اتفاق “جنيف” بارقة أمل يجب استثمارها /حلقة 2

بقلم ممدوح نوفل في 13/04/2004

التدقيق في حال عملية السلام على المسارين السوري واللبناني في مرحلة “الانتفاضة ـ شارون، يبين أنها زادت تعقيدا على التعقيد الذي رافقها منذ فشل لقاء كلينتون الأسد في جنيف في آذار “مارس” عام 2000. وأعادت تهديدات شارون لسوريا ولبنان المنطقة إلى أجواء ما قبل انطلاقة عملية السلام. وقطع السوريون والإسرائيليون مسافة طويلة على طريق حل نزاعهما بالقوة. وعاد الطرفان يفاخران بقدراتهم العسكرية وبكل عمل عسكري ينفذه أحدهما ضد الآخر. أبرزها افتخار أركان شارون بقصف الطائرات الإسرائيلية قرية عين الصاحب وتحليقها فوق القصر الجمهوري السوري، وقبلها قصف رادار سوري في لبنان. قابله تهديد سوري بالرد، ونسي الطرفان أنهما اقتربا في أحد الأيام من التوصل إلى اتفاق ينهي النزاع، وأن الخلاف ظل محصورا في مسألة السيادة على بضع مئات من الأمتار من شاطئ بحيرة طبريا.

وليس عاقلا من يتصور أن القيادة السورية مستعدة لاستئناف المفاوضات من نقطة الصفر كما يطالب شارون. وأن توافق على أن يكون الانسحاب الإسرائيلي من الجولان مختلف عن الذي نفذه باراك في جنوب لبنان. وأظن أن مصالح سوريا العليا تدفع القيادة السورية في مرحلة شارون وفترة احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق إلى التمسك بالحقوق الوطنية وعدم إضاعة الوقت والجهد في إحياء عملية السلام مع إسرائيل، والعمل على تقصير عمر حكومة شارون، وترحيل القوات الأمريكية من العراق ليس فقط لأنه بلدا عربيا عزيزا على الشعب العربي كله، بل وأيضا لأن الوجود الأمريكي في العراقي يهدد الأمن القومي السوري، وتقسيم العراق يهدد الأمن القومي ويزعزع وحدة سوريا. وإذا لم تشجع القيادة السورية حزب الله على تصعيد العمل العسكري فلن تثنيه عن ذلك، وترى أن من نفذ قرار مجلس الأمن 425 الخاص بجنوب لبنان لا يستطيع التهرب من تنفيذ 242 و338 المتعلقين بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية والسورية التي احتلت عام 1967.

إلى ذلك، لا تستطيع قيادة حزب الله التراجع عن برنامجها “الجهادي” مبرر وجود الحزب، كما لا يمكنها الصمت على بقاء كوادر الحزب أسرى في إسرائيل. وتجد قيادة هذا في موقف الإيراني المساند لسوريا ولبرنامج الحزب ما يشجعها على المضي في تنفيذ توجهاتها ومؤازرة نضال الفلسطينيين. وبديهي القول أن تنفيذ حزب الله عمليات ضد إسرائيل يهدد بانفجار إقليمي محدود، خاصة أن شارون غيّر قواعد اللعبة، ويصر هو وأركانه على تحميل سورية المسئولية عن كل عملية ينفذها حزب الله، ويهددون بضرب أهداف داخل سوريا وضرب القوات السورية العاملة في لبنان، تماما كما يتصرفون مع السلطة الفلسطينية إزاء عمليات “حماس” وتحميلها مسئولية هذه العمليات.

