وامتاز بطاقة عالية وظل لسنوات يعمل اكثر من خمسة عشر ساعة في اليوم الواحد، وقمة العطاء وصفاء الذهن عنده تبدأ بعد منتصف الليل.
تحمّل قهر الحنين للوطن بصبر الواثق من العودة وظل راسخ الايمان بانه سوف يعود ويبني الدولة المستقلة. ونجح بتفوق في اعادة اسم فلسطين الى خريطة المنطقة الجيوسياسية، وساهم بفعالية في اقناع دول العالم وزعمائها بعدالة قضية شعبه وبحق هذا الشعب في الحرية والاستقلال. وكان يولي العلاقات الشخصية المباشرة مع الزعماء اهمية كبيرة واعتبرها ركنا هاما من اركان العمل من اجل القضية وتوضيح حقيقة النزاع وكسب تضامنهم ضد الظلم.
وبصرف النظر عن رأي الآخرين به فقد مثل عرفات تيار الاعتدال في الساحة الفلسطينة ولم يكن مغامرا ولا متطرفا، وحافظ بثقله المعنوي والروحي على جملة من التوازنات داخل الساحة الفلسطينية وداخل فتح ذاتها وفي العلاقات الفلسطينية العربية والدولية. ويسجل له انه نجح في طبع مرحلة كاملة من تاريخ الشعب الفلسطيني بختم عرفاتي يصعب محوه. وكرس نمطا من العلاقات العربية الفلسطينية يصعب نسف أسسها وجذورها. وراكم خبرة قيادية سياسية وتنظيمية وادارية غنية. وبنى رصيدا نضاليا لا يمكن لاي باحث موضوعي تجاوزه، ولا مصلحة للشعب الفلسطيني والشعوب العربية وكل الشعوب المكافحة من اجل الحرية طمس دروس التجريبة العرفاتية فهي تجربة غنية بشقيها الايجابي والسلبي.
وبهذا الرصيد وتلك الخبرة عزز أبو عمار مكانته في صفوف الفلسطينيين. وتفرد في قيادية السفينة الفلسطينية وسط البحور الهائجة التي عبرتها في اربعين عام. واحتفظ بشخصية مزدوجة، شخصية السياسي البراجماتي الواقعي المرن وشخصية الثائر المبدئي الجامد وكثيرا ما اصطدم عرفات بابي عمار خاصة لحظة اتخاذ القرار الوطني الصعب. ،
كان رجل سلام حقيقي، ونجح أبو عمار في دفع الحركة الوطنية المجلس الوطني الفلسطيني، أعلى سلطة تشريعية فلسطينية إلى تبني مبادرة سلام عام 1988 تتضمن بجانب قيام دولة فلسطين على اراضي الضفة الغربية والقطاع غزة فقط، والاعترف بوجود اسرائيل على بقية ارض فلسطين التاريخية. واظن انه الزعيم الفلسطيني الوحيد الذي كان بامكانه انتزاع هكذا قرار تاريخي، وأيضا توقيع اتفاق سلام فلسطيني اسرائيلي من مستوى اتفاق اعلان المبادئ الذي تم التوصل له في اوسلو عام 1993.
ولا احد سواه كان بامكانه انتزع قرار واضح من المجلس الوطني عام 1996 بالغاء بنود ميثاق منظمة التحرير “الميثاق الوطني” شبه المقدس عند بعض الفلسطينيين، التي تتعارض مع اتفاق اوسلو وتدعو الى تدمير دولة اسرائيل. واظن انه الوحيد الذي ظل قادرا على خرق المحرمات الفلسطينية وتحمل اعباء توقيع اتفاق حول قضايا الحل النهائي للنزاع يتضمن تنازلات تاريخية من مستوى التنازل عن قسم من حائط المسجد الاقصى البراق، والموافقة على بقاء مستوطنات في الضفة الغربية في اطار عملية تبادل في الاراضي. وأجزم أن القيادة الإسرائيلية ارتكبت خطأ استراتيجيا عندما لم تستثمر مرحلة عرفات في الوصول إلى حل نهائي شامل ودائم للنزاع مع الفلسطينيين وسوف يدفع الشعبان الفلسطيني والاسرائيلي وشعوب المنطقة ثمنا باهظا لهذا الخطأ الجسيم.
