اغتيال الشيخ ياسين نقل الصراع إلى ميادين ودوائر حساسة

بقلم ممدوح نوفل في 24/03/2004

بإصداره الأمر، يوم 22 آذار “مارس” 2004، باغتيال الشيخ المقعد أحمد ياسين زعيم حركة حماس وتدمير عربته أمام مسجد، وتهنئة الجيش وأجهزة الأمن الإسرائيلية بهذا “الفوز العظيم”، طوّر “شارون” مستوى عملياته الحربية ضد الفلسطينيين أرضا وشعبا وقيادة وتنظيمات، ونقل الصراع إلى أعتاب مرحلة نوعية تؤدي إلى المس بدوائر سياسية واقتصادية وبشرية حساسة. وأكدت عملية الاغتيال أن شارون وأركانه ما زالوا يؤمنون بحل النزاع بقوة السلاح، ويعملون على خلق الأجواء الملائمة لفرض ما يؤمنون به على الشعبين وتدمير إمكانية صنع السلام بينهما. ويبدو أن التجربة المريرة السابقة وآخر أربعين شهرا من الصدامات الدموية ونسف آلاف المنازل وقتل ثلاثة ألاف فلسطيني وقرابة ألف إسرائيل معظمهم مدنيين وجرح الألوف من الطرفين غير كافية حتى يغير شارون ومساعديه توجهاتهم العبثية.

ويعتقد شارون وأركانه الأمنيين أن قوتهم العسكرية الجبارة وحال الضعف والهوان التي يمر بها النظام العربي، توفر فرصة لإلحاق الهزيمة بالفلسطينيين وإجبار قيادتهم على الاستسلام. ويجدون في الظروف الدولية وبخاصة إعلان الإدارة الأمريكية الحرب على الإرهاب ومساندتها إسرائيل في كل زمان ومكان، ترخيصا لإذلال العرب وإهانة رؤسائهم وحكوماتهم، ومواصلة الحرب على الفلسطينيين وتصنيف قواهم السياسية وقادتهم كما يحلو لهم، واعتقال من يشاءون وفرض الإقامة على من يرغبون حتى لو كان رئيسا منتخبا من شعبه، وإعدام من يقررون انه زعيم إرهاب حتى لو كان شيخا طاعنا في السن ولا يقوى على الحركة. ولا جدال في أن ردود الفعل العربية والدولية الباهتة على اغتيال أمين عام الجبهة الشعبية أبو علي مصطفى عام 2001 وعشرات الكوادر الفلسطينية شجع شارون على ارتكاب جريمته الجديدة.

وأيا تكن أهداف شارون من إصدار أمر اغتيال الشيخ ياسين في هذا الوقت بالذات وقتل من كان يقوم على خدمته وتواجد حوله، يسجل له أنه قتل بذرة الأمل بصنع السلام واستقرار المنطقة. وزادت جريمته درجة التوتر العالية أصلا في عموم أنحائها، وأطلق العنان لمستوى أعلى من العنف يحصد أرواح فلسطينيين وإسرائيليين بالجملة. وأقفل العمل في الحقل السياسي لفترة طويلة، ونسف إمكانية عقد اجتماع مع رئيس الحكومة الفلسطينية في وقت قريب. وأغلق طريق عودة الطرفين للمفاوضات إلى إشعار آخر ويرجح أن لا يعودا قبل الانتخابات الأمريكية مطلع تشرين الثاني “نوفمبر” القادم. وبصرف النظر عن النوايا فقد التحق مشروع شارون حول الانفصال من جانب واحد وإخلاء مستوطنات غزة وسحب الجيش الإسرائيلي إلى داخل إسرائيل، بخريطة الطريق وبقية المشاريع التي استهلكها الطرفان في السنوات الأخيرة.

لقد طوى شارون مشروعه إلى إشعار آخر، وجمد عن سابق قصد الحركة الأمريكية والأوروبية والروسية والمصرية والأردنية التي ظهرت على خلفيته. بعدما سبب له متاعب جدية داخل حزبه ومع شركائه قوى اليمين، ولم ينجح في تسويقه كما يشتهي أمريكيا وأوروبيا. ويبدو أن شارون استبدل مشروعه بتركيز جهده وحتى الانتخابات الأمريكية على الإجهاز على حلم الفلسطينيين في دولة، وتدمير قوة حماس وبقايا أجهزة السلطة الفلسطينية في غزة بعد تدميرها في الضفة. ويفكر بحل معضلة أمن إسرائيل الديموغرافية عبر استكمال بناء جدار الفصل العنصري، ومواصلة الاستيطان وخلق وقائع على الأرض يصعب تجاوزها في أي مفاوضات ونشاطات سياسة ودبلوماسية لاحقة.

