الاستقالة من “فتح” تبرز عمق أزمة الحركة الفلسطينية (1 من 2)

بقلم ممدوح نوفل في 20/07/2003

واجه محمود عباس قبل تشكيل حكومته وبعده متاعب كثيرة، أكثرها ازعاجاً كان من قيادة حركة “فتح” التي شارك في تأسيسها عام 1965، ومن رفيق دربه رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وأعضاء المجلس التشريعي. والجميع يعرف أنه لولا تدخل الرئيس مبارك مدير استخباراته عمر سليمان لما تشكلت حكومة أبو مازن “المنحوسة”، وما كان لها الحصول على ثقة المجلس التشريعي يوم 31 نيسان (ابريل) الماضي من دون بركات عرفات. وبعد فوزه بثقة التشريعي حاول أبو مازن كسب ثقة المواطن الفلسطيني. وكان يرى في الآية القرآنية القائلة “وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” أساساً لتحركه الداخلي والخارجي، باعتبار توفير الأمن وانقاذ الاقتصاد هما الأكثر حيوية وإلحاحاً لتحسين حياة الفلسطينيين وكسب ثقتهم.

وبعد عودته من قمتي العقبة وشرم الشيخ ولقائه بالرئيس بوش وشارون تحدث رئيس الوزراء الفلسطيني في ندوة نظمها معهد أبحاث السياسة الاقتصادية “ماس” يوم 11 حزيران (يونيو) الماضي في مدينة رام الله حول تعزيز القدرة الذاتية للاقتصاد الفلسطيني، وفي سياق كلمته أمام نخبة من رجال الاقتصاد والسياسة أكد أبو مازن حرصه على توفير الظروف الملائمة لتشجيع الاستثمار في فلسطين وتطوير العلاقة الاقتصادية بالدول العربية. ودعا رجال الأعمال العودة للوطن واستثمار أموالهم في إعادة إعمار ما دمر في الحرب. وأكد عزمه على استئناف الحوار مع حركة “حماس” وقوى المعارضة، وأظهر تفاؤلاً بإمكان التوصل الى اتفاق “هدنة”، توقف بموجبه “حماس” و”الجهاد الاسلامي” والمعارضة عملياتها العسكرية ضد الاسرائيليين، وتوقف اسرائيل عمليات الاغتيال والقتل والنسف والتدمير وتسحب جيشها الى المواقع التي كانت فيها قبل انفجار الانتفاضة في 28 أيلول (سبتمبر) 2000.

وأكد أبو مازن ثقته بالرئيس بوش وأركانه وبأنهم عازمون على تنفيذ خريطة الطريق بمراحلها الثلاث، من ألفها الى يائها وحسب جداولها الزمنية. وبيّن من موقع الخبير بالشؤون الاسرائيلية أسباب عدم ثقته بمواقف شارون وأقواله وشكوكه في نوايا قوى اليمين الاسرائيلي شركاء شارون في الائتلاف الحاكم. وأبدى تخوفه من نجاح المتطرفين في الجانبين في تخريب الحركة الأميركية الجديدة قبل أن تأخذ مداها، خصوصاً انهم ليسوا ضعفاء وقادرون على التخريب ولديهم الأدوات اللازمة لذلك، كما قال.

وفي سياق الرد على المشككين في رغبة إدارة بوش في مرحلة الانتخابات، تجاهل التحفظات الاسرائيلية الـ14 التي تنسف الخريطة، وقدرتها على ممارسة ضغط على شارون وأركانه من اليمين المتطرف وإلزامهم بتنفيذ الالتزامات الاسرائيلية المحددة في الخريطة، قال أبو مازن: “علينا أولا تنفيذ التزاماتنا المحددة في الخريطة كاملة قبل أن نطالب بوش وأركانه الوفاء بالوعود التي سمعناها وممارسة ضغط قوي على شارون لوقف الاغتيالات والاقتحامات واطلاق سراح المعتقلين من دون تمييز في الانتماء، وانسحاب الجيش الاسرائيلي من المدن ومناطق “ألف” الخاضعة للسلطة، الى خطوط 28 أيلول 2000، ورفع الاقامة الجبرية المفروضة على الرئيس عرفات… الخ. وأضاف: “إذا نفذنا التزاماتنا وأخل الأميركان بالتزاماتهم ولم ينفذ الجانب الاسرائيلي التزاماته لن أتردد في تقديم الاستقالة والقول علناً وفي المؤسستين الحزبية والتشريعية جربت وفشلت وهذه أمانتكم ردت اليكم”، لاحقاً نجح أبو مازن في عمل اتفاق الهدنة، وبعد أقل من شهر قدم استقالته من اللجنة المركزية لحركة “فتح”، ولم يوضح الأسباب الحقيقية التي دفعته للاستقالة واكتفى بالقول: استقلت لأسباب داخلية محضة.