وفي سياق الحديث عن عرفات، تجدر الاشارة الى انه كان متهما اسرائيليا وامريكيا قبل عملية السلام وقبل التوصل إلى اتفاق اوسلو بتهم كثيرة: كان متهما بأنه إرهابي يتزعم منظمة إرهابية ويحيط نفسه بمجموعة إرهابية..الخ وبقدرة قادر تحول عرفات بين ليلة وضحاها، بعد الإعلان عن هذا اتفاق إلى رجل سلام يؤمن بالتعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين أفنى حياته بحثا عن السلام..في حينه امتلأت فنادق العاصمة التونسية بالصحفيين ومراسلي وكالات الأنباء وشبكات التلفزة العالمية جاءوا لتغطية الحدث. ونقبوا في لقاءاتهم مع القيادة الفلسطينية في تاريخ عرفات المتعلق بصنع السلام وتجنبو البحث في تاريخه العسكري “الارهابي”. وقال كثيرون منهم؛ أوامر رئيس التحرير تجميل صورة السيد عرفات وإظهاره رجل سلام.
وابو عمار الذي اتهم بالإرهاب، هو نفسه الحاصل على جائزة نوبل للسلام، ودخل البيت الأبيض أكثر من 25 مرة وسجل رقما قياسيا في دخول زعماء العالم هذا البيت وفي عدد اللقاءات التي عقدت مع رئيس أمريكي. واعتبار شارون واليمين الإسرائيلي عرفات عقبة أمام صنع السلام في المنطقة لا يقف على أرض سياسية صلبة. وتفحص مواقف جميع الاطراف يبين ان لا خلاف في الجوهر بين الرؤية التي تبناها عرفات للحل النهائي القائمة على دولتين للشعبين، ورؤية هيئة الامم المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي لهذا الحل. وأظن ان خلاف دول العالم المعنية بتسوية النزاع العربي الاسرائيلي مع شارون ونصيره الرئيس بوش ظل خلافا في الجوهر اما خلافهم مع عرفات فقد تركز حول مسائل تكتيكية وليس أكثر.
في جميع الحالات اعتقد انه من غير الممكن عزل الحديث حول وضع القضية الفلسطينية في نصف القرن الماضي عن سيرة عرفات الشخصية والسياسية والنضالية خاصة مرحلة توليه زعامة منظمة التحرير. واذا كان الحديث اليوم حول مصيره يختلف عن الحديث الذي طرح بقوة في إبان حصار القوات الإسرائيلية مدينة بيروت عام 1982، وحصارها المتواصل مدة ثلاث سنوات لمقره في مدينة رام الله، فهذا الحديث وما رافقه من قلق وارتباك فلسطيني واقليمي ودولي حول صياغة مستقبل المنطقة ومستقبل العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية يكشف حقيقة حال عملية السلام المزرية بعد ثلاثة عشر عاما من انطلاقتها، ويؤكد فشل العالم في إيجاد حل للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي رغم المرونة الفائقة التي ابداها عرفات.
وسوف يؤكد التاريخ صدق قول عرفات بعد اغتيال رابين وتولي حزب ليكود السلطة في اسرائيل: “عقدنا اتفاق وعدنا للوطن مقتنعين بصنع السلام الشامل معهم، لكنا وجدنا مجتمعا اسرائيليا غير ناضج لسلام عادل، وقيادة عنجهية لا ترى ابعد من انفها تحاول شطب تاريخ الشهداء وتحويل السلام الى استسلام”.
وبصرف النظر عن مصير ياسر عرفات كانسان، مع تمنياتنا له بالشفاء العاجل، اجزم بان التاريخ سوف يخلد ذكرى أبو عمار الرمز. ورغم الملاحظات الكثيرة التي يمكن ان تسجل على اسلوبه في ادارة الحكم وموقفه من بناء المؤسسات، فإن ألد اعداءه لا يمكنهم انكار انه نجح في توحيد شعبه تحت رايات منظمة التحرير الفلسطينية، ونجح في قيادة أهله وربعه نحو الاعتزاز بهويتهم الفلسطينية واحياء قضيتهم الوطنية. ونقلها من غرف ارشيف الدول والحكومات حيث كانت مهملة ووضعها على “الاجندة” الدولية، واحتلت قمة جدول أعمال هيئة الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية وجميع الدول الكبرى والصغرى المهتمة بالسلم العالمي وبشئون منطقة الشرق الاوسط. ويمكن القول بثقة انه بجهد المناضلين في زمن عرفات وتحت قيادة أبو عمار، لم يعد بمقدور أحد كنس القضية الفلسطينية واخفاء عناصرها تحت السجاد الاحمر او الاسود. كما لم يعد بمقدور احد انكار حق شعب فلسطين في دولة اسوة بالشعوب الارض. وجميع من فشلوا في تهميش عرفات في حياته يستحيل عليهم تجاهله تراثه بعد مماته.وأشهد أن سيرة عرفات لا يمكن تغطيتها ببضع مقالات وقد تكتب يوما في مجلدات.