“اتفاق سويسرا” وحال قوى السلام في المنطقة

بقلم ممدوح نوفل في 11/11/2003

في مطلع كانون الاول (ديسمبر) المقبل يفترض أن يتوجه أركان “مجموعة بيلين ــ عبدربه للسلام الفلسطيني – الاسرائيلي” إلى جنيف لوقيع “اتفاق سويسرا” في احتفال خاص يشارك فيه حشد من الشخصيات الفلسطينية من الداخل والخارج، وشخصيات اسرائيلية ودولية مرموقة تهتم بالسلام وبتسوية النزاع الفلسطيني – الاسرائيلي، بينهم الرئيسان الاميركيان السابق بيل كلينتون والاسبق جيمي كارتر ورئيس وزراء جنوب افريقيا الاسبق ديكليرك. وكانت مجموعة بيلين ــ عبدربه توصلت منتصف الشهر الماضي في فندق “موفنبيك” على شاطئ البحر الميت في الاردن، بعد حوار دام اكثر من عامين، الى اتفاق تفصيلي حول قضايا الحل النهائي (القدس واللاجئون والحدود والاستيطان والمياه والتعاون الامني والعلاقات المستقبلية) وانهاء النزاع، وهذا الاتفاق عرف باسم “اتفاق سويسرا” نسبة للدولة السويسرية التي شجعت الحوار من بداياته ومولته.

ولا ادري إذا كان اختيار سويسرا للإعلان عن الوثيقة جاء بمحض الصدفة أم أن أصحابها اختاروا هذا المكان لخلق نوع من التوازن بين تاريخ الشرق الاوسط وحاضره ومستقبله، وليجعلوا من سويسرا منطلقا لقيام الدولة الفلسطينية كما كانت في وقت ما قبل اكثر من مئة عام منطلق دولة اسرائيل الحالية، حيث عقدت الحركة الصهيونية مؤتمرها الاول في مدينة بازل السويسرية عام 1897.

وأياً تكن نيات بيلين وعبدربه ومعهم حكومة سويسرا، فالسؤال المركزي المطروح على الجميع هو، هل سيعمر هذا الاتفاق ويصبح حدثاً مفصلياً في سياق البحث عن السلام، ام انه لا يؤخر ولا يقدم في حل النزاع الفلسطيني – الاسرائيلي؟ وهل يتحول الاتفاق الى حقائق ملموسة على الارض ام ان مصيره ليس افضل من مصير المبادرات والتفاهمات الرسمية وغير الرسمية السابقة وسيدفن في مقبرة مبادرات حل النزاع الفلسطيني – الاسرائيلي بجانب المبادرات الكثيرة التي سبقته؟

على رغم ان اتفاق بيلين ــ عبدربه ليس اكثر من نموذج وليس اتفاقاً رسمياً مطروحاً للتطبيق، فقد اثار عاصفة قوية من ردود الفعل المتباينة داخل اسرائيل وفي حقل العمل السياسي الاقليمي والدولي، تراوحت بين مواقف معارضة بشدة ومواقف مؤيدة وأخرى متحفظة. وتعرض هذا الاتفاق لهجمات فلسطينية واسرائيلية تشير الى انه فرض نفسه بصيغة واخرى كمبادرة من المبادرات الكثيرة التي عرضت في بازار سياسات الشرق الاوسط. وتعرض بيلين وعبدربه نيابة عن المجموعة لهجوم شديد بلغ حد مطالبة قوى في اليمين الاسرائيلي بمحاكمة بيلين وشركائه بتهمة الخيانة العظمى. وشن شارون ووزير خارجيته سلفان شالوم هجوماً عنيفاً على الوثيقة واصحابها، وطال هجوم الخارجية ممثل الحكومة السويسرية في اسرائيل وتعرض لتوبيخ بسبب مساندة دولته الوثيقة ودعمها القائمين عليها مادياً ومعنوياً.

وبدلاً من تقديم المساندة لبيلين ومن معه واعتبار الوثيقة مكملة لبنود “خريطة الطريق” المتعلقة بالحل النهائي، ترددت مؤسسات حزب العمل في تقديم الدعم وتحفظ زعيمه شمعون بيريز على الوثيقة واصطنع تناقضاً وهمياً بينهما، وقال في باريس انه “يفضل التمسك بـالخريطة على البحث عن اتفاق جديدة” وفسر بعض الاسرائيليين موقفه على انه رسالة موجهة الى شارون تعبر عن رغبة بيريز في العودة الى وزارة الخارجية يوماً ما.

