الخيار الفلسطيني الصعب : رسائل الضمانات الامريكية لا تنهي خطر تعهدات بوش لشارون – الحلقة الأولى

بقلم ممدوح نوفل في 09/05/2004

برغم الصفعة القوية التي تلقاها رئيس الحكومة الإسرائيلية في نتيجة الاستفتاء البائسة والمهينة حول خطته للانفصال من جانب واحد وإخلاء مستوطنات غزة، ظل شارون يؤكد تمسكه بالخطة وما زال يوحي بانه مصمم على تنفيذها. وبرغم رسالة الضمانات التي قدمها الرئيس بوش للملك عبد الله الثاني يوم 7 أيار”مايو” الجاري ومست تعهداته لشارون، والحديث عن رسالة مشابهة سوف تسلمها مستشارة الرئيس بوش كونداليزا رايس إلى أبو علاء يوم 17 أيار “مايو” الجاري، بقي شارون يعتبر انه حقق في لقاءه يوم 14 نيسان “أبريل” الماضي بالرئيس الأمريكي بوش نجاحا استراتيجيا لا سابق له منذ إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948. فهل يرد شارون الصفعة لتلاميذه في الحزب اللذين تطاولوا عليه وتحدوه ويمضي قدما في تنفيذ الخطة بالاعتماد على دعم صديقه بوش؟ وهل تنهي رسائل الضمانات الامريكية التي قدمت للجانب العربي خطر تعهدات الرئيس الامريكي الخطية لرئيس الحكومة الاسرائيلية؟

بصرف النظر عن مصير هذه الخطة يحق لصاحبها شارون أن يظل يتباهى في وسائل الإعلام وأمام الكنيست وقادة الائتلاف الحكومي بأن “وعد” بوش تضمن دعما لم يتلقى احد من زعماء إسرائيل مثله. وبامكانه أيضا الرد على فشله في الاستفتاء الحزبي وتآمر عدد من الوزراء ضده، بالاعتزاز والافتخار بان “صديقه” بوش نصره في وقت خذله جمهوره ورفاقه.

وشارون دقيق حين يعتبر التعهدات الأمريكية المكتوبة التي قطعها بوش على نفسه أقسى ضربة سياسية وجهت للفلسطينيين منذ إعلان قيام دولة إسرائيل، وأن الضمانات الخطية والشفوية التي قدمت للاردنيين والمصريين والسعوديين والفلسطينيين لا تلغي هذه الحقيقة. فموقف الرئيس الأمريكي الحريص على نشر الديمقراطية في العراق وإصلاح النظام العربي ودمقرطته..كان صريحا في عدوانيته ضد الفلسطينيين وفي استهتاره بالعرب حكومات وشعوب. وكان حاسما في انحيازه لمواقف اليمين الاسرائيلي المتطرف. ولم يكتفي بوش بمكافئة الاحتلال وشرعنة تغيير حدود عام 1967 واستيطان الضفة الغربية..الخ وقدم أجزاء من الأرض ومن حقوق اللاجئين التي أكدتها قرارات الشرعية الدولية هدية مجانية لإسرائيل.

ولشدة إعجاب بوش بشخصية شارون وأفكاره الخلاقة..وحاجته الماسة لدعم اللوبي الإسرائيلي في أمريكا في الانتخابات وكسب أصوات اليهود، أباح زعيم أقوى دولة ديمقراطية في العالم ل”صديقه” فعل ما يريد ضد الفلسطينيين سلطة وشعبا وأرضا وممتلكات. وبرر له الذهاب إلى استفتاء حزب ليكود على الخطة. ومنحه شهادة رجل ديمقراطي يبغي سلام، وأدرج سياسة قتل النساء والشيوخ والأطفال وتدمير المنازل وقطع الأشجار وبناء الجدار وحصر الشعب الفلسطيني في معازل وكنتونات عنصرية تحت بند دفاع إسرائيل عن نفسها في مواجهة الإرهاب..!

ويبدو أن الرئيس الأمريكي يخطط لتعويض المستوطنين في قطاع غزة بسخاء، عندما يحين وقت رحيلهم، وإلزام البنك الدولي والمواطن الأمريكي دافع الضرائب وبعض الدول الصناعية شراء ممتلكات المستوطنين بالسعر الذي يطلبه شارون ويحدده زعماء المستوطنين. ويفكر بوش في تسجيل قيمتها دينا يستقطع لاحقا من حساب تعويض اللاجئين، هذا إذا حصل اللاجئون الفلسطينيون على حقهم في التعويض بعد أن حرمهم بوش من حق العودة، ولم يفكر بوش وأعوانه خبراء الاقتصاد للحظة في احتساب قيمة استغلال المستوطنين في القطاع للأراضي الفلسطينية والمياه الشحيحة سنوات طويلة.

