تركيز الجهود ضد الجدار خير من الانشغال في خطة قد لا ترى النور

بقلم ممدوح نوفل في 11/06/2004

أثارت خطة شارون الداعية الى الانفصال عن الفلسطينيين واجلاء المستوطنين وسحب الجيش الاسرائيلي من قطاع غزة واخلاء اربع مستوطنات اخرى في شمال الضفة الغربية،عاصفة قوية من رد الفعل في الساحتين الاقليمية والدولية لم تهدأ ويبدو انها لن تهدأ في وقت قريب وستترك بصمات على الصراع الفلسطيني الاسرائيلي والوضع المنطقة. وهزت الخطة وضع النظام السياسي الاسرائيلي بقوة ومست مكانة شارون السياسة والمعنوية داخليا وخارجيا ودفع ثمن عدم أخذ موافقة حزبه وشركائه في الحكم قبل تسليمها للرئيس بوش في زيارته الاخيرة لواشنطن في نيسان/ابريل الماضي. واعتقد شارون ان مكانته التاريخية، وموافقة الاجهزة الامنية على خطوطها الاساسية، وصداقته مع بوش تكفي لاقرار الخطة في اطار الحكومة وقيادة “ليكود”. وظن أن جرأته في المواجهة مع الفلسطينيين وبراعته في اغتيال قادتهم كوادرهم و وقتل نسائهم واطفالهم وتدمير بيوتهم وقلع اشجارهم وحبس رئيسهم عرفات قرابة ثلاث سنوات..الخ من اعماله العنصرية تكفي للحصول على دعم قواعد وكوادر ليكود والشروع في تنفيذ الخطة وفق التوقيت الملائم له وللرئيس بوش.

ويسجل لشارون أيضا نجاحه في اقناع صديقه بوش وأركانه بان السلطة الفلسطينية في عهد عرفات ـ قريع تفتقر المواصفات المطلوبة لشريك يشارك في تنفيذ الخطة. ورحب أهل البيت الابيض بالخطة واثنى بوش على شجاعة شارون وظن ان خطته تساهم في تعزيز اوراقه في الانتخابات والرد على اتهامات منافسه كيري بفشل سياسته في الشرق الاوسط، وبخاصة معالجة النزاع الفلسطيني الاسرائيلي. ومنح بوش صديقه شارون وعدا تاريخيا دونه في رسالة تعهدات خطية تسلمها شارون تضمنت موقفا أمريكيا جديدا بشأن النزاع لا سابق له في عهد الإدارات الأمريكية المتعاقبة، شبهه بعض الكتاب العرب والفلسطينيين بوعد “بلفور” المشئوم. ولم يتوقع أكثرهم تشاؤما أن يرقى موقف بوش لهذا المستوى من الاستخفاف بمواقف العرب شعوبا وحكومات، ودعم لسياسة القتل والتدمير التي يتبعها شارون ضد الفلسطينيين والمدمرة لفكر السلام.

لاحقا أكدت وقائع الحياة أن شارون أخطأ التقدير وفشل في تسويق خطته. وصدم وارتبكت خطواته عندما خسر استفتاء قواعد الحزب ولم يصدق النتيجة وراح يبحث عن مخرج يحافظ على وحدة حكومته ووحدة الائتلاف الذي تستند اليه ويحفظ له كرامته عند صديقه. وادخل شارون تعديلات نوعية في الخطة مست جوهرها وآلية تنفيذها، وجزأها في اربع مراحل: تبدأ باخلاء ثلاث مستوطنات معزولة في قطاع غزة نتساريم موراغ ورفياح بام. وفي الثانية يتم اخلاء مستوطنات كاديم وغانيم سانور وحوميش في شمال الضفة الغربية، وفي الثالثة تخلى مستوطنات غوش قطيف وكفار دروم في قطاع غزة، وفي الرابعة الاخيرة يتم اخلاء ايلي سيناي ودوغيت. وخضع شارون لضغط معارضي الخطة بزعامة غريمه الوزير نتنياهو ووافق على تأجيل المرحلة الأولى حتى آذار/مارس القادم 2005، واخضاع كل مرحلة من المراحل الاربعة لمصادقة الحكومة. وأبقى شارون مسألة استمرار سيطرة اسرائيل على محور فيلادلفي الفاصل بين الحدود المصرية والفلسطينية غامضا، ولم يوضح موقفه بشأن تدمير المباني والمنشئات المدنية في المستوطنات أو تسليمها للفلسطينيين ضمن صفقة تضمنها الادارة الامريكية.

وبعد صراع حاد داخل حزب ليكود وفي اطار الائتلاف الحزبي اليميني صادقت الحكومة الاسرائيلية يوم 6 حزيران/يونيو 2004 على خطة معدلة اقرب الى اعلان نوايا باغلبية 14 وزيرا وعارضها 7 آخرون. فهل سيتم تنفيذ خطة شارون، أم ان مصيرها لن يكون أفضل من مصير الخطط والمبادرات الامريكية والدولية البائس والاتفاقات الفلسطينية الاسرائيلية الكثيرة التي لم ترى النور؟ وهل يمكن للفلسطينيين البناء على خطة شارون وعليهم التحضير لمرحلة ما بعد الانسحاب من قطاع غزة؟ وهل انضمام حزب العمل لحكومة شارون وتأييد الرئيس بوش والقيادة المصرية للخطته الاصلية او المعدلة يوفر ضمانة لتنفيذها؟

لا خلاف فلسطيني على ان اخلاء شارون اي مستوطنة في الضفة او القطاع وسحب الجيش الاسرائيلي من اي جزء من الارض مكسبا سواء تم بشكل احادي الجانب او بترتيبات مسبقة مع المصريين او اي طرف ثالث. والفلسطينيون انصار السلام مقتنعون ان شارون نجح بمساندة امريكية في جعل خطته المشروع الوحيد المطروح في الساحة، وتهرب من تنفيذ التزاماته الواردة في خريطة وخاصة اخلاء البؤر الاستيطانية “غير القانونية”. ويشكون في أن خطة شارون الاصلية او المعدلة ستنفذ ويعتقدون أن نتيجتها الوحيدة قد تكون تقطيع الوقت واستكمال بناء جدار الفصل العنصري في عمق الضفة الغربية. خاصة ان فترة الشهور التسعة التي تفصلنا عن آذار/مارس 2005 حبلى بتطورات واحداث لها تاثير ر على خطة شارون ومجمل الوضع في المنطقة بعضها بدأ يظهور على خشبة مسرح السياسة الاسرائيلية. ولا احد يعرف مصير خطة شارون اذا فشل بوش في الانتخابات وتبدل سكان البيت الابيض في نوفمبر القادم.

وقول شارون “خطة الفصل انطلقت والحكومة قررت انه حتى نهاية العام 2005 سننسحب من غزة و4 مستوطنات الضفة والقرار يضمن مستقبل اسرائيل وجيد لأمنها ومكانتها السياسيسة واقتصادها وديمغرافية الشعب اليهودي في ارض اسرائيل”..الخ يعكس جزءا بسيطا من الحقيقة المتعلقة بالديموغرافيا. لكنه يجافيها ويندرج في اطار التمنيات عندما يتحدث عن المستقبل وانطلاق الخطة نحو التنفيذ وعن امن اسرائيل. ولا أحد يضمن نجاحه في تنفيذها اذا صدق والتزم بها خاصة وان الأمر يتطلب تصادما حقيقيا مع معارضي الخطة في ليكود والمستوطنيين وقوى اليمين التي تساندهم.

وشارون يعرف ان مصادقة مجلس الوزراء على نسخة معدلة من الخطة لا يؤشر على قوة ولا يعني ان مناورته نجحت وحقق انتصارا ساحقا على خصومه، بمقدار ما يعني ان معركة حقيقية قد بدأت داخل معسكر اليمين. ويعرف ان الجولة الاولى من الصراع انتهت في غير صالحه وخرج منها مثخنا بالجراح: تلقى لطمة سياسية ومعنوية قوية في استفتاء حزب ليكود حول الخطة. تمرد عليه صف واسع من قيادة الحزب وممثليه في الكنيست ولم يستطع اتخاذ اجراءات ضد اي منهم. اجبر على التراجع عن خطته الاصلية وادخل عليها تعديلات عديدة جوهرية. لم يتضمن قرار مجلس الوزراء اشارة الى اخلاء مستوطنات. وتشكلت ارضية ملائمة لتوحيد قوى اليمين ضد تنفيذ الخطة. وتحولت حكومته الى رهينة بيد خصومه في اليمين واليسار ولا احد يضمن استمرار حزب العمل في توفير شبكة الامان.