لا شك في أن الموقف الأمريكي حاسم في تحديد اتجاه رياح التغيير في الشرق الأوسط، واقتراب موعد انتخابات الرئاسة في تشرين الأول “نوفمبر” عام 2004 يؤثر في توجهاتها. وأعتقد أن أقصى ما تسعى إليه إدارة الرئيس بوش في مرحلة الحرب في العراق وحتى هذه الانتخابات هو: محاولة استيعاب الوضع في الإقليم وإبقائه تحت السيطرة، وتخفيض مستوى العنف وتعطيل قيام شارون بخطوات أحادية الجانب تؤدي إلى تأجيج الصراع في المنطقة، ومنع كل الأطراف من القيام بمغامرات عسكرية تمدد النار المشتعلة في الضفة والقطاع إلى دول الجوار وتحوله إلى نزاع لإقليمي. تشجيع الفلسطينيين والإسرائيليين على التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار “هدنة” وتليين مواقفما واستئناف الاتصالات الأمنية والسياسية على أعلى المستويات. وأرسلت سترفيلد مساعد نائب وزير الخارجية لشئون الشرق الوسط لهذا الغرض وشجعت القيادة المصرية على التحرك في هذا الطريق. تبريد حدة التوتر السياسي والعسكري على الجبهة اللبنانية السورية والضغط على حكومتي البلدين للجم تصرفات حزب الله. والابقاء على مفهوم حل النزاع بالوسائل السلمية حيا على قيد الحياة إلى إشعار آخر.

إلى ذلك، يمكن القول إن التباين الإسرائيلي الأمريكي حول الاستيطان وبناء جدار الفصل العنصري في الاراضي الفلسطينية تباين محدود لا يمس جوهر موقف إدارة بوش الداعمة لحكومة شارون. صحيح أن بوش انتقد في لندن إسرائيل لعدم توقفها عن بناء “الأسيجة” والاستيطان، لكن حكومة شارون لم تأخذ الانتقادات على محمل الجد بعدما لمست أن النقد غير قابل للتحول إلى خلاف جوهري. وواشنطن لم تتخذ أي إجراء عقابي جدي عندما شرعت إسرائيل في تنفيذ المرحلة الثانية من الجدارن وأقصى ما قامت به ليس أكثر من استقطاع 3% من ضمانات القروض.
وإذا كان لا أفق لتراجع أطراف الصراع عن مواقفهم ولا أفق لإقناع إدارة بوش بإلزام إسرائيل باستئناف المفاوضات مع سوريا من حيث توقفت وبتنفيذ خريطة الطريق على المسار الفلسطيني، فالاستنتاج المنطقي يقول: إن عملية السلام التي عرفتها شعوب المنطقة دخلت في سبات عميق، ولا بد من وجود طرف ثالث يفصل بين الطرفين ويمنع شارون من خلق حقائق على الأرض يصعب تجاوزها لاحقا. ولا أدري إذا كان الوضع في الأراضي الفلسطينية يحتمل البقاء كما هو عليه حتى وصول هذه القوات.

أعتقد أن إقليم الشرق الأوسط لم يكن يوما على هذا القدر من الاضطراب: فيه حروب ظاهرة للعيان وأخرى كامنة، نزاعات كثيرة مزمنة وأخرى حديثة شديدة التعقيد. أزمات في كل أنحاء الإقليم جميعها مرشحة للانفجار، دبابات تدوس القيم الإنسانية وأحزمة ناسفة يجري تجهيزها للانفجار. كل شي في الإقليم يهتز ويتحرك ولا أحد يعرف أين المستقر. وإذا كان استئناف المفاوضات على المسار السوري يحتاج في عهد شارون إلى معجزة في زمن خال من المعجزات، فأطماع اليمين الإسرائيلي في الضفة الغربية “ارض الميعاد” وقطاع غزة يجعل التوصل لاتفاق حول قضايا الحل النهائي أمرا مستحيلا. وبإمكان قوى السلام التعرف على الأخطار المحيطة بالشعبين وبأمن الإقليم في مرحلة حكم الليكود خاصة إذا طال. وأظن أن العام 2004 يحمل في طياته تطورات وأحداث كبيرة وشارون قال في أكثر من مناسبة إن إيران وسورية وليبيا يجب أن تجرد من أسلحة الدمار الشامل واعتبرها غير ديمقراطية ولا تؤتمن على هذا السلاح، وتناغم موقف البيت الأبيض مع موقف شارون وأنصاره في الكونغرس الأمريكي وأقر الرئيس بوش قانون معاقبة سوريا. ويسعى شارون لاستغلال بقية عهد صديقه بوش وانشغال أركان البيت الأبيض في الانتخابات وفي الحرب المفتوحة ضد الجيش الأمريكي في العراق.

