اصلاح وتجديد النظام السياسي الفلسطيني ضرورة وطنية

بقلم ممدوح نوفل في 28/05/2003

يكثر الحديث بين فترة وأخرى، في الأوساط الفلسطينية الرسمية والشعبية والحزبية حول أزمة العمل الوطني الفلسطيني وتدهور أحوال السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية، وسبل الخروج من الأزمة. وتعيش الساحة الفلسطينية، هذه الأيام، موجة جديدة صاعدة من النقاش الداخلي والعلني عن الإصلاح والتجديد والتغيير. تتركز حول إصلاح حال السلطة التنفيذية والمجلس التشريعي والأجهزة المدنية والأمنية. ويتم التطرق أحيانا بصورة عابرة إلى أزمة منظمة التحرير، مؤسسة وفصائل، وأزمة قوى المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، وكأن أوضاعها على ما يرام وتخلوا من الشوائب.
ومراجعة سيرة حديث الإصلاح والتغيير، تبين أن وتيرته كانت ترتفع وتهبط تبعا لحال العلاقة بين أطراف النظام السياسي الفلسطيني “سلطة ومعارضة”، وحال عملية السلام وعلاقة السلطة بالحكومة الإسرائيلية. وحسب ما يطفو على سطح البيت الفلسطيني من أحداث وأخبار نافرة عن السلطة والفساد وممارسات أجهزتها الأمنية والمدنية، وما يظهر على شاشة علاقتها بالمجلس التشريعي. وفي حال ارتفاع حرارة النقاش، كانت الساحة السياسية الفلسطينية تشهد نشاطا واسعا، وتكثر الندوات ويظهر على صفحات الصحف والمجلات وشاشات الفضائيات العربية اقتراحات وآراء كثيرة ومتنوعة. بعضها قيم، يرسي أسسا سليمة لعملية الإصلاح والتجديد والتغيير والدمقرطة المطلوبة وطنيا. لكن هذه الأفكار القيمة والثمينة كانت دائما تتبخر بسرعة قبل أن تتمكن شق طريقها للحياة. والتدقيق في أسباب تبخرها قبل تحولها إلى توجهات عمل لقوى النظام السياسي الفلسطيني ومنظمات المجتمع المدني يبين :
1) أن حديث الإصلاح ظل حديثا موسميا، يخضع لهمة ونشاط دعاة التجديد والتغييرـ مثقفون وكتاب ديمقراطيون مستقلون، مراكز الأبحاث والدراسات، منظمات المجتمع المدني، فصائل الحركة الوطنية والإسلامية، كوادر في السلطة..الخ في تشخيص الأزمة وتحديد السبل العملية والواقعية لمعالجة الأزمة حسب أولويات محددة. ولم يتحول التشخيص الصحيح إلى اقتراحات تنظيمية عملية ملموسة يثابر أصحابها في طرحها على الناس دون كلل، ويكافحون ببسالة في المؤسسات التشريعية والتنفيذية لتحويلها إلى قرارات ملزمة. 2) ظل نقد الأوضاع الداخلية، في كثير من الأحيان، أقرب إلى المناكفات الحزبية والسياسية، و”تحشيش فكري” حسب تعبير ابوعمار. ونادرا مارست القوى الوطنية والإسلامية ـ سلطة ومعارضة ـ نقدا الذاتي جريئا. وامتاز الجميع بالتمترس خلف مواقفهم، رغم أن وقائع الحياة أكدت أن بعضها خطأ ويلحق الضرر بالمصالح الوطنية.
