لمسات اسرائيلية في الحرب على العراق

بقلم ممدوح نوفل في 19/04/2003

قد يكون صعبا الآن إثبات الدور المباشر لإسرائيل واللوبيات الإسرائيلية والصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية في دفع إدارة بوش لشن الحرب على العراق، لكن لا أحد يجادل في أن إسرائيل هي ثالث الرابحين في هذه الحرب بعد الولايات المتحدة وبريطانيا، رغم أنها لم تشارك فيها ولم تخسر قطرة دم واحدة.
وبصرف النظر عن دقة المعلومات التي سربتها الصحف العبرية حول اشتراك ضباط إسرائيليون في مناقشة خطة الحرب، فالمعلومات المتداولة في الساحة الفلسطينية وعواصم عربية أخرى تؤكد أن إسرائيل وضعت معلومات إستخبارية مهمة حول العراق وقدراته العسكرية تحت تصرف وزارة الدفاع الأمريكية، وزودتها بخبرة إسرائيل في حصار واقتحام بيروت عام 1982 ومدن الضفة الغربية ومخيماتها عام 2002. وفتحت مطارات إسرائيل وموانئها دون ضجيج إعلامي أمام القوات الأمريكية لاستخدامها عند اللزوم، ووفرت مستودعات لتخزين احتياط الأسلحة والذخائر والمعدات الحربية الأخرى. ودرس عسكريون من الطرفين دور الجيش الإسرائيلي في الحرب على العراق، خصوصا شكل الرد في حال تعرض إسرائيل لضربات صاروخية عراقية. وتم تشكيل غرفة عمليات مشتركة تولت الإشراف على تشغيل صواريخ باتريوت الأمريكية المضادة للصواريخ والطائرات التي نصبت في إسرائيل، وتنظيم التعاون وتنسيق المعلومات حول دور سورية في مساندة العراق وأشرف أركان الغرفة على عملية الإنزال التي نفذتها وحدات المارينز في اليوم الأول من الحرب في صحراء العراق الغربية بهدف بتعطيل توجيه ضربات صاروخية لإسرائيل.
لا شك في أن خطة الحرب على العراق، وبخاصة تطويق واقتحام المدن الكبيرة سوف تدرّس يوما ما في معاهد وكليات أركان الحرب في دول كثيرة باعتبارها إحدى الحروب الكبيرة الناجحة. وإذا كان من البكر إجراء دراسة تحليلية كاملة لخطة “الصدمة والرعب”، ونظرية “رفع قوة النار وتقليص عدد الأفراد”، فالإشارة المبكرة لأوجه التشابه والتطابق في العمليات العسكرية التي نفذتها القوات الإسرائيلية في لبنان عام 1982وفي الضفة الغربية وقطاع غزة في آذار “مارس” عام 2002 مع العمليات التي نفذتها القوات الأمريكية والبريطانية في العراق، يساعد في دراسة الحرب واستخلاص دروسها السياسية والعسكرية.
تبين الصور اليومية التي نقلها مراسلو شبكات التلفزة العربية والأجنبية عن الحرب لمسات من سلوك الجيش الإسرائيلي وتعامله “الحضاري” مع الفلسطينيين..وبخاصة اقتحام القوات الأمريكية والبريطانية، منازل العراقيين “وتحرير” مدنهم وبلداتهم…كلاهما تعمد استخدام قوة النيران لدب الذعر في نفوس الشيوخ والنساء والأطفال، وصورة تصرف الحواجز الأمريكية في مداخل المدن العراقية والطرق الخارجية مع المواطنين، تكاد تكون نسخة طبقة الأصل عن السلوك “الإنساني الرائع” للحواجز الإسرائيلية المنتشرة على طرق ومداخل مدن وقرى الضفة والقطاع. بدء من منع المرور وتوقيف الناس في طوابير طويلة، مرورا برفع اليدين للأعلى قبل التفتيش ثم عصب العينين أو وضع رؤوس المشتبه بهم داخل أكياس خيش خانقة، وانتهاء بقذف المعتقلين في الشاحنات بطريقة فجة حاقدة أو رميهم على الأرض ساعات طويلة. ولاحظ الفلسطينيون فارقا واحدا في الصور لصالح “إنسانية” القوات الأمريكية..حيث استخدمت حبالا بلاستيكية لتربيط المعتقلين من ذات النوع واللون التي يستخدمها الإسرائيليون، لكنها أسمك وأعرض قليلا، وهذا الفارق، حسب خبرة الفلسطينيين، يخفف من ضغط الحبل على شرايين وأعصاب المعتقلين ويقلل ألمهم…
إلى ذلك، تشابهت عمليات التمهيد الإعلامي والدعاوي للحرب على العراق وحروب شارون على الفلسطينيين: شارون وأركانه، مثلا، مهدوا لاحتلال بيروت بالادعاء أن لبنان تحول إلى وكر للإرهاب الدولي، وأعادوا احتلال المدن الفلسطينية قبل عام بحجة أن عرفات إرهابي حوّل الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية إلى وكر للإرهاب الفلسطيني، ونظامه فاسد يبدد أموال الشعب ويمثل خطرا على أمن إسرائيل ولا بد من تغييره واستبدال نظامه بنظام ديمقراطي..الخ المعزوفة المعروفة. واتهمت إدارة بوش والحكومة البريطانية صدام بأنه يقود نظاما إرهابيا فاسدا يبدد أموال العراق ويدعم الإرهاب الدولي ويمثل خطرا حقيقيا على أمريكا وبريطانيا والسلم العالمي يجب تغييره بنظام ديمقراطي. وأنه يملك أسلحة التدمير الشامل ولا يتورع عن نقلها للإرهابيين لاستخدامها ضد المدن الأمريكية والبريطانية. وإذا كان لا خلاف مع بوش وبلير حول طبيعة نظام صدام وانه ديكتاتوري فاسد، فهذه الصفات ليست أكبر بكثير من فساد أنظمة ديكتاتورية كثيرة يعتبرانها صديقة، وسجون وقصور وتماثيل وصور زعمائها في شوارع بلدانهم لا تقل عن تراث صدام..
