الخيار الفلسطيني الصعب ـ نشرة الطريق نحو الاستقلال والسلام

بقلم ممدوح نوفل في 29/04/2004

يرى بعض المحللين الاستراتيجيين ان “وعد” بوش لإسرائيل ودعمه خطة رئيس الحكومة الاسرائيلية وضع القيادة الفلسطينية أمام خيارين لا ثالث لهماك اعلان الانسحاب من عملية السلام او قبول “المستطاع” والمعروض اسرائيليا وامريكيا والعمل على تحسينه.

إلى ذلك، تتباين مواقف قوى النظام السياسي الفلسطيني بشان تقييم “وعد” بوش وسبل مواجهة مشروع شارون وكيفية التعامل مع التحول في الموقف الأمريكي ومع نتائجه: قوى المعارضة الفلسطينية ممثلة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي والجبهتين الشعبية والديمقراطية والفصائل الأخرى المقيمة في دمشق، والفتحاويون كوادر كتائب شهداء الأقصى المنخرطين في الانتفاضة المسلحة وصف واسع من أعضاء المجلسين الوطني والتشريعي وكوادر الإتحادات الشعبية، ويعتبرون موقف الرئيس بوش إعلانا رسميا لوفاة عملية السلام وإغلاق لجميع الطرق المؤدية إلى حل النزاع بالطرق السلمية. ويدعون إلى موقف فلسطيني حازم يرفض نشروع شارون ووعد بوش جملة وتفصيلا. ويقلل أصحاب هذا الرأي من قيمة التحركات الدولية ومن تصريحات زعماء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي. ويسخرون من نتائج اجتماع الدول الإسلامية الأخير الذي عقد في ماليزيا ومن مواقف الحكومات العربية، ويتهمون حكومات الدول العربية والإسلامية بالتخاذل في الدفاع المقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين. ويدعون إلى عدم انتظار الترياق من قمة الملوك والرؤساء المقرر عقدها في تونس أواخر شهر أيار الجاري 2004. ويسخّفون موقف أنصار السلام في الساحة الفلسطينية ويتهمونهم بالتخاذل والاستسلام وتشجيع الثنائي بوش ـ شارون على المس بحقوق اللاجئين وقضم مساحات من أراضي الضفة الغربية تم استيطانها.

ويطالب أتباع هذا النهج المتشدد عرفات بقلب الطاولة في وجه الجميع، وإعلان سقوط اتفاق اوسلو وسحب اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل وإلغاء كافة التعهدات والالتزامات الفلسطينية التي تضمنتها الاتفاقات السابقة. ويدعون القيادة الفلسطينية إلى اتخاذ موقف حازم وإعلان الانسحاب نهائيا من عملية السلام والتحلل من التزاماتها، والعودة إلى الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية طويل الأمد، وإعلان التعبئة العامة لمقاومة الاحتلال.. واعتماد العمل العسكري باعتباره الخيار الاستراتيجي لانتزاع الحقوق الفلسطينية المغتصبة. ويدعو بعضهم إلى حل السلطتين التنفيذية والتشريعية التين إنبثقتا عن اتفاق اوسلو وإعادة الأمانة إلى منظمة التحرير وحل الأجهزة المدنية والعسكرية وتحميل الاحتلال وزر تنظيم حياة قرابة أربع ملايين فلسطيني في الضفة والقطاع. وتطالب فئة محدودة من جماعة الرفض الرئيس عرفات بالاستقالة. وهناك من يعتقد أن الرد الاستراتيجي على “وعد” بوش المشئوم وأطماع شارون التوسعية يتم بإعلان قيادة المنظمة، فورا ومن جانب واحد، قيام الدولة الفلسطينية فوق جميع الأراضي التي احتلت عام 1967 والطلب إلى القمة العربية المساعدة في انتزاع اعتراف دولي بالدولة وتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع.

على النقيض تقف على الطرف الأخر من الميدان السياسي الفلسطيني أقلية ترفض موقف المعارضة وتحملها قسطا رئيسيا من المسئولية عن تدهور الموقف الفلسطيني في الساحة الدولية، والتسبب في دمغ الحركة الوطنية بالتطرف والإرهاب وتسهيل الطريق أمام شارون ومخططاته العدوانية آخرها خطة الفصل أحادي الجانب وبناء الجدار العنصري. وهذه الأقلية تحذر القيادة الفلسطينية من الوقوع في الفخ الإسرائيلي المنصوب ومن تكرار نكبة 1948. وتدعوها إلى التعامل بواقعية مع التطورات وعدم الانجرار وراء استفزازات شارون وأركان المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. ويقولون إن دخول الفلسطينيين في معركة كسر عظم مع الإدارة الأمريكية أقرب إلى انتحار سياسي يضاعف خسائرهم البشرية والمادية.

