تاريخ أمة في سيرة رجل ـ أبو عمار الرمز وعرفات الانسان ـ الحلقة الأولى

بقلم ممدوح نوفل في 10/11/2004

تاريخ أمة في سيرة رجل

بعد أقل من شهرين في 1/1/2005، تكون أربعون سنة بالكمال والتمام قد مرت على اعلان عرفات واخوانه، مؤسسو حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، حرب التحرير الشعبية طريقا وحيدا لتحرير فلسطين واطلاقه رصاصة الكفاح المسلح الأولى مطلع عام 1965. وخلال هذا المشوار الطويل الشاق والمرهق، صنع ياسر من أبو عمار رمزا خياليا بجانب عرفات الانسان، وقاد أبو عمار حركة شعب، وفي عهده انبعثت الوطنية الفلسطينية من جديد، وتحولت مخيمات اللاجئين في الشتات وفي الضفة والقطاع الى مواقع نضال وتحول سكانها من لاجئين يتسولون امام وكالة الغوث الى مقاتلين من اجل العودة والحرية والاستقلال. رقد ياسر عرفات الانسان على سرير في المستشفى العسكري في باريس وقاوم الموت بقوة. وكان ابو عمار الرمز واجه الموت من قبل مرات وتغلب عليه وصار معروفا بين ناسه بأنه الشهيد الحي. ووقف القدر مرة بجانبه وانقذه من موت محقق عندما سقطت وتحطمت طائرته في الصحراء الليبية في ربيع عام 1992. لكنه في هذه المرة استسلم امام القدر وهو الذي لم يستسلم ولم يخضع قط لبشر.
وعرفات، كأي إنسان عادي، يمرض ويدخل المستشفيات للعلاج. صحيح انه كثيرا ما حاول التمرد على تعليمات طبيبه الخاص، لكنه كان في كل مرة يخضع لها وينفذها بحذافيرها. ويبدو ان مرضه هذه المرة ليس كالمرات السابقة. ومع تمنياتنا له بالشفاء العاجل، فقد حيّر مرضه أمهر الاطباء الفلسطينيين والعرب والفرنسيين، مثلما حيّرت مواقفه السياسية كثير من كبار قادة العالم ومن المحللين السياسيين والاجتماعيين والنفسيين. وأشغل مرضه دول العالم، وأقلق الأوفياء والانقياء من أبناء أمته، ووضع شعبه ورفاقه وجها لوجه امام مسائل وطنية حساسة ظلوا سنوات طويلة يهربون من التفكير فيها.
إلى ذلك، بعث مرض عرفات نشوة عارمة في نفس شارون وفي صفوف اركانه الامنيين والسياسيين، وأبهج خصوم ابوعمار وجميع من عادوا الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني. ولم يستطع الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن اخفاء حقده على عرفات وأبّنه قبل وفاته. ولم يستغرب الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع والمهاجر موقف شارون بما في ذلك تمنى الموت لعرفات حيث ظل سنين طويلة يتمنى ان يشهد نهايته قبل أن يرحل من رئاسة الوزراء. لكنهم استغربوا واستهجنوا موقف بوش رئيس اقوى دولة في العالم، ويتسائلون عن اسباب كل هذا الحقد الدفين الذي يختزنه ضد عرفات.
وبصرف النظر عن المواقف الشخصية من عرفات فان شارون سوف يبقى متهما من قبل الفلسطينيين بدس السم لعرفات ريثما ثبت براءته، وهو في نظر المراقبين المحايدين يصفي حسابات سياسية وفكرية وشخصية قديمة جديدة مع عرفات. أما الرئيس بوش فأنه مدان في نظر الجميع بتشجيع شارون على ارتكاب جرائم كبيرة كثيرة في فترة حكمه الأولى، ومتهم بانه افتتح عهده الجديد بتسهيل جريمة شارون الكبرى الجديدة.