وخطورته موقف الرئيس الأمريكي لا تكمن فقط في سخائه من جيب الفلسطينيين وحقوقهم وإلغاء أسس عملية السلام ونسف قرارات الشرعية الدولية فقط، بل وأيضا في إخراج قيادتهم من معادلة حل نزاع وتغييب دورها واستبداله بثنائيات ظهر منها حتى الثنائية الأمريكية الإسرائيلية.

ويعتقد بعض المحللين الاستراتيجيين ان “وعد” بوش لإسرائيل ودعمه خطة شارون وضع القيادة الفلسطينية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما اعلان الانسحاب من عملية السلام او قبول “المستطاع” المعروض اسرائيليا وامريكيا والعمل على تحسينه. ويرون أن تجربة إدارة بوش المؤلمة والمريرة في رعاية عملية السلام وانحيازها الدائم لقوى التطرف، تؤكد ان رسالة الضمانات الامريكية للملك عبد الله الثاني لا يلغي الاستخلاص، والشي ذاته ينطبق على التعهدات او التوضيحات ستسلمها مستشارة الرئيس بوش كوندليزا رايس لرئيس الوزراء الفلسطيني أبو علاء يوم 17أيار “مايو” الجاري.

إلى ذلك، لا أحد في السلطة أو المعارضة الفلسطينية والمثقفين المستقلين يصدق قول الرئيس بوش في رسائل التطمينات للعرب: “إن الولايات المتحدة الأمريكية لن تحكم مسبقا على المفاوضات النهائية، وان جميع قضايا الحل النهائي يجب ان تتمخض عن المفاوضات بين الجانبين وطبقا لقرارات الامم المتحدة وقراري مجلس الامن 242 و 338 “. خاصة انه جدد التزامه بالضمانات التي سلمها لشرون وأكد تمسكه بدعم خطته المدمرة لخريطة الطريق وعملية السلام، وقال: “أدعم الخطة التي اعلنها رئيس الوزراء شارون لسحب المستوطنات من قطاع غزة وبعض أجزاء الضفة الغربية، وهذه الخطة شجاعة ويمكن أن تقدم مساهمة حقيقية نحو السلام”.

إلى ذلك، تتباين مواقف قوى النظام السياسي الفلسطيني بشأن سبل مواجهة مشروع شارون وكيفية التعامل مع الموقف الأمريكي الجديد ومع نتائجه المباشرة والبعيدة على الصراع: قوى المعارضة الفلسطينية ممثلة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي والجبهتين الشعبية والديمقراطية، والفتحاويون كوادر كتائب شهداء الأقصى المنخرطين في الانتفاضة المسلحة وصف واسع من أعضاء المجلسين الوطني والتشريعي وكوادر الإتحادات الشعبية والفصائل الأخرى المقيمة في دمشق وقطاع واسع من المثقفين المستقلين يعتبرون تبني بوش خطة شارون يمثابة إعلان رسمي لوفاة عملية السلام وإغلاق جميع الطرق المؤدية إلى حل النزاع بالطرق السلمية. ويقلل أصحاب هذا الرأي من قيمة الضمانات الخطية والشفوية التي قدمها بوش للعرب، ومن قيمة التحركات الدولية وتصريحات زعماء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي. ويسخرون من نتائج اجتماع الدول الإسلامية الأخير الذي عقد في ماليزيا ومواقف الحكومات العربية، ويتهموها جميعا بالتخاذل في الدفاع المقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين. ويسجلون للوزير باول نجاحه بامتياز في فرض “رؤية” رئيسه بوش لخطة شارون على أطراف اللجنة الرباعية الدولية، وكيف “أقنعهم” بالتعامل معها باعتبارها خطة الإنقاذ الوحيدة المضمونة لعملية السلام.. واقنعهم بتبني وجهة نظر البيت الابيض حول اصلاح السلطة وتغيير القيادة الفلسطينية ويبرزون قول بوش مؤخرا إن الحديث عن قيام دولة فلسطينية قبل نهاية عام 2005 صار أمرا غير واقعيا.