شخصيا أختلف مع أتباع الشيخ ياسين حول أمور كثيرة، بعضها يتعلق ببرنامج حركة حماس وتوجهاتها، لاسيما إصرارها على البقاء خارج أطر منظمة التحرير الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني وسعيها لتشكيل إطار مواز أو بديل، وأخرى تتعلق بفهم طبيعة المرحلة والظروف التي يمر بها النضال الفلسطيني وأشكال النضال لانتزاع الحقوق الوطنية لشعبنا. لكنني أعتقد أن ليس بمقدور أحد طمس دور الشيخ ياسين في نصف قرن. وإذا كان وزير الدفاع الإسرائيلي اتهمه بقيادة جماعة إرهابية وشبهه بابن لادن فالشيخ في نظر قوى دولية كثيرة أدانت عملية الاغتيال غير ذلك. وهو في نظر شعبه وشعوب أخرى مناضلا صلبا في خدمة شعبه من أجل الحرية والاستقلال وتحرير بلده من الاحتلال الإسرائيلي. ووفرت عملية الاغتيال رصيدا واسعا من التضامن فلسطينيا وعربيا وإسلاميا مع حركة حماس، وظهر قدرا كبيرا من التفهم الدولي لوضعها وتوجهاتها، كان بمثابة رفض إداراجها في قائمة الحركات الإرهابية التي شكلتها واشنطن. والفلسطينيون في كل مكان وعلى كل المستويات مقتنعون أن شارون وأركانه أقدموا على جريمتهم وهم على يقين أنهم لن يعاقبوا عليها، وأن أي نقد أمريكي أو دولي إذا ظهر لن يكون حادا، وان إدارة بوش سوف توفر لهم حماية سياسية ودبلوماسية في المحافل الدولية.

وبصرف النظر عن رأي حكام إسرائيل في الشيخ ياسين وموقف أركان البيت الأبيض من اغتياله، فإن الأسابيع والشهور القادمة سوف تؤكد أن اغتياله كان خطئا فادحا أرتكبه شارون بحق شعوب المنطقة. وغيابه عن ساحة العمل السياسي خسارة كبيرة لتيار الاعتدال في المنطقة نتيجته المباشرة دفع الصراع خطوة نوعية باتجاه سفك مزيد من دماء الشعبين. وزيادة في اضطراب الوضع وتعزيز مكانة المتشددين والمتطرفين داخل حماس وفي الساحتين الفلسطينية والعربية. وخلق ظروف مواتية لسيادة منطق العنف، وازدهار سوق الإرهاب بأشكاله القديمة وظهور أنواع وأشكال أكثر دموية وإثارة.

ورغم أن الشيخ ياسين كان مشلول الجسد يتحرك على عربة إلا أنه ثقله في الساحة الفلسطينية والعربية والإسلامية كان كبيرا. كان زعيما سياسيا من زعماء حركة الإخوان المسلمين العالمية، وظل في نظرها زعيم تنظيم الإخوان في فلسطين يقف في خندق متقدم يدافع عن العقيدة وعن المسجد الأقصى وبقية المقدسات الإسلامية. وإذا كان حركة حماس تعتبر نفسها جزء من الحركة الإسلامية العالمية، جميع فروع هذه الحركة ترى في الشيخ ياسين شهيدها وتساند حماس وتعتبر نصرة الشيخ وأتباعه واجب “شرعي”، وتنظر لاغتياله باعتباره اعتداء سافرا على أحد أعلام الإسلام وحركة الإخوان دبره قادة إسرائيل عن سابق قصد وإصرار.