فلسطينياً، لم يكن حال عبدربه مع قومه افضل، ولم يتبنَ الوثيقة رسمياً أي طرف فلسطيني. وتبين ان مشاركة كوادر في حركة فتح والمجلس التشريعي وحزب فدا في لقاء البحر الميت لا تعني ان الجهات التي ينتمون اليها تتبنى الوثيقة وتساند اصحابها.

وبدلاً من التروي وانتظار ما ستحدثه المبادرة من ردود افعال على الساحة الاسرائيلية، تعرضت هي واصحابها لهجمات متفاوتة ساهم فيها قادة وكوادر وكتاب وصحافيون فلسطينيون، وطغى صوت المعارضين على صوت تنفيذية منظمة التحرير التي وفرت الغطاء للمجموعة وثمنت جهودها ورحبت بالنتائج واعتبرتها وثيقة غير رسمية. وعوض قراءة مدلولات رد شارون الانفعالي وهجوم اليمين الاسرائيلي على الوثيقة اصدرت المعارضة الفلسطينية مع فصائل تشارك في السلطة والمنظمة بيانات حادة شبيهة ببيانات اليمين الاسرائيلي عارضت الوثيقة بقوة وهاجمت اصحابها بعنف.

وتسرعت “القوى الوطنية والاسلامية” وأصدرت يوم 19/10/2003 بياناً عنيفاً ضد الوثيقة ومن وقعها تحفظ عليه حزب الشعب، حمل عنوان “نداء التمسك بالثوابت الوطنية”. وتنصل قادة في “فتح” وحزب فدا من الوثيقة وقالوا إنها “تعبر فقط عن وجهة نظر من وقعوها ولا تلزم شعبنا ولا تتوافق مع ارادته ولا تصلح اساساً لحل قضيته الوطنية”. واعتبرت “المفاوضات التي جرت في البحر الميت من وراء ظهر الشعب وما انتهت اليه من نتائج متمثلة بما يسمى “وثيقة سويسرا” منزلقاً خطيراً نحو أضعاف الموقف الفلسطيني والتراجع عن ثوابته والمساس بمرجعيته العليا”. ولم يوضح البيان اداة القياس التي استخدمت لتحديد الثوابت الوطنية والحكم على الاتفاق، واين وكيف تم المس بالمرجعية الوطنية…! ودعت “القوى الوطنية والاسلامية” قايدة المنظمة والسلطة “الى اتخاذ موقف حاسم وواضح ازاءها”. ويرجح ان تتواصل الهجمات على الوثيقة وان تثير بين فترة وأخرى زوبعة من النقاش، خصوصاً اذا التزم اصحابها بعدم التوقف عند حدود التوقيع ونجحوا في تشكيل أطر شعبية تساندها وتدافع عنها وتؤمن وصولها الى جميع بيوت الاسرائيليين والفلسطينيين.

لا شك في ان الادلاء بالرأي في الوثيقة وأية وثيقة اخرى تمس المصير الوطني حق طبيعي لجميع الفلسطينيين. ولا احد يمكنه الادعاء انها خالية من النواقص وتتضمن كل الحقوق، والكل يعرف ان أي اتفاق بين طرفين يتأثر بميزان القوى وان مهارة المفاوض وقوة الحجة لا تعوضان كل الخلل. واذا كان الاجماع على كل بنود الوثيقة لا يعبر عن حال فكرية وسياسية صحية، فإن من حق من وقع عليها ان يعامل من قومه كما المجتهد في الإسلام الذي اذا اصاب نال اجرين واذا اخطأ نال اجراً واحدا. ويحق ايضاً لمن يوافق على بنود تتعلق بحل مشكلة الامن والأرض مثلاً ان لا يوافق على الحل المتعلق باللاجئين والقدس.