ويطالب أتباع هذا النهج المتشدد القيادة الرسمية عدم الانخداع برسائل الضمانات، وأتخاذ موقف فلسطيني حازم يرفض مشروع شارون و”وعد” بوش المشئوم جملة وتفصيلا. وعدم انتظار الترياق من قمة الملوك والرؤساء المقرر عقدها في تونس أواخر شهر أيار “مايو” الجاري. ويسخّفون موقف أنصار السلام في الساحة الفلسطينية خاصة جماعة عبد ربه ونسيبة، ويتهمونهم بالتخاذل والاستسلام وتشجيع الثنائي بوش ـ شارون على المس بحقوق اللاجئين وقضم مساحات من أراضي الضفة الغربية تم استيطانها.

ويطالبون رئيس م ت ف عرفات بقلب الطاولة في وجه الجميع، وإعلان سقوط اتفاق اوسلو وسحب اعتراف م ت ف بإسرائيل وإلغاء الالتزامات الفلسطينية التي تضمنتها الاتفاقات السابقة. ويدعون قيادة المنظمة لاتخاذ موقف حازم وإعلان الانسحاب من عملية السلام والعودة للكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية وإعلان التعبئة العامة لمقاومة الاحتلال..واعتماد العمل العسكري كخيار إستراتيجي لانتزاع الحقوق. و يدعو بعضهم لحل السلطتين التنفيذية والتشريعية اللتين إنبثقتا عن اوسلو وإعادة الأمانة إلى م ت ف وحل الأجهزة المدنية والعسكرية وتحميل الاحتلال وزر تنظيم حياة قرابة أربع ملايين فلسطيني. وتطالب فئة محدودة من جماعة الرفض عرفات بالاستقالة. وهناك من يعتقد أن الرد الاستراتيجي على “وعد” بوش وأطماع شارون التوسعية يتم بإعلان قيادة المنظمة، فورا ومن جانب واحد، قيام الدولة الفلسطينية فوق جميع الأراضي التي احتلت عام 1967، والطلب إلى القمة العربية المساعدة في انتزاع اعتراف دولي بالدولة وتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة.

على النقيض، تقف في الطرف الأخر من الميدان السياسي الفلسطيني أقلية ترفض موقف المعارضة وتحملها قسطا رئيسيا من المسئولية عن تدهور الموقف الفلسطيني في الساحة الدولية، والتسبب في دمغ الحركة الوطنية بالتطرف والإرهاب وتسهيل الطريق أمام مخططات شارون آخرها خطة الفصل أحادي الجانب وبناء الجدار العنصري. وهذه الأقلية تحذر القيادة من الوقوع في الفخ الإسرائيلي ومن تكرار نكبة 1948. وتدعو المعارضة إلى التعامل بواقعية مع التطورات وعدم الانجرار وراء استفزازات شارون وأركان المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. ويقولون إن دخول الفلسطينيين في معركة كسر عظم مع الإدارة الأمريكية أقرب إلى انتحار سياسي يضاعف خسائرهم البشرية والمادية. ويعتبرون رسالة الضمانات التي قدمها بوش للملك عبد الله الثاني والتي سوف يتسلمها ابو علاء تتضمن تراجعا غير مباشر وغير معلن عن التعهدات التي قدمها بوش لشارون. ويدعون القيادة إلى تحمل مسئولياتها وانهاء ازدواجية السلطة، والترحيب بالتعهدات او التطمينات الامريكية والتعامل معهما باعتبارهما خطوة مهمة يمكن البناء عليها تؤشر إلى امكانية التأثير في الموقف الامريكي. ويستشهدون بأقوال وزير الخارجية الأمريكية كولن باول في اجتماع اللجنة الرباعية الدولية الأخير في نيويورك أن الضمانات التي قدمها بوش لشارون “لم تشطب خريطة الطريق ولم تنهي دور الرباعية ولا تلغي حق الفلسطينيين في اتخاذ الموقف الذي يرونه في مفاوضات تسوية قضايا الحل النهائي اللاجئين والمستوطنات والحدود”..الخ. ويدعون إلى عدم التقليل من قيمة هذا الموقف واستخدامه في تطوير الموقف الاوروبي والروسي والأمم المتحدة وتفعيل دورهم في عملية السياسية وتطويق ومحاصرة توجهات شارون العدوانية التوسعية. فهل تتوحد الرؤيا الفلسطينية ويتفق اطراف نظامهم السياسي حول خيار غير الرفض أو الخضوع ؟ هذا ما سيتم الاجابة عليه في الحلقة الثانية.