لا شك في أن مرحلة ما بعد “وعد” بوش شديدة التعقيد ما تزال في طور التشكل والتكوين، وتباين أطراف النظام السياسي الفلسطيني في تقييمها وتحديد أشكال النضال الملائمة أمرا طبيعيا. وأعتقد أن المبالغة والتطير والتطرف يمينا أو يسارا في قراءة خطة شارون و”وعد” بوش يقود إلى رسم توجهات سياسية خيالية تزيد في الخسائر البشرية والاقتصادية وتلحق أضرارا فادحة بالمصالح الفلسطينية العليا. وفي سياق مناقشة الخيارات المطروحة وتحديد الخيار الأسلم، اعتقد ان اعتماد وجهة نظر قوى الرفض الفلسطينية يندرج في التطير ورد الفعل المتطرف ويسهل وصم النضال الفلسطيني بالارهاب ولا يساعد في حشد طاقات الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال ويعطل قدرة الاشقاء والاصدقاء على دعم حقوق الفلسطينيين ومطالبهم. ويضع الاهداف الفلسطينية في نهب رياح المتغيرات الدولية ويبدد انجازات وطنية تحققت. ويزيد في الخسائر الفلسطينية وفي تدهور احوال الناس في الضفة والقطاع ويحولهم إلى متفرجين ينتظرون ظهور احد المقاتلين الابطال “الانتحاريين” وهو ينفذ عملية استشهادية ضد الاسرائيليين مدنيين او عسكريين ومستوطنين.

وبصرف النظر عن النوايا فالدعوة للتصادم مع الإدارة الأمريكية وإعلان الحرب ضد سيد البيت الأبيض في وقت يحاول الجميع تجنب شره يزيد في عذاب الفلسطينيين ويزيد عدد الشهداء والجرحى والأرامل واليتامى دون نتيجة. صحيح أن النضال الفلسطيني وضمنه العمل العسكري في عهد منظمة التحرير أجبر القيادة الإسرائيلية على الجلوس مع الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وان الانتفاضة “المسلحة” وضمنها العمليات “الإستشهادية” أجبرت شارون وقطاع واسع من اليمين الإسرائيلي على التخلي عن فكرة بناء إسرائيل الكبرى في “ارض الميعاد” لكن الصحيح أيضا أن هذه الانجازات لم تغير في خلاصة تجربة عمرها نصف قرن من الصراع أكدت أن العمل العسكري الفدائي والتقليدي والاستثنائي “الانتحاري” لم ولا يحل النزاع، وأن الحل السياسي والمفاوضات المباشرة هما اقصر الطرق وأنجعها لتحقيق الحقوق الوطنية الفلسطينية.

وإذا كانت قوى الرفض تخشى الوقوع في فخ عملية احتيال ونصب سياسي إسرائيلية أمريكية، فالمناداة باعتماد الكفاح المسلح وتصعيد العمليات الانتحارية في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة وبعد أحداث 11 سبتمبر “أيلول” 2001 في واشنطون ونيويورك، وقيادة الولايات المتحدة الأمريكية حربا عالمية على الإرهاب، يعبر عن حالة يأس ويعكس عدم استيعاب المتغيرات الدولية. وأظن أن الدعوات الأخرى من نوع حل السلطة واستقالة عرفات وإعادة الأمانة إلى منظمة التحرير أو إعلان من جانب واحد قيام الدولة فوق جميع الأراضي التي احتلت في العام 1967..الخ من الأفكار الانفعالية تعكس حالة من التخبط والارتباك والتفكير غير الواقعي، وهي اقرب إلى نمط معاقبة الذات “وفش” الخلق، نتيجتها الأكيدة تعميق المأزق الفلسطيني، وتسهيل طريق شارون لتنفيذ مخططه العدواني التوسعي.

أعتقد أن حماية المصالح العليا للشعب الفلسطيني في هذه المرحلة الصعبة يتطلب حنكة سياسية تستند إلى صلابة مبدئية. وإذا كان خيار الرفض يزيد في الخسائر الفلسطينية فإن الخضوع لإرادة سيد البيت الأبيض بوش والتسرع في قبول مشروع شارون كما طرحه في واشنطن وكما يريد تطبيقه على الأرض لا يقللها ولا يوقفها. ويخطأ أنصار “الخيار الثاني” إذا اعتقدوا أن بالإمكان التعامل مع مشروع شارون باعتباره حلا مرحليا قابل للتعديل والتطوير، او أن قبوله يكرس دور م ت ف في صناعة مستقبل الشعب الفلسطيني.

لقد بنى شارون مشروعه على قاعدة تدمير الاتفاقات السابقة وفرض الحل الذي يريد من جانب واحد ومنع قيام دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة. وأظن أن إعلان القيادة الفلسطينية موافقتها على المشروع لا يغير في موقف شارون ولا يعطل أهدافه التوسعية في الضفة الغربية، ونتيجته الوحيدة إلحاق أضرارا استراتيجية بالحقوق والمصالح الفلسطينية. ورفض شارون إشراك م ت ف والسلطة الفلسطينية في صياغة المشروع وفي تنفيذه يؤكد تمسكه بمشروعه كما هو ورفض إدخال أي تعديلات عليه.

وإذا كان الجانب الفلسطيني لم يستطع فرض نفسه طرفا في صياغة المشرع ولا أفق لتعديله، فالمصلحة الوطنية العليا تفرض رفضه. والإصرار على الحصول على رسالة ضمانات أمريكية تضمن الحقوق الفلسطينية كما نصا عليها قرارات الشرعية الدولية، وتؤكد التمسك بأسس عملية السلام الأصلية وبجميع الاتفاقات التي تم التوصل إليها ورفض إحداث أي تغيير في قواعد العملية ورفض إلغاء أو تعديل أيا من قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالحدود واللاجئين والاستيطان. والتعامل مع نتائج تنفيذ خطوات شارون ـ إذا نفذت ـ إعادة انتشار الجيش وإخلاء المستوطنات على قاعدة اخذ المفيد ورفض الضار. والاصرار على وجود طرف ثالث ـ أمم متحدة، طواقم أمريكية، أو متعددة الجنسية ـ يقوم بمهم استلام كل ما تخليه إسرائيل ـ ارض ومباني ومنشئات مدنية وبنية تحتية ومعسكرات جيش وإعادة تسليمها للسلطة الفلسطينية.

وفي سياق بلورة الخيار الفلسطيني الأسلم، تجدر الإشارة إلى أن لا أحد يستطيع الجزم بان دعم الرئيس الأمريكي بوش لخطة شارون، وحصول هذه الخطة على موافقة أغلبية أعضاء حزب ليكود يعني أنها باتت قدرا لا راد له، وان شارون سوف يشرع في تنفيذها مباشرة. خاصة أن صاحبها يربط إخلاء مستوطنات قطاع غزة وإعادة انتشار وحدات الجيش بالتفاهم اولا مع أطراف الائتلاف الحكومي أو بناء ائتلاف حكومي بديل إذا تعذر التفاهم، وثانيا الحصول على مبلغ مالي كبير لا يقل عن 3 مليار دولار لتعويض المستوطنين وبناء ثكنات جديدة للجيش. وإذا كان تحقيق الشرط الأول في الأسابيع القادم ممكن فتحقيقه وحده لا يلبي المطلوب، وسوف يبقى التنفيذ العملي معلقا بانتظار تحقق الشرط الثاني المؤجل تحقيقه إلى ما بعد انتخابات الرئاسة الأمريكية المقررة أواخر نوفمبر القادم.

ولا أحد يعرف بالضبط مصير الخطة إذا ثبت المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية موزوز التهمة الموجه لشارون بتسهيل عمليات الرشوة والفساد لأفراد عائلته وأضطر على تقديم الاستقالة.

وبديهي القول أن فشل بوش في الانتخابات القادمة بسبب الخسائر البشرية والمادية الأمريكية في العراق أو لسبب داخلي أو خارجي آخر، سيكون له انعكاسات مباشرة على مشروع شارون المرئي منها تأجيل تنفيذه أو استبداله بالمشروع الذي طرحه الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون أسابيع قليلة قبل رحيله من البيت الأبيض.