ويبدو ان شارون صمم على توديع العمل السياسي بخلق حقائق يحقق فيها أحلامه التاريخية، أخطرها؛ استكمال بناء الجدار والسيطرة على نصف أراضي الضفة واستيطانها ونسف مقومات قيام دولة فلسطينية، وتفجير الوضع مع سوريا ولبنان، وضرب المفاعل النووي في إيران. وبدلا من استغلال حال ضعف العرب لصالح صنع السلام يرى شارون فيها فرصة لتدمير مقومات السلام والخلاص من عرفات وتدمير بقايا السلطة الفلسطينية. وإذا كان استمرار المتطرفون الفلسطينيون في التحكم بالوضع الميداني يجلب مزيدا من الكوارث للفلسطينيين، فإن تمترس القيادة الإسرائيلية خلف المتاريس الأيدلوجية والسياسية والعسكرية وتمسكها بفكر المحتل وعنجهيته وإصرارها على كسر شوكة الفلسطينيين وإخضاعهم بالقوة..الخ ينذر باشتباكات سياسية وعسكرية اكبر واخطر حتى لو هدأت المواجهات فترة. ويزج المنطقة في صراعات دموية جديدة لا طائل منها وينذر بانفجار اعنف.

بديهي القول أن وقف خسائر الشعبين وإنقاذ امن الإقليم مهمة جماعية تتحملها قوى السلام، وهروبها من مواجهة الحقائق المرة يزيد الخسائر ويعرض أمن الإقليم لأخطار جسيمة. وظهرت أصوات دولية تؤكد عدم قدرة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي وحدهما معالجة خلافاتهما، ودعا خبراء في النزاع إلى فرض انتداب دولي على الضفة والقطاع وفرض وصاية على الفلسطينيين ومساعدتهم في بناء دولة ديمقراطية قابلة للحياة. وأولت مراكز الأبحاث والدراسات الفلسطينية والإسرائيلية والدولية مسألة الاستعانة بقوات طرف ثالث اهتماما خاصا ولا يزال هذا الموضوع قيد البحث، وأظن أنه بات مخرجا رئيسيا أن لم يكن المخرج الوحيد لحل النزاع. وإذا كانت الهدنة بين الفلسطينيين والإسرائيليين ضرورية لوقف تدهور الوضع، فالتجربة أكدت أن استمرار أية هدنة وإنقاذ عملية السلام ونشر الأمن يتطلب وجود أعداد كبيرة من المراقبين لمراقبة الطرفين والتحقق من التزامهما بما يتفق عليه، وحان الوقت لجعل تواجد قوات لطرف ثالث قضية محورية.

إلى ذلك، أعتقد أن “وثيقة سويسرا” التي توصلت لها مجموعة بيلن ـ عبد ربه للسلام ومعها وثيقة أيلون ـ نسيبة، مثلت بارقة أمل ظهرت في سماء المنطقة تشير إلى أن إخراج عملية السلام من مأزقها ونشر الأمن والاستقرار في الإقليم أمران يمكن تحقيقهما. وجاء حديث قادة جهاز الشاباك في أخر عشرين سنة ـ ابراهام شالوم ويعقوب بيري وكرمي غيلون واللواء احتياط عامي أيلون ـ وعزز هذا الأمل. فهل تنجح قوى السلام بالتقاط هذه المبادرات والتوحد حولها وتحويلها حقائق ملموسة على الأرض وتجنيب الشعبين عواقب العاصفة الهوجاء التي بدأت تهب على الإقليم، أم أن قوى السلام فقدت المبادرة وليس بمقدورها مواجهة المتطرفين ؟

في كل الأحوال لا يمكن لقاضي نزيه تبرئة الإدارات الأمريكية من مسئوليتها عن تدهور عملية السلام وأمن الإقليم وتعطيل دور الأمم المتحدة. وإذا كان الرئيس الأمريكي السابق كلينتون رحل وهو متهم بالفشل في حل النزاع، فالرئيس بوش الابن وأركانه مدانون بتسهيل سفك دماء بريئة وإطالة أمد الصراع.