ادارة بوش تساوم عرفات على حياته وقريع لن يسمع الثناء

بقلم ممدوح نوفل في 29/09/2003

لا مشكلة في تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة ولا خلاف بين قريع ومركزية “فتح” حول برنامجها. ولا ضغط اميركياً أو اسرائيلياً على عرفات لتسريع تشكيل الحكومة والتنازل عن صلاحياته الأمنية والمالية لرئيس الوزراء الجديد أو تعيين فلان أو علان في هذا المنصب أو ذاك. ولا حاجة الى تدخل الشقيقة الكبرى مصر في حل خلافات عرفات مع قريع لأنها غير موجودة، وقد يعلن الرئيس المكلف اسماء الوزراء في أي لحظة. أما تأخر اجراء المراسـم المعروفة فهو مسألة تكتيكية تتعلق بسؤال ما بعد التشكيل، وكسب الوقت اللازم لاستـطلاع مواقف القوى الدولية والاقليمية وحشد الدعم والمساندة للحكومة وضمان بقائها على قيد الحياة فترة أطول من حياة الحكومة المستقيلة. والتباين القديم بين مؤسسة الرئاسة واعضاء في مركزية “فتح” وتنفيذية المنظمة بشأن علاقة رئيس الوزراء بالاجهزة الأمنية حسم في مرسوم رئاسي صدر بعد استقالة حكومة أبو مازن، أعاد بموجبه أبو عمار تشكيل مجلس الأمن القومي الأعلى وتم توحيد جميع اجهزة الأمن الفلسطينية تحت امرة المجلس وقبل رئيس الوزراء المكلف ان يكون هو ووزير الداخلية عضوين فاعلين فيه.

وبغض النظر عن حصة “فتح” في الحكومة الجديدة ومن سيدخلها أو يخرج منها فلن تتضمن مفاجآت، والخطوط العريضة لتوجهاتها السياسية والأمنية والمالية تحددت لحظة قبول قريع عرض عرفات “تحمل الأمانة” وهي لا تختلف عن برنامج الحكومة المستقيلة. وملامح صورة وزراء “وزارات السيادة” ظهرت بعد تراجع الرئيسين عن فكرة “حكومة طوارئ مصغرة” وحصول التفاهم حول موقع الاجهزة الأمنية في السلطة واستمرار ارتباطها بصيغة واخرى بمؤسـسة الرئاسة. وفي كل الاحوال لن تواجه وزارة أبو علاء مشكلة الحصول على ثقة المجلس التشريعي، ولن يواجه رئيسها المتاعب الوطنية، خصوصاً الفتحــاوية التي واجهها أبو مازن، خصوصاً ان الأساس التنظيمي والسياسي لتشكيل الحكومة أقرّ في اجتماع فتحاوي موسع ترأسه عرفات في المقاطعة وضم اعضاء اللجنة المركزية والمجلس الثوري والفتحاويين في المجلس التشريعي.

ويمكن الجزم بأن حكومة قريع لن تدخل في مواجهة دموية مع “حماس” و”الجهاد الاسلامي” و”كتائب شهداء الأقصى” الفتحاوية والقوى التي لا تزال تعتمد “الكفاح المسلح” وسيلة للتحرير وبناء الدولة وتحقيق حلم العودة، وسيسعى رئيس الحكومة بالتي هي أحسن الى تجديد الهدنة ووقف العمليات الانتحارية وسواها من الاعمال العسكرية، ليس بسبب الخوف من قوة المعارضة بل حرصاً على حقن الدم الفلسطيني، في وقت تصر حكومة شارون وأركان البيت الأبيض على خنق الناطور الفلسطيني وقتله وأكل العنب كله.