قد يبدو عرفات لمن لا يعرفه عن قرب انسانا محيرا ولغزا معقدا يصعب فهمه. لكنه في الواقع انسانا خجولا يحب الحياة الدنيا رغم انه لم يستمتع بمعظم ملذاتها التي يستمتع بها الناس العاديون. ومن أجل فلسطين زاد حبه لها وتعلق بها واستمتع فيها على طريقته الخاصة؛ استمتع بالسلطة وتوابعها بدءا من سهر الليالي وعقد الاجتماعات الفلسطينية الماراثونية، والمشي فوق البساط الاحمر واستعراض حرس الشرف واداء التحية عندما تعزف الفرق الموسيقية النشيد الوطني، مرورا بمخاطبة زعماء العالم وتمثيل فلسطين في المحافل الدولية، وانتهاء باصدار الاوامر الخطية الادارية والعسكرية. وصرف المساعادات المالية لدعم المحتاجين فعلا ولتحقيق اهداف اخرى تتعلق بتعزيز سلطته. ولم يرد أبوعمار طلب مساعدة وصل يديه، وكثيرا ما خرقت أوامر الصرف وقرارته الادارية والمالية النظم والقوانين الرسمية.
وكل من يراجع تاريخ أبوعمار السياسي يجد حياته حافلة بالأحداث وظلت دوما صاخبة مليئة بالحركة والمفاجئات. عاش أكثر من نصف قرن في ميدان العمل السياسي والحزبي وسط حقول من الألغام والمتفجرات كانت دائما قابلة للاشتعال السريع والانفجار في كل لحظة. وادرك من البداية ان المال والاعلام ركنان اساسيان من اركان القيادة واحكم سيطرته على الحقلين في فتح ومنظمة التحرير.
كان ابو عمار عنيدا في الدفاع عن القضايا الوطنية، وظلت مناكفة الملوك والرؤساء العرب وغير العرب حول المسائل الفلسطينية الجوهرية والشكلية تبعث في نفسه نشوة استثنائية. وكان دائما يتباهي بجرأته في التصدي لكل من حاول التطاول على حقوق الفلسطينيين، وآخرها، انه الوحيد بين الزعماء العرب الذي قال لا كبيرة للرئيس الامريكي “بيل كلينتون” في عقر داره في البيت الابيض عندما طالبه بتقديم تنازلات تمس الثوابت الوطنية المتعلقة بالقدس ومقدساته وبالارض وحقوق اللاجئين. ويومها رفض أبو عمار الخضوع والاستسلام لكلينتون ومساعديه ودعاهم للسير في جنازته.
ولد ياسر عرفات “محمد عبد الرؤوف القدوة” في الرابع والعشرين من آب/اغسطس 1929 وظل لا يعير اهتماما يذكر للاحتفال بعيد ميلاده. ترعرع، كما قال، في كنف اخواله آل ابو سعود في بيت المقدس، وعشق في طفولته القدس وشوارعها الضيقة والعتيقة وكل فلسطين. وبعد عملية السلام وتوقيع اتفاق اوسلو كثيرا ما اكد أبو عمار امام الزوار الاجانب وبخاصة اليهود حملة الجنسيات المختلفة ايمانه بالتعايش بين اصحاب الديانات السماوية الثلاث. وكان يهوى الحديث بالتفصيل حول طفولته في القدس القديمة وكيف كان يلعب في حارة اليهود وظلال حائط المبكى مع ابناء جيله من اطفال يهود فلسطبن.
بدأ عرفات حياته متفانيا وعاش فقيرا متقشفا وتألم لمصائب شعبه وحمل هموم أهله، وثار في شبابه ضد ظلمهم وقهرهم، وتأبط البندقية دفاعا عن الكرامة الفلسطينية والعربية. درس في الجامعات المصرية وتخرج منها مهندسا مدنيا. وفي العام 1954 ساهم مع ابو اياد صلاح خلف وبشير البرغوثي وابراهيم غوشه وآخرون في تأسيس اتحاد طلاب فلسطين في القاهرة وترأسه عرفات. ومنذ ذلك الحين برز دور الطالب ياسر عرفات كناشط من اجل القضية يحب السلطة ويتقن أصولها. وفي ساعات الاسترخاء، في ليالي الثورة في الاردن ولبنان وتونس، كثيرا ما روى ابواياد كيف كان عرفات يتصرف كرئيس اتحاد الطلاب، وكان يشبه سلوك عرفات بسلوك الوزراء والرؤساء. وروى أمامه وخلفة مرات عدة ان عرفات استأجر حارس العمارة حيث مقر اتحاد الطلاب واستخدمه في تمثل دور الزعيم، وأنه لم يتورع عن فبركة اختام باسم اتحاد طلاب فلسطين ووقع اوراقا تؤكد وظيفته وقدمها للسلطات المصرية طلب فيها منحه، بناء على قرار قيادة الاتحاد، حق المشاركة في كل نشاط يمس القضية الفلسطينية.