إلى ذلك، أعتقد أن الشيخ ياسين مثل تيار الاعتدال في حركة حماس ولم يكن مغامرا متطرفا، وحافظ بثقله المعنوي والروحي على جملة من التوازنات داخل الساحة الفلسطينية وداخل حماس ذاتها وفي علاقاتها الخارجية وتوجهاتها النضالية: رغم الضغوط الداخلية والإغراءات الخارجية الواسعة بفتح جبهة “عمليات خارجية” ضد الصهاينة والإسرائيليين خارج فلسطين إلا أن الشيخ ياسين رفض هذا التوجه بحزم، ونجح في تكريس مفهوم يعتمد ارض فلسطين التاريخية ميدان الصراع الوحيد مع الصهيونية. وقاوم بشدة الإنجرار وراء عمليات الاستدراج التي مارستها أجهزة الأمن الإسرائيلية، ورفض أن يكون الرد على محاولة اغتيال خالد مشعل خارج الأرض الفلسطينية، وظل يرفض تحويل الصراع إلى صراع حضارات أو صراع بين ديانتين. صحيح أن الشيخ ظل يعتبر فلسطين التاريخية “وقف” إسلامي ويؤمن بتحريرها “من النهر وحتى البحر”، إلا انه لم يرفض مرحلة أهداف النضال ولم يرفض قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقرّب برنامج حماس السياسي من البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية.

وبجانب هذا وذاك، يسجل للشيخ ياسين انه كان صمام أمان للوحدة الوطنية وكرس مبدأ الحرص عليها في ثقافة كوادر وقواعد حماس وتمسك به في أصعب الظروف والأوقات. ورغم توتر علاقة حماس مع السلطة ومع حزبها السياسي فتح وأجهزتها الأمنية مرات كثيرة ووقوع اشتباكات مسلحة بين الطرفين وتقييد السلطة حركة الشيخ ياسين وفرض الإقامة الجبرية عليه في منزله..الخ إلا انه رفض الغوص في مستنقع الاقتتال الداخلي. وعندما ازدادت الضغوط الدولية والعربية على السلطة ورئيسها عرفات لتهدئة الوضع ووقف إطلاق النار، قرر الشيخ ياسين مراعاة القيادة الفلسطينية الرسمية وعلاقاتها العربية والدولية وضغط على إخوانه في قيادة حماس ووافق إعلان هدنة مؤقتة من جانب واحد.

ونجح الشيخ بجدارة في الحفاظ على الهوية الفلسطينية للحركة وكرس استقلاليتها في إطار حركة الإخوان المسلمين العالمية. ونجح في صياغة علاقات حماس العربية والإسلامية على قاعدة واضحة أساسها التعاون والاحترام المتبادل ورفض التبعية لأحد. ووطد علاقة حماس بكثير من القوى والحركات الإسلامية في شتى أنحاء العالم وحافظ على هويتها، وقاوم دمغها بطابع إسلامي إيراني أو سعودي خليجي أو سوري أو أردني أو مصري. ولم نسمع بأنه سعى لتوطيد علاقة الحركة بابن لادن وتنظيم القاعدة والحركات الإسلامية الأخرى المتطرفة.

وأظهر الشيخ قدرة فائقة في الحفاظ على وحدة حماس ورفض الخضوع لضغط المتطرفين داخلها. وضبط بحكمة عالية توازنات حماس الداخلية خاصة العلاقة بين الجناح العسكري للحركة والجناح المدني، وبين حماس الداخل وحماس الخارج، حماس الضفة الغربية وحماس قطاع غزة.

ومما لا شك فيه أن غياب الشيخ ياسين خسارة وطنية كبيرة وغيابه أضعف السلطة الرسمية ولم يقويها. ويواجه قادة حماس بعده امتحانا صعبا ومطالبون بإثبات قدرتهم على ملء الفراغ المادي والمعنوي الذي تركه، والمحافظة على شبكة العلاقات الوطنية والتوازنات الداخلية التي صاغها شيخهم. وإذا كان التمسك بمفاهيم الشيخ ياسين شرطا ضروريا للحفاظ على وحدة حركة حماس وتمتين الوحدة الوطنية، فإن المصالح العليا للشعب الفلسطيني تفرض أتباع الشيخ ياسين ورفاقهم في النضال عدم انجرار إلى مستنقع الدم والتدمير الذي يحاول شارون جرهم إليه. ورفع شعار زلزلة الأرض والمناداة بالثأر واغتيال شارون يخلق أوهاما حول القدرة العسكرية الفلسطينية ويلحق أضرارا سياسية بحركة حماس وجميع أطراف النظام السياسي الفلسطيني.