لست من أنصار التـسرع في الحكم على حكومة أبو علاء ولا اتفق مع الرأي القائل بأنها لن تعمر طويلاً. صحيح ان برنامجها لا يختلف عن برنامج حكومة عباس، وأبو علاء لن يحقق شيئاً لم يحققه أبو مازن، وبوش لن يخوض معركة مع شارون من أجلها… الخ، لكن الصحيح ايضاً ان توافق قريع مع عرفات حول علاقة الاجهزة الأمنية في مؤسسة الرئاسة واعلانه من البداية الانضباط للمؤسسة الفتحاوية والالتزام بتوجهاتها التنظيمية والــسياسية وتفاهمه المبدئي مع القوى الوطنية والاسلامية… الخ. عناصر مهمة في تحديد عمر الحكومات الفلسطينية، وتوفر للحكومة الجديدة الشيء الذي افتقدته الحكومة الراحلة، ويسهل عمل رئيس الوزراء الجديد ويخفف عنه اعباء ثقيلة ويريحه من منغصات قوية أزعجت أبو مازن وأقلقت نومه واربكت حركته.

في المقابل، سيواجه قريع وحكومته مشاكل اسرائـيلية أكبر بكثير من التي واجـهها أبو مازن. فهي في نظر شـــارون حكومة عرفاتــية. واذا كان أركان اليمــين في اسرائـــيل فتــحـوا الــنار على رئـيس الحــكومـة المســتقــيل بعد اســابيع من تشـــكيل حكومته ووصفه شارون بالضعيف الذي لا يقوى على حماية نفسه من عرفات وشبهه بصوص دجاج من دون ريش… الخ. فالمعركة ضد قريع بدأت فور قبوله التكليف، وسيتهم بعد أداء القسم أمام عرفات بتهم أسوأ وأخطر وسينال نعوتاً أبــشع وأقذر. وشارون المصمم على تصفية حساب قديم – جديد مع عرفات، ووأد عملية السلام وتحقيق ما يمكن تحقيقه من احلامه المبنية على أوهام تاريخــية، لن يتـذكر اللقاءات الكثيرة التي عقدها مع أبو علاء، وسينسى انه قال انه “يرتاح لقريع ويفضل التعامل معه على سواه”.

الى ذلك، لن يسمع الفلســطينيون من الرئيس بوش وأركانه ثناءً لحكومة قريـع، وعلى رغم ان رئيــس الوزراء الفلسطيني أحد صناع عملية السلام ومعروف جيداً لأركان الادارة الاميركية، إلا أنني أشك في انه سيدخل البيت الأبيض في عهد بوش – رامسفيلد – تشيني. ولن تجد حكومتــه من يدافـع عنها في اللقاءات الاميركية – الفلسطينية – الاسرائيلية اذا عقدت، وهي في نــظر الأميـــركان قــامت على انــقاض حكومة أطــاحها عرفات لأنـها نالت رضاهم… ومن سمع وقرأ خطاب الرئيس بوش في الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 24 ايلول (سبتمبر) 2003، يدرك المصاعب الكبيرة التي سيواجهها الفلسطينيون في الأسابيع والشهور المقبلة، ويعرف حجم المتاعب التي سيواجهها رئيس الحكومة الفلسطينية مع الادارة الاميركية ومع اسرائيل.

صحيح ان الرئيس بوش أكد أمام حشد كبير من رؤساء ومندوبي دول العالم التزامه عملية السلام، وتمسكه بخريطة الطريق لحل النزاع وتنفيذ “رؤيته” لقيام دولة فلسطينية الى جـانب دولة اسرائــيل في عام 2005، وقال ايضاً: “الشعب الفلسطيني يستحق دولة ملتزمة بالاصلاح ومحاربة الارهاب وبناء السلام”، وطالب اسرائيل ان تعمل على “توفير الظروف التي تسمح بقيام دولة فلسطينية مسالمة”… الخ من الكلام الجميل عن السلام في الشرق الأوسط، لكن الصحيح ايضاً ان أقواله فقدت قيمتها وظهر زيفها قبل مغادرته المنصة، وتحول خطابه الى عبء ثقيل على الفلســطينيين، وهددهم بحرمانهــم من حقهم في دولة مثل بقية شعوب الأرض، حين قال: “الولايات المتحدة ترغب في ان تبتعد اي حكومة فلسطينية عن دسائس عرفات اذا أرادت قيام دولة فلسطينية”. واخشى ان يتحول نقده للقيادة الفلسطينية وقوله “القضية الفلسطينية خانها قادة يتمسكون بالسلطة من خلال ترويج الكراهية القديمة وتدمير عمل الآخرين”، الى رخـصة اميركية للمتــطرفين في اسرائيل لتعميق الحقد والكراهية وتمزيق “خريطة الطريق” بعدما عطلوا تنفيذها، وخلق حقائق جديدة تدفن فكر السلام سنوات طويلة. ومبرر لقتل واعتقال مزيد من الفلسطينيين وحبس قيادتهم وتجويعهم وإذلالهم ونهب أرضهم وتدمير منازلهم… الخ.