الى ذلك، بديهي القول ان “وثيقة سويسرا” نموذج وليست اتفاقاً رسمياً والحكم على هذا النموذج هو مدى خدمته للقضية الوطنية في الزمن المحدد. وان المصلحة الوطنية تفرض على المفاوض الرسمي التعامل معها عند العودة لطاولة المفاوضات باعتبارها غير ملزمة وتمثل الحد الادنى وما دونه. وموافقة الجانب الاسرائيلي مثلا على اخلاء مستوطنات ارائيل وعمانويل وقدوميم وابو غنيم وبيت ايل وكريات اربع… الخ، يجب استخدامها للضغط لاخلاء مستوطنات ألفي منشه وجبعات زئيف ومعاليه ادوميم. ومن وأفق على اخلاء تجمع مستوطنات ارائيل القائم فوق اكبر احواض المياه الجوفية في الضفة ومناطق يالو وعمواس في اللطرون الأقرب الى مطار اللد ومدينة تل ابيب، يجب ان يوافق من اجل السلام العادل على الخلاء مستوطنة جبعات زئيف المجاورة لمدينة رام الله، ومستوطنة معاليه ادوميم البعيدة عن القدس والمطلة على اريحا، او نقلهما الى السيادة الفلسطينية وجعلهما نموذجاً للتعايش المشترك.

وبصرف النظر عن رأي المعارضة اعتقد ان نواقص “وثيقة سويسرا” يجب ان لا تحجب ايجابياتها الكثيرة، ومنها: اعادة الاعتبار لقوى السلام في الجانبين ولخطة السلام الفلسطينية التي ضاعت في زمن “الانتفاضة المسلحة” وزحمة العمليات الانتحارية، ووفرت من جديد مشروعاً واقعياً يمكن تكتيل قوى دولية حوله، وكسرت حدة الاستقطاب في اسرائيل القائم على الاستمرار في احتلال الشعب الفلسطيني وتصعيد العدوان ضده ونهب ارضه. واثبتت الوثيقة انه يوجد في الجانب الفلسطيني شريك في صنع السلام الحقيقي وان بإمكان الطرفين التوصل الى اتفاق حول قضايا الحل النهائي. ونسفت ادعاءات شارون بأن لا حل سياسياً للنزاع وان الفلسطينيين رفضوا في محادثات كامب ديفيد عرضاً سخياً قدمه باراك، وان عرفات واركانه يريدون تدمير اسرائيل واغراقها بمئات الوف اللاجئين.

واذا كان بعض الفلسطينيين يخشى ان تصبح الوثيقة سقفاً للموقف الفلسطيني فهي افضل صيغة تم التوصل اليها حتى الآن. وهي احسن للفلسطينيين من مبادرة كلينتون التي طرحها قبل رحيله من البيت الابيض، وتتضمن افكاراً اسرائيلية جديدة لم تطرح في كامب ديفيد وطابا، أهمها الموافقة على ازالة تجمع مستوطنات ارائيل وبسط السيادة الفلسطينية على مدينة القدس العربية واماكنها المقدسة وجعلها عاصمة الدولة الفلسطينية.

صحيح ان لا افق لتحويل هذه الوثيقة الى اتفاق رسمي في عهد شارون وطالما ظل اليمين الاسرائيلي يمسك بزمام السلطة، ولكن بإمكان الطرفين استخدامها رافعة لإنقاذ عملية السلام، ولا احد يستطيع انكار ان الاتفاق يساعد قوى السلام في اسرائيل على النزول الى الشارع ومواجهة مواقف المتطرفين. ويمكن للفلسطينيين والعرب ايضاً اعتماده قاعدة انطلاق لهجوم سلام على المجتمع الاسرائيلي وفي الساحة الدولية.

وفي جميع الحالات من الخطأ انقسام القوى الفلسطينية حول “وثيقة سويسرا”، والمصالح الوطنية العليا تفرض على الجميع التعامل معها بمقدار خدمتها للقضية والتجرد من الحساسيات السياسية والنزعات الفصائلية والمواقف المسبقة من الاشخاص الذين بلوروها. واظن انها ليست جرياً وراء اوهام وتستحق دعم ومساندة انصار السلام. وان استثمارها فلسطينياً يتطلب تأجيل الخلاف حول تفاصيلها لحين النجاح في احداث تغيير يسمح بالبحث في تنفيذها وتشكيل ائتلاف عريض من القوى والاحزاب والمنظمات غير الحكومية الفلسطينية يدافع عنها في الشارع الفلسطيني وينقلها الى ميادين العمل السياسي الاقليمية والدولية. واذا كان بيلين وشاحاك وديفيد كيمحي ومتسناع ارادوا “وثيقة سويسرا” مدخلاً لخوض معركة اسقاط شارون وحكومته، فهذه المعركة تهم الفلسطينيين وتهم انصار صنع السلام في المنطقة ايضاً، خصوصاً ان الجميع يؤكد ان لا افق للسلام في عهد شارون وان بقاءه في السلطة يجلب مزيداً من الكوارث على الشعبين.