بعد تخرج عرفات من الجامعة تحسنت اوضاعه المادية، خاصة بعد انتقاله اواسط خمسينات القرن الماضي للكويت حيث عمل مهندسا مدنيا وأسس مكتبا خاصا للمقاولات الهندسية ولم يتراجع حماسه للقضية. ولم يلحظ رفاقه واقرب الناس اليه اهتمامه في الكويت او زمن الثورة والدولة بالأمور الشخصية. ورغم نجاحه في دفع قوى الثورة ومنظمة التحرير الى اعلان الدولة في العام 1988، وانتخابه رئيسا لدولة فلسطين في العام 1989 لم يغير عرفات موقفه بشأن عيد الميلاد والامور الشخصية الأخرى، وحافظ على ذات السلوك الزاهد بعد قيام السلطة الوطنية وبعد عودته للوطن عام 1994.
ظل أبو عمار أعزبا قرابة ستين عام وكان يفاخر بزواجه من القضية ومعها بندقية، وظل يستمتع بازعاج إخوانه المتزوجين باستدعائهم في أوقات متأخرة من الليل. وفي احدى السهرات بعد انتخابه رئيسا لدولة فلسطين في تونس مطلع آذار/مارس، 1989سأل ابو عمار؛ تخيل أننا نجحنا وطردنا الاحتلال بعد سنة او سنتين من فلسطين وأقمنا الدولة المستقلة فهل ستتزوج وتنهي غيرتك من المتزوجين وتتركنا ننام دون استدعاءاتك المعهودة بعد منتصف الليل؟ رد بسرعة وقال مازحا لن أترككم تنعمون بما لا أنعم به.
وأضاف بجدية: زواج ما رح أتزوج…انا راجل كبرت وصرت شبه عجوز ولن أجد من تقبل بي. ثم كيف أتزوج وهناك في العروبة والاسلام من يتآمر على القضية الفلسطينية. الزواج قد يلهيني بعض الوقت عنهم وهذا تقصير اعتبره خطير جدا ولن أتحمل مسؤوليته أمام الله والتاريخ.. وعندما قرر الزواج من قرينته سهى الطويل رفض اقامة الافراح، ولم يحيي الليالي الملاح، وعقد قرانه واكمل اجراءات الزواج بهدوء ودون ضجيج. ولاحقا صار حريصا على الاحتفال بعيد ميلاد طفلته الوحيدة زهوة، وخضع في السنوات الأخيرة لمساعديه الذين اجبروه على المشاركة في احتفال سنوي متواضع بعيد ميلاده.
تعرض أبو عمار منذ توليه زعامة حركة التحريرالوطني الفلسطيني “فتح” في العام 1965 لمحاولات اغتيال كثيرة معظمها إسرائيلي ونجا من محاولات أخرى قام بها بعض الاخوة والاشقاء. وبفضل يقظته الأمنية العالية وإشرافه المباشر على ترتيبات أمنه الشخصي تمكن من البقاء على قيد الحياة سنوات طويلة، ولكن يبدو ان اعداءه نجحوا في استغلال احدى غفواته تحت الحصار ودسوا له السم في الطعام، وقد ينجحون في حرمانه من الشهادة في ميادين القتال كما كان يتمنى. ورغم عداء بعض القوى الاقليمية والدولية له فان هذه القوى خاصة الولايات المتحدة الأمريكية كثيرا ما تحركت لانقاذه من بطش شارون وأرغمته واركانه الامنيين على عدم التعرض لحياة عرفات. ولا نظلم احدأ في القول ان حركتها لم تكن بفعل مودة خاصة تكنها لشعب فلسطين ولشخص عرفات واركانه في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، بل نتيجة إدراك مبني على دراسات مدققة لموقع عرفات المركزي والمميز في صلب الوضعين الفلسطيني والاقليمي، ولدوره المؤثر في توجيه حركة الرياح فيهما.