ويبين التدقيق في أسلوب القتال الذي اتبعته قوات المارينز والقوات البريطانية في اقتحامها وتطويقها المدن العراقية، تطابقا مع أساليب قتال الجيش الإسرائيلي عند تطويق واقتحام مدينة بيروت واقتحام جنين ونابلس ورام الله. ونفذت الطرفان العدوان في ثلاث مراحل: في التمهيدية، تم عزل المدينة “الهدف” المنوي اقتحامها عن محيطها وأغلقت منافذها الخارجية، وقطعت المياه والكهرباء عنها ومنع المحاصرون من التزود بالإمدادات الغذائية والطبية، وسمح للمدنيين بالمغادرة دون عودة. وجرى مشاغلة القوى المحاصرة بالنيران ليل نهار بهدف إرهاقها وإضعاف معنوياتها. وجمعت معلومات تفصيلية عن الحالة المعنوية والقوى والوسائط، وتم استطلاع طاقاتها ونقاط ضعفها بقوة النيران. ورافقت الحرب النفسية غارات طيران وقصف مدفعي وصاروخي. وتم تغطية جرائم قتل المدنيين بإبداء الأسف حينا واتهام الطرف الآخر بإثارة ضجيج إعلامي مفتعل لتشويه صورة الجندي الأمريكي الزاهية، كما اتهم الفلسطينيون بتشويه صورة الجندي الإسرائيلي “البريء”.
إلى ذلك، تشابهت أيضا العمليات في المرحلة الثانية من الحرب؛ تم استغلال نقاط الضعف واخترقت خطوط الدفاع بحركة سريعة مصحوبة بنيران غزيرة باتجاه نقاط التمركز المستطلعة أرضا وجوا، تلاها انسحاب سريع والإيحاء بالعدول عن العملية، ثم احتلالها والتثبت فيها بانتظار انطلاق مرحلة جديدة تبدأ بقطع وسائل الاتصال بين الوحدات المدافعة وضرب مصادر النيران بقوة مهما كانت نيران المدافعين خفيفة. والتمدد في المناطق المبنية وقضمها بالتدريج وتطهيرها منطقة بعد أخرى.
وإذا كان احتلال بغداد والموصل وكركوك تم بسلاسة وفرها اتفاق لم يعلن عنه أو انهيار مفاجئ للقيادة العراقية، فالقوات الأمريكية والبريطانية نفذت الشق الأخير من الهجوم واحتلت المدن العراقية بصورة لا تختلف كثيرا عن العقيدة التي طبقتها القوات الإسرائيلية في السيطرة على المدن الفلسطينية؛ تمركز الجيش الأمريكي في المناطق الحساسة واستهدف وصول قلب المدن العراقية أولا لأغراض معنوية ونفسية ودعاوية. تلاها سيطرة على المواقع الاستراتيجية وتطهير جيوب المقاومة المتفرقة. ونهب أفراد في القوات الأمريكية آثار وكنوز الشعب العراقي التاريخية وتركوا عصابات جريمة المنظمة وبعض اللصوص الجهلة ينهبون فتات المائدة، تماما كفعل الجيش الإسرائيلي عندما احتل رام الله وبقية مدن الضفة الغربية.
ويبدو أن إدارة بوش مصرة على تطبيق النظرية الإسرائيلية من ألفها إلى يائها وماضية في تطبيق نظام الإدارة المدنية على العراق يشبة الذي فشلت إسرائيل في تطبيقه على الفلسطينيين. وعينت الجنرال المتقاعد جي غارنر صديق إسرائيل حكاما عسكريا للعراق، يرأس إدارة مدنية وظيفتها المعلنة تنظيم حياة الناس ووظيفتها الحقيقية المخفية سرقة ثروة العراق النفطية وتوزيع عقود إعادة الإعمار على الشركات الأمريكية، وتأهيل البلد لخدمة الأهداف الأمريكية الاستراتيجية.
لا شك في نظام صدام قدم خدمات كبيرة للولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإسرائيل في هذه الحرب لا تقل عن التي قدمها في القرن الماضي في حربه ضد إيران واجتياحه الكويت؛ مكن الطرفان الرئيسيان في الحرب الثالثة من السيطرة على منابع نفط العراق والتحكم بسعره في السوق العالمي. وسهل تحويل العