النظام السياسي الفلسطيني والنفضة الفكرية التنظيمية المطلوبة

بقلم ممدوح نوفل في 17/08/2004

يكثر الحديث في الساحة الفلسطينية، هذه الايام، حول الديمقراطية والاصلاح والتجديد والتغيير. والتدقيق في الموجة الجديدة يبين أنها تختلف عن سواها حيث رافقت “التمرد” الذي وقع في قطاع غزة والهزة المحدودة في جنين، ويشارك فيها بقوة كوادر في حزب السلطة “فتح” ومجموعات في “كتائب شهداء الاقصى”. ومراجعة وتيرة حديث الاصلاح تبين انه ظل موسميا يرتفع ويهبط، يسخن ويبرد، تبعا لحال العلاقة بين السلطة والمعارضة، وحسب همة ونشاط المثقفين ومراكز الأبحاث والدراسات ومنظمات المجتمع المدني في تشخيص الأزمة وتحديد سبل الاصلاح والتغيير العملية.

إلى ذلك، يتاثر حديث الاصلاح في الشارع بالازمات الداخلية التي تظهر بين فترة وأخرى على شاشة الحزب الحاكم “فتح”، وبأحداث نافرة تطفو على سطح المجتمع الفلسطيني، وبما يظهر على خشبة المسرح السياسي من أخبار الفساد في السلطة والممارسات الخاطئة لأجهزتها الأمنية والمدنية. ويزدهر هذا الحديث في صفوف قوى النظام السياسي ونخبة المثقفين عندما تضطرب علاقة الحكومة بمؤسسة الرئاسة وتتوتر علاقة المؤسستين بالمجلس التشريعي. ويطغى الموضوع على ما عداه في الصحافة وشاشات الفضائيات وقاعة التشريعي عندما تظهر ملامح تغيير او تعديل وزاري. ونادرا ما تذكر ناس السلطة والمعارضة حال منظمة التحرير وكأن أمرها لم يعد يعنيهم. وقليل ما يتم التطرق لأزمة المعارضة ومنظمات المجتمع المدني علما أن أوضاعها ليست على ما يرام وعملها لا يخلوا من شوائب وثغرات كبيرة وخطيرة.

وبفعل الموسمية والمفاهيم الفصائلية الضيقة فقدت هبات النقد وصيحات المطالبة بالاصلاح والتجديد الموضوعية والشمولية ولم تحقق نتائج ملموسة ذات قيمة. وظل وضع السلطة والحزب الحاكم وباقي القوى “الوطنية والاسلامية” على حاله ولم يظهر في الساحة نموذجا ديمقراطيا يحتذى به. وكثيرا ما قفز قادة الفصائل والاحزاب الفلسطينية فوق موجبات الاصلاح الحقيقية، ودائما يتهربون، هيئات وافراد، من ترجمة الاقوال الى افعال. ويقاومون ببراعة اي تعديل في اللوائح والانظمة الداخلية، خصوصا اذا كانت نتيجة التعديل تجديد القيادة وتوسيع الديمقراطية في صفوف التنظيم. وتحصر كثير من القيادات مفاهيم الاصلاح في حدود رؤآها الحزبية ومصالحها الشخصية الضيقة، وبما يساعدها في المحافظة على الامتيازات المعنوية والمادية وتبرئة الذمة واعفاء الذات من تطبيق ما تطالب به الآخرين وتبرير تقصيرها في العمل لتحقيق هذا الهدف الوطني النبيل.

ويستطيع المراقب المحايد أن يرى أن أدق تشخيص لحالة النظام السياسي الرسمي المتدهوره يأتي من كوادر حزب السلطة، وأعلى وتائر نقده ياتي من قادة القوى الوطنية المشاركة فيها. لكنه يجري في الغالب خارج الاجتماعات الرسمية، ويكتفي بعضهم بطرحه داخل اطر ضيقة. وحديثهم عن حال السلطة يأخذ في معظم الأحيان طابع التندر والتنكيت خاصة حول أداء السلطة ومؤسساتها الأمنية والمدنية بما في ذلك اجتماعات الحكومة واللجنة التنفيذية. وكأن أصحاب التندر والتنكيت ليسوا جزءا من السلطة وبراء من المسؤولية عن استفحال النواقص والثغرات في وضع المنظمة.