3) تبين المراجعة أن هدوء الصراعات الحزبية والفصائلية، واختفاء السلوك الخطأ للأجهزة الأمنية والمدنية، كان كافيا لخفض وتيرة الحديث والنقاش العلني عن الأزمة. وكان انسجام علاقة المجلس التشريعي بمؤسسة الرئاسة، وعلاقة وزراء السلطة وقادة أجهزتها بعضهم ببعض، يضيق مساحة المشاكل والقضايا التي يتم تداولها في الأوساط الرسمية والحزبية. وكان استقرار العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية، وانتعاش المفاوضات وتحرك عملية السلام كاف أيضا لتجميد البحث في سبل معالجة الأزمة، وعكس ذلك كله كان صحيحا أيضا. 4) بفعل موسمية الحديث والمفاهيم الفصائلية الضيقة، فقدت هبات النقد وصيحات المطالبة بالإصلاح والتغيير والتجديد، الموضوعية والشمولية وفقدت قيمتها التنظيمية والمعنوية. وكثيرا ما تم القفز فوق المسببات الحقيقية للأزمة ومكوناتها وتعقيداتها، وتم حصر الأمر في حدود ما يراه هذا الطرف أو ذاك، ويساعده على تبرئة ساحته من المسؤولية عن خلق الأزمة ويعفيه من ملاحقة أطروحته النظرية لحلها. 5) افتقد حديث الإصلاح إلى رافعة حزبية متينة ومتماسكة، قادرة على حمل قضايا الإصلاح والتجديد إلى الشارع ولم يتمكن دعاة الإصلاح أفرادا وجماعات، من تشكيل قوة ضغط وطنية تناضل داخل السلطة وخارجها من أجل تحويل هذه إلى القضايا إلى توجهات رسمية. 6) التدقيق في مضمون الحديث، المعلن وغير المعلن، حول الأزمة وسبل الخروج منها، يبين أن بعضه واقعي وشمولي يتمحور حول قضايا جوهرية تهم الشأن الوطني العام. يميز جوانبها الموضوعية عن الذاتية، ويأخذ بالاعتبار إرث الاحتلال ودوره في الأزمة واستفحالها. ويراعي موازين القوى ومواقف القوى الدولية والإقليمية في معالجتها. بعضه الآخر إرادوي هروبي، يسقط دور العوامل الخارجية. ويهتم بالشأن الذاتي وبالمصالح الحزبية الضيقة ويعفي الذات من المسؤولية، ولا يقصر في جلد الغير ويحمل الآخرين كامل المسؤولية عن الأزمة وعدم معالجتها. وهناك أيضا من ناس السلطة من يحاول طمس الحقائق ويخفي الوقائع ويغطي الشمس بالغربال. ويبالغ في دور الاحتلال وموقف الإدارة الأمريكية المساند لإسرائيل في خلق الأزمة، ويقلل من قصور السلطة وأجهزتها في نشوء الأزمة وتفاقمها.
والتدقيق في الموجة الجديدة من الحديث عن الإصلاح والتغيير، يبين أنها تمتاز عن سواها في أنها؛ أولا، ظهرت بعد الهزة العنيفة التي تعرض لها الوضع الفلسطيني اثر اجتياح القوات الإسرائيلية جميع مدن ومخيمات وقرى الضفة الغربية. حيث تلاشى دور السلطة إبان الحرب، وقصرت أجهزتها الأمنية، في معظم المناطق، في التصدي للقوات الغازية وفي الدفاع عن المواطنين وممتلكاتهم، وغاب دور أجهزتها المدنية في توفير الخدمات الأساسية للناس. وإذا كان لا مجال لاستعراض دور قوى المعارضة، الوطنية والإسلامية، في الحرب فتقصيرها لم يكن أقل من تقصير السلطة، وأضراره، المباشرة وبعيدة المدى، عليها وعلى مسيرة النضال الوطني كبيرة.
ثانيا، في الموجة الجديدة اتسع نطاق المشاركين في المطالبة بالإصلاح والتغيير، ولم يبق، أحد في المعارضة والسلطة وخارجهما لم يدلي بدلوه في الموضوع. بدءا من ابوعمار الذي أقر في خطابه أمام المجلس التشريعي بوجود أخطاء ونواقص وثغرات برزت في عمل مؤسسات السلطة قبل وخلال “عملية السور الواقي” وتعهد بالعمل على تجاوزها، مرورا بالوزراء وقادة أجهزة الأمن وأعضاء المجلس التشريعي، وانتهاء بمنظمات المجتمع المدني ومراكز الأبحاث والدراسات.
وحافظت قوى المعارضة “الوطنية والإسلامية” على خطابها النقدي القديم وحملت السلطة بشقيها التنفيذي والتشريعي، مسؤولية الأزمة واستفحالها. وتتجنب الحديث في موضوع إصلاح أوضاع السلطة ومؤسساتها، باعتبارها نتاج عملية سياسية تنظيمية لم تشارك فيها. وتركز المعارضة حديثها في الإصلاح الموقف السياسي، وتعتقد أن الانسحاب من عملية السلام ووقف المفاوضات وإلغاء الاتفاقات مع إسرائيل هو العلاج الشافي للازمة.
ثالثا، في الموجة الجديدة انضمت قوى دولية وإقليمية كثيرة إلى المطالبين بإصلاح النظام السياسي الفلسطيني، وبرز بقوة موقف الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. ولم يتوانى شارون عن الإدلاء بدلوه في الموضوع، وجعل من إصلاح أوضاع السلطة الفلسطينية وأجهزتها وبخاصة محاربة الفساد، شرطا مسبقا لاستئناف مفاوضات السلام مع الفلسطينيين. وبقى أمين عام الأمم المتحدة “كوفي أنان” ومجلس الأمن والجمعية العامة لم يدلوا بدلوهم..!
لا شك في أن المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تفرض في المرحلة الحرجة التي عبرتها القضية الفلسطينية، بعد تدمير اليمين الإسرائيلي أسس وقواعد عملية السلام، تفعيل دور جميع قوى النظام السياسي “سلطة ومعارضة ومنظمات مجتمع مدني” في الدفاع عن الوجود والحقوق الفلسطينية، وزج الطاقات الوطنية في معركة التحرير والبناء. والتدقيق السريع في أوضاع هذه القوى يبين أن جميعها، وليس السلطة فقط، بحاجة إلى عملية إصلاح وتجديد ودمقرطة جذرية. ويأمل دعاة الإصلاح والتغيير”الصادقون” أن لا يتكرر المشهد وأن لا تتلاشى الموجة الجديدة بسرعة، وتسفر عن نتائج ملموسة يلمسها الناس في الضفة والقطاع.
وفي سياق فرز وتصنيف دعوات الإصلاح الكثيرة، لا خلاف بين الفلسطينيين بمختلف اتجاهاتهم والسياسية على أن حديث شارون عن إصلاح أوضاع السلطة الفلسطينية قبل استئناف عملية السلام يشبه حديث المجرم الذي يحاول حرف الأنظار عن جريمته. ومحاولة مكشوفة للتغطية على جريمته المستمرة بحق الفلسطينيين وبحق السلام بين الشعبين، واستكمال تدمير السلطة ومؤسساتها، ونسف أسس عملية السلام وتدمير مقومات قيام دولة فلسطينية مستقلة. واشتراط إصلاح السلطة الفلسطينية قبل العودة إلى المفاوضات، يعني لا أفق لاستئنافها أو إحياء عملية السلام في عهده. وأظن أن أركان البيت الأبيض ورؤساء حكومات العالم لا يأخذون حديث شارون وأركان اليمين في إسرائيل عن إصلاح ودمقرطة الوضع الفلسطيني الداخلي على محمل الجد.
ويتعامل الفلسطينيون مع الحديث الأمريكي والأوروبي عن إصلاح أوضاع السلطة باعتباره كلام حق يراد به باطل. ولا خلاف بين السلطة والمعارضة على أن أركان الإدارة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي ليسوا حريصين على نشر الديمقراطية في فلسطين، وإجراء إصلاحات واسعة في النظام الفلسطيني، وتوحيد أجهزة الأمن، وتطهير أجهزة السلطة المدنية من الفاسدين، وإجراء انتخابات تشريعية وبلدية..الخ وأن هدف الحديث في هذا الوقت بالذات تقطيع الوقت الضائع من مسيرة السلام واحتواء الأزمة. وتغطية عجزهم أو عدم رغبتهم في الضغط على شارون لوقف أعماله العدوانية ضد الفلسطينيين، وإلزامه باحترام الاتفاقات التي توصلت إليها السلطة الفلسطينية والحكومات الإسرائيلية السابقة. وفشلهم في إرغامه على العودة إلى طاولة المفاوضات والالتزام بأسس عملية السلام التي انطلقت من مدريد في العام 1991.
وهذه الأطراف مستعدة لسحب حديثها عن الإصلاح والديمقراطية والتغيير إذا نجحت السلطة في ضبط الوضع الأمني، وأوقفت العمليات ضد الإسرائيليين. والكل يعرف أن الإدارة الأمريكية والإتحاد الأوروبي يحثون السلطة على قمع المعارضة واعتقال كوادرها وقياداتها وتدمير مؤسساتها. ولن ينسى الفلسطينيون أنها غضت النظر عن التحقيق في الجرائم التي ارتكبها شارون ضد الإنسان الفلسطيني في جنين ونابلس. وسوف يبقى يتذكر أنها ضربت عرض الحائط مبادئ حقوق الإنسان، وتراجعت عن موافقتها في مجلس الأمن بشأن تشكيل لجنة تقصي الحقائق في هذه المجازر.
أما بشأن حديث الإصلاح والتغيير الكثير والكبير الصادر عن أهل السلطة والمعارضة ومنظمات المجتمع المدني، فالواضح أن كثيره مزيف وقليله صادق. واختلط الأمر على الناس في الضفة والقطاع. ونجح من هم بحاجة إلى تغيير وإصلاح ومحاسبة في تشويه العملية المطلوبة وزرعوا الشك في جديتها. ويستطيع المراقب المحايد ببساطة أن يرى أن أدق تشخيص لحالة النظام السياسي الفلسطيني الرسمي وأعلى وتائر نقد حالته المتدهوره، هو الذي يطرحه الشخصيات والقوى المشاركة في السلطة التنفيذية، وبخاصة الوزراء وقادة أجهزة الأمن وذوي المناصب العليا. لكنه، للأسف الشديد، يجري خارج اجتماعات السلطة الرسمية، وداخل الأطر الحزبية الضيقة في أحسن الأحوال. ويأخذ في معظم الأحيان طابع التندر والتنكيت حول مظاهر الأزمة، وبخاصة طريقة أداء أجهزة السلطة ومؤسساتها لمهامها اليومية، بما في ذلك اجتماعات السلطة، التي تحولت حسب تعبير أفرادها إلى لقاءات دورية موسعة جدا، تضم مجلس الوزراء وأعضاء اللجنة التنفيذية والوفد المفاوض وعدد من قادة حركة فتح والمستشارين. وكأن أصحاب التندر والتنكيت ليسوا جزء من السلطة وبراء من المسؤولية عن استفحال الأزمة. وأوضاع السلطة والمنظمة والقوى الوطنية والإسلامية ومنظمات المجتمع المدني..الخ بألف بخير والمطلوب إصلاح الشعب أو تغييره..
وبصرف النظر عن رأي شارون والأمريكان والأوروبيين، لا شك في أن إصلاح وتجديد النظام السياسي الفلسطيني ضرورة وطنية ملحة، في إصلاحه وتجديده قوة للفلسطينيين. وإنجاز هذه المهمة يتطلب “نفضة” فكرية سياسية تنظيمية إدارية في جميع أطرافه، تبدأ بالسلطة وتمتد للآخرين دون استثناء. ويبدو أن لا مفر أمام دعاة الإصلاح الحقيقي من توحيد أنفسهم في إطار حركة ديمقراطية جديدة.