اعتقد ان قراءة ما بين سطور خطاب بوش في الأمم المتحدة، وقول مستشاريه “سننتظر لنرى ما يمكن ان يفعله رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد” يؤكدان ان أهل البيت الأبيض قرروا تغيير وجهة عملهم في معالجة النزاع الفلسطيني – الاسرائيلي لصالح موقف شارون ورغبة اعوانه في الكونغرس. وقرروا حصر جهدهم في الفترة الباقية على انتخابات الرئاسة في ادارة النزاع بدل حله واطفاء ناره.

وشروط وزير الخارجية باول الثلاثة كما وردت في مقابلته مع تلفزيون “بي بي اس” يوم 23 ايلول تؤكد هذا الاستنتاج وتشير الى تصميم الخارجية الاميركية على تحميل الفلسطينيين وزر التراجع الاميركي عن خريطة الطريق، واستخدام مواقف وسلوك المعارضة الفلسطينية قنابل دخانية لتضليل الرأي العام الاميركي والدولي.

والوزير باول يعرف اكثر من سواه ان اصل شروطه الثلاثة اسرائيلي ليكودي شاروني وليس عمالياً. وان شرطه الاول ان “تكون لرئيس الوزراء الجديد سلطة سياسية مستقلة بعيدة عن دسائس عرفات” يعني التعجيل بدفع قريع وحكومته الى المصير البائس الذي واجهته حكومة عباس. ومطالبة قريع تجريد عرفات من جميع القوى الامنية وبسط سيــطرته التامة عليـها شرط تعجيزي يستحيل تحقيقه ويقصر عمر حكومته. والشرط الثالث بأن “يتعهد بالقضاء على الارهاب وعلى حركتي حماس والجهاد الاسلامي وغيرهما” يعني وضــعه في مواجهة شعبه وتحميله وزر اقتتال داخلي لا يخرج منه سالما.

لست من انصار التطير او المبالغة في تقدير مسار العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية والفلسطينية الاميركية في عهد حكومة قريع، لكنني ايضاً ضد استصغار شأن قرار حكومة شارون الذي اعتبر “عرفات عقبة تجب ازاحتها” او القفز عن حديث اولمرت عن قتله. وايضاً ضد تبسيط مدلولات موقف ادارة بوش الذي يعتبر تعطيل قتل رئيس منتخب وتأجيل ابعاده انجازاً كبيراً يستحقون عليه الشكر والثناء صباح مساء. واذا كانت سياسة العجز والاستهتار والتبسيط تعطل اتخاذ الموقف الصحيح في الوقت المناسب. فالاعتماد على القوى الذاتية فقط وتشكيل دروع بشرية. وتحريك المسيرات الشعبية لا تحمي “المقاطعة” ولا تصد الهجوم الشرس الذي يتعرض له الفلسطينيون ارضاً وشعباً وقيادة. صحيح انها نشاطات وتحركات مؤثرة ومفيدة لكنها ليست بديلاً عن استكمال الاصلاحات الداخلية وتنظيم العلاقة بين السلطة والمعارضة، وتفعيل الحركة السياسية في الحقلين العربي والدولي، ولا غنى عن اعلان الهدنة من جانب واحد لانطلاق هذه الحركة وارباك توجهات شارون.

واذا كان شارون ينتظر عملية انتحارية ينفذها فلسطيني في احد الباصات او الملاهي في القدس او أي مدينة اسرائيلية لينفذ توجهاته ويقتحم مدن القطاع ومخـيماته ويصفي حساباته مع عرفات ويمحو آثار اوسلو، ويدفن طموحات ابو علاء وتوجهــات حكومــته الســلمية تحت انقــاض المقاطــعة ومنازل قادة حماس ومراكزها… الخ فإن تحقيق امله وتسهيل رغبته ضرب من الانتحار، وجريمة لا تغتفر بغض النظر عمن يرتكبها.