وفرز دعوات الإصلاح والتجديد والتغيير بعضها عن بعض يبن انها تنطلق من مفاهيم متباينة الاغراض والاهداف وليس كل أصحابها والمؤيدين لها صالحين ومجددين، وتدقيق المتداول يبين أن كثيره مزيف وقليله صادق: بعضه قيّم يرسي أسسا سليمة لعملية التجديد والتغيير والدمقرطة المطلوبة وطنيا. يطرحه فلسطينيون وديمقراطيون عرب وآخرون غيورون على المصالح الفلسطينية. يميزون الخلل الموضوعي عن الذاتي ويأخذون في الاعتبار إرث الاحتلال ودوره في الأزمة واستفحالها ويراعون موازين القوى ومواقف القوى الدولية والإقليمية في معالجتها.

وهناك دعوات تصدر عن ناس المعارضة وآخرون في الحزب الحاكم ومنظمات المجتمع المدني أقرب للمناكفات الحزبية والمناورات السياسية و”التحشيش الفكري” حسب تعبير ابوعمار. يقابلها محاولة ناس في السلطة والحكومة والمجلس التشريعي التقليل من دور القصور الذاتي في خلق والثغرات، ويبالغون في دور الاحتلال في “الخراب” وفي تعطيل الاصلاح. وهناك صنف ثالث يندرج تحت بند خداع وتضليل سياسي يطرح بهدف تغطية مآرب واهداف خاصة شخصية وحزبية ضيقة. وصنف رابع لا يمت بصلة للمصلحة الوطنية، يطرحه شارون لتغطية سياسته المتطرفه المعادية للسلام. ولا خلاف بين الفلسطينيين وأنصار السلام في اسرائيل على أن حديث شارون وأركانه أقطاب اليمين عن إصلاح السلطة الفلسطينية يشبه حديث المجرم الذي يحاول حرف الأنظار عن جريمته. ومحاولة مكشوفة هدفها تضليل الرأي العام العالمي والاسرائيلي وتبرير أعماله الفاشية المتواصلة بحق الفلسطينيين ارضا وشعبا وممتلكات وبحق السلام بين الشعبين. وأن هدف شارون واركانه الامنيين والسياسيين لا يقل عن استكمال تدمير السلطة ومؤسساتها ونسف أسس عملية السلام وتدمير مقومات قيام دولة فلسطينية. واظن ان التحاق حزب العمل بالحكومة وتولي شمعون بيرس حقيبة الخارجية يوسع دائرة التضليل ويمنحا مصداقية اكبر.

وإذا كان أركان البيت الأبيض يأخذون على محمل الجد قصة الاصلاح في أجهزة الأمن الفلسطينية، وتطهير مؤسسات السلطة من الفاسدين ودمقرطة أوضاعها..الخ فان شارون واركانه الامنيين وانصارهم في الساحة الامريكية مستعدون لسحب حديثهم عن تغيير وإصلاح سلطة عرفات ونشر الديمقراطية في الساحة الفلسطينية..الخ إذا نجحت في قمع المعارضة وضبطت الوضع الأمني وأوقفت العمليات ضد الإسرائيليين واستسلمت لشارون. والكل يعرف أن شارون وقوى دولية يحثون السلطة صباح مساء على قمع حركة حماس والقوى الفلسطينية التي تمارس العمل العسكري ضد اسرائيل، وتطالبها باعمال غير ديمقراطية من نوع اعتقالات دون محاكمات واغلاق مؤسسات مدنية طبية واجتماعية وانسانية.

ودعاة الإصلاح “الصادقون” وحكومات دول العالم الديمقراطي تتعامل مع حديث شارون باعتباره كلام حق يراد به باطل. ومن يمنع الفلسطينيين من ممارسة حقهم في الانتخابات ليس حريصا على نشر الديمقراطية في فلسطين واجراء إصلاحات واسعة في النظام الفلسطيني. واشتراط شارون إصلاح السلطة وتغيير قيادتها قبل العودة للمفاوضات يعني أن لا أفق لاستئنافها وإحياء عملية السلام في عهده. واصراره على بناء جدار الفصل العنصري بين الاسرائيليين والفلسطينيين يؤكد انه لا يزال يعيش عقلية الغيتو ويعمل على الزام شعب اسرائيل بالانفصال والانعزال عن جيرانهم إلى الأبد.

وبصرف النظر عن رأي شارون وسكان البيت الابيض فإني اؤمن بان اصلاح النظام السياسي الفلسطيني بشقية سلطة ومعارضة قضية وطنية كبرى، وفي إصلاحه ودمقرطة علاقاته وتجديده قوة للفلسطينيين في المواجهة المفروضة عليهم. ويمكن للقراءة الموضوعية للازمة تحميل الاحتلال مسؤولية خراب الاقتصاد الفلسطيني وزرع ازمة اقتصادية معقدة علاجها صعب ويحتاج لمساعدات خارجية، لكن الأمر لا ينطبق على ازمة الديمقراطية وازمة العلاقات الداخلية..الخ من أزمات النظام السياسي الفلسطيني. وساهم عدم الاحتكام للقانون وانعدام المحاسبة المسئولة، وغياب المأسسة في إظهار السلطة أمام أبنائها ومؤازريها قبل خصومها، أنها فاشلة ينخرها المحسوبية والفساد. ونفر قطاع واسع من الناس من حولها ضمنهم ناس هللوا لها يوم ميلادها. وخاب أمل الواقعيين الديمقراطيين في سلطة فلسطينية ديمقراطية، وتشكلت عنها صورة في ذهن المواطن الفلسطيني مطابقة لصورة الأنظمة العربية المتخلفة والدكتاتورية التي رفضها نموذجا لحكمه وسلطته. وفي جميع الحالات أعتقد أن شارون وبوش وأركانهم براء من صفقة الاسمنت مثلا، وليسوا مسؤلين عن قضايا الفساد السياسي المالي والاداري والاخلاقي التي تحدث عنها فتحاوييون ويحقق المجلس التشريعي في بعضها.

واظن ان إصلاح النظام السياسي الفلسطيني بات يتطلب خطوات وطنية جريئة حتى ولو كانت مؤلمة لبعض القوى وبعض الشخصيات. وإلى “نفضة” فكرية سياسية تنظيمية إدارية شاملة، تبدأ اولا بالسلطة والمنظمة وتمتد لتشمل القوى الوطنية الاسلامية الأخرى.وإذا كان امر الاصلاح اختلط على الناس في الضفة والقطاع ونجح من هم بحاجة إلى اصلاح ومحاسبة وتغيير في تشويه العملية المطلوبة وزرعوا شكوكا في جديتها فهذا لا يلغي الضرورة العملية للاصلاح ولا يقلل من قيمتها الوطنية خاصة في المرحلة الحرجة التي يمر بها الفلسطينيون.
وبديهي القول أن إعتماد القدرية وانتهاج مواقف انتظارية في معالجة الخلل يضر ولاينفع. وأيضا الإكتفاء بمواقف الردح والتنكيت لا يسمن ولا يغني عن جوع ولا يصحح الأخطاء. والشيء ذاته ينطبق على احلال الرغبات والامنيات الذاتية بدلا عن الواقع.

اظن ان التاريخ لن يرحم احدا، وليس هناك قائد او مثقف فلسطيني داعم او مشارك في السلطة او معارض لها يستطيع الادعاء بانه بريء من المسئولية عن الاخفاق. وبصرف النظر كيف ترى القوى نفسها في المرآة فالفحص الموضوعي لاوضاعها يؤكد أنها بحاجة إلى عملية إصلاح وتجديد ودمقرطة جذرية وليس حزب السلطة فقط. وإن التلكؤ في الاصلاح يضاعف من المسئولية ويزيد في حجم الخسائر، ويفرض على الاجيال اللاحقة دفع ثمنا باهظا عن أخطاء وتقصيرات ارتكبها غيرهم. ويأمل “الصادقون” من دعاة الإصلاح والتغيير أن لا تتلاشى الموجة الجديدة بسرعة وأن تتحول قضايا الإصلاح والتجديد والتغيير الى وقائع على الارض وتسفر عن نتائج تفيد الناس في الضفة والقطاع، وليس فئة محدودة في قمة الهرم السياسي او من هم دون ذلك بقليل.

والاصلاح يتم فقط اذا توفرت رافعة تنظيمه متينة تحمل قضاياه وتثابر على طرحها في الشارع، وأيضا عندما يتعزز دور دعاة الإصلاح “الحقيقيين” في المجتمع ويصبحون قوة ضغط فعّالة تناضل داخل السلطة وخارجها. واذا كان التقاط الافكار القيمة ودفعها نحو التطبيق مهمة من الطراز الاول فلا مناص أمام دعاة التغيير والإصلاح والتجديد من توحيد أنفسهم في إطار حركة ديمقراطية جديدة. وقديما قالوا ليس كل ما يلمع ذهبا، ويمكن القول الآن ليس كل من يدعو للاصلاح صالحا وصداقا حتى اذا تحدث بصوت عال.