وبصرف النظر عن التفسير الاسرائيلي والشاروني للاستقالة، فالمقربون من أبو مازن يؤكدون ان الرجل قدم استقالته من مركزية “فتح” دفاعاً عن قناعاته بنهجه السياسي الواقعي في خضم خلافات سياسية وتنظيمية تفجرت داخل قيادة الحركة. وبعدما بلغت أزمة العمل الوطني الفلسطيني بتشعباتها الداخلية الفتحاوية والفصائلية والخارجية الذروة، وبلغ السيل الزبا من الاحتلال وممارساته. وإذا كان بعض اخوان أبو مازن في اللجنة المركزية والمجلس الثوري، استغل الخلاف الداخلي الصحي لتصفية حسابات شخصية تعود لفترة تشكيل الحكومة واستبعادهم منها، وبعضها يعود لفترة أقدم من ذلك، فالصحيح أيضاً أن جوهر الخلاف سياسي يمس الشأن الوطني العام، ومواقف شارون وأركان حكومته من خريطة الطريق ومن أبو مازن وحكومته، سبباً رئيسياً في تفجر هذه الخلافات ودفعها للظهور على سطح العلاقات الفلسطينية. ويمكن القول من دون تردد ايضاً ان الرئيس بوش وأركانه ليسوا براء من المسؤولية عن حال أبو مازن واضطراره للاستقالة بعد أقل من 100 يوم من تشكيل حكومته، خصوصاً انهم لم يوفوا بتعهداتهم له. وبديهي القول إن اصرار أبو مازن على الاستقالة من مركزية “فتح” يعني في الحالة الفلسطينية الاستقالة عاجلاً وليس آجلاً من رئاسة الوزراء، وربما من النشاط السياسي الفلسطيني اليومي والانتقال الى مقاعد المؤرخين المتقاعدين. فرئاسة الوزراء محصورة في المرحلة الراهنة، حسب العرف الفلسطيني، بحزب السلطة وتحديداً بحركة “فتح”. وهذا الموقف أكدته قيادة الحركة ممثلة باللجنة المركزية والمجلس الثوري عندما جرى التداول باسم السيد منيب المصري كمرشح للمنصب، واستناداً له تم اختيار أبو مازن للمهمة. وفي جميع الحالات لا يستطيع أبو مازن أو أي رئيس وزراء فلسطيني الاستمرار في السلطة والنجاح في إدارة شؤون البلد من دون اسناد مباشر من قاعدة شعبية واسعة تتمثل في حزب قديم مثل “فتح” أو جمهور تكتل جديد يبنى في انتخابات مثلاً. وإذا كان الدعم والاسناد العربي والخارجي الدولي، وخصوصاً الأميركي، ضروريين في الحالة الفلسطينية للنجاح في الحكم، فهما في الواقع الفلسطيني المعقد غير كافيين وحدهما لحماية الحكومة، أي حكومة من السقوط.

ويعرف أبو مازن أكثر من سواه أن ليس بمقدوره الاستغناء في المرحلة الأولى من حكمه ومواجهة شارون والمعارضة الفلسطينية من دون دعم قوي تقدمه قيادة وكوادر وقواعد “فتح”. وان استمرار الخلاف مع عرفات وغالبية مركزية الحركة يعني فقدان الحكومة قاعدتها الشعبية وفقدان مقومات بقائها في الحكم، لا سيما وأن وزراء فتح والقوى الأخرى المشاركة في الوزارة “حزب الشعب” أو المساندة لها من خارجها “حزب فدا وجبهة النضال الشعبي”، ضعيفة ولا تستطيع ملأ الفراغ ولا توفر الدعم المطلوب. وأجزم أن أبو مازن ليس مستعداً لخوض معركة كسر عظم مع عرفات وبقية اخوانه في اللجنة المركزية، فهو من نوعية تكره المماحكات الحزبية والشخصية.