وبغض النظر عن عنجهية شارون ومكابرته ومحاولة الايحاء بانه لا يزال يمسك بزمام الامور، فحالته الراهنة تشير إلى انه يسابق الزمن ويبحث عن مخرج لكن مازقه يتعمق اكثر كيفما تحرك. وهو مرتبك اسير اقلية ليكودية رباها على التطرف، واسير احزاب يمينية بث فيها روح معارضة الحلول السياسية مع العرب والفلسطينيين وشجعها على التمرد وتحدي القوانين عندما يتعلق الامر بالاستيطان

ويدرك شارون ان تراجع الوزراء نتنياهو وشالوم ولفنات اركان حزب ليكود عن التصويت ضد الخطة في اجتماع مجلس الوزراء لا يعني عودة المياه الى مجاريها بين المعسكرين بل الوصول الى تسوية مؤقتة لن تدوم طويلا. ولاحقا قد يحتاج شارون إلى معجزة لضمان بقاء حكومته وبقاءه في ديوان رئاسة الوزراء حتى نهاية ولايته في العام 2007.

وأظن ان استنجاد شارون بحزب العمل قد يطيل في عمرها لكنه لا يساعد في اخلاء المستوطنات، وقد يسرع في انفجار المعركة داخل ليكود وقول الوزير ايتام من “المفدال: “لا يمكن لاي ماكنة غسيل تبييض كلمات واحد من اسود القرارات التي اتخذت في تاريخ اسرائيل..وسندعو جميع القوى الى مقاومة الخطة”..الخ تشير الى بداية تشكل جبهة يمينية ضد شارون اضافة للجبهة “اليسارية” المضادة له ولحكومته. وحديث البعض عن تكرار السيناريو الذي نفذه شارون واطاح بنتنياهو وحكومته بعد توقيع اتفاق واي ريفر عام 1998 لا يندرج في اطار التنميات بل قد يتكرر في الشهور القادمة. ولا احد يعرف مصير الخطة اذا اضطر شارون الى الذهاب لانتخابات مبكرة.

وفي جميع الحالات لا مصلحة للفلسطينيين او اي طرف عربي مساعدة شارون على الخروج من المأزق. والتجاوب مع توجهاته في استبدال تنفيذ احادي الجانب بدور مصري واردني لاحقا إذا أمكن، لا يخدم المصالح العربية العليا. وخشية بعض الفلسطينيين والعرب من سقوط شارون “المعتدل” وانتصار القوى الاكثر تطرفا في ليكود وفي المجتمع الاسرائيلي ومن ضياع فرصة الانسحاب من غزة..الخ تعبر عن سذاجة سياسية في احسن الاحوال. ويخطأ من يعتقد ان موافقة شارون على تجديد دور مصر في عملية التسوية وابداء الاستعداد للقاء رئيس الوزراء الفلسطيني احمد قريع تعبر عن تغير جوهري في سياسته المعادية للسلام وفي موقفه من خريطة الطريق ومن الحقوق الفلسطينية، أو انها تفسح في المجال للتقدم بمبادرات والقيام بتحركات تخرج عملية السلام من مازقها وتعيد لها حيوتها. اعتقد ان الصراع الفلسطيني الاسرائيلي دخل مرحلة دراماتيكية قد تكون مسلية للبعض لكنها بالتاكيد مؤلمة للشعب الفلسطيني وتخلو من امكانية تحقيق اي تقدم جدي على طريق التسوية اقله من الآن وحتى ما بعد الانتخابات الامريكية في تشرين الاول “نوفمبر” القادم وطالما ظل شارون رئيسا لوزراء اسرائيل. وانشغال مصر والعرب وانصار السلام في سبل تقليص خسائر الفلسطينيين ومساندتهم في معركتهم ضد الجدار وايواء المهجرين وتأمين لقمة العيش للجائعين خير من الانشغال في خطة قد لا ترى النور، وإذا رأته لن تحل النزاع.