وبصرف النظر عن فهم أركان البيت الأبيض للحالة التي يمر بها رئيس الحكومة الفلسطينية محمود عباس، فالتمعن في مضامين الاستقالة يبين انها، أيضاً، رسالة احتجاج شديد اللهجة على مواقف الادارة الأميركية، وخصوصاً عدم ترجمة ما سمعه أبو مازن من الرئيس بوش ووزير خارجيته باول ومستشارته كوندوليزا رايس في العقبة وأريحا الى خطوات عملية سياسية وانسانية ملموسة.

بعد العقبة وبناء على تفاهم مع بوش وأركانه حول سبل معالجة الوضع الفلسطيني الداخلي والخروج من المأزق، بذل أبو مازن ووزراء آخرون جهوداً كبيرة لإقناع القوى الوطنية والاسلامية بالهدنة، أو التهدئة كما فضل بوش ان يسميها. ورمى عرفات بثقله الوطني والتنظيمي بجانب رئيس وزرائه، ونجح أبو مازن بمساعدة مصرية وسعودية وقطرية وسورية وايرانية في التوصل الى هدنة. والتزمت الاجنحة العسكرية للقوى الفلسطينية بوقف العمليات ضد الاسرائيليين مدة ثلاثة أشهر، والتزمت كتائب شهداء الأقصى التابعة لفتح بوقفها فترة ستة شهور، ورفضت الجبهة الشعبية الهدنة، لكنها لم تحاول خرقها. وتراجع العنف بين الجانبين وتوقفت العمليات الانتحارية في قلب المدن الاسرائيلية. ورحبت ادارة بوش وروسيا والاتحاد الأوروبي ودول عربية كثيرة بهذا الانجاز.

وانتظر أبو مازن خطوة ايجابية من شارون باعتبار الهدنة أو التهدئة مشروعاً تسانده الادارة الاميركية، ووقف اطلاق النار مصلحة اسرائيلية كما هي مصلحة فلسطينية. وتوقع العرفاتيون ان يقدر بوش وأركانه دور عرفات في تبني خريطة الطريق ودعم حكومة أبو مازن والتوصل للهدنة، وادانة آخر عملية انتحارية لـ”حماس” نفذتها في القدس بعد محاولة اغتيال الرنتيسي، ووصفها بالارهاب الفلسطيني، وتوقعوا ان يضغطوا على شارون ويلزموه برفع الإقامة الجبرية المفروضة على عرفات والمهينة لكل وطني فلسطيني بصرف النظر عن رأيه في عرفات. إلا ان شارون أصر على تغليب قناعاته الايديولوجية ولم يكتف بالقول انه ليس طرفاً في الهدنة، وتفنن في احراج أبو مازن واضعاف موقفه داخل فتح وفي الشارع الفلسطيني، وسعى لاستدراج ردود فعل فلسطينية تعطل تنفيذ خريطة الطريق.

وبدلاً من مساعدة أبو مازن شن شارون وأركانه هجوماً عنيفاً على عرفات واتهموه بالعمل على تخريب خريطة الطريق. واصروا علناً على مواصلة بناء جدار الفصل العنصري، واختبار أبو مازن وحكومته وطالبوه بضرب البنية التحتية لقوى “الارهاب” حماس والجهاد الاسلامي وكتائب شهداء الأقصى الفتحاوية وتجريدها من السلاح قبل الحديث عن الانسحاب من الضفة واطلاق سراح المعتقلين. أي تفجير قتال داخلي يعرف الجميع أن أبو مازن شخصياً يرفضه جملة وتفصيلاً، وان حكومته غير قادرة علىه ولن تخرج منه سالمة اذا تورطت فيه ولم يساندها عرفات. ولم يلمس المراقبون تدخلاً اميركياً على المستوى المطلوب لوضع حد لمواقف شارون الهادفة الى نسف خريطة الطريق، وبدأت خيبة الأمل والاحباط تتسرب الى نفوس الفلسطينيين، وصار رئيس الوزراء الفلسطيني في وضع لا يحسد عليه، بين مطرقة المطالب الفلسطينية العادلة وسندان الرفض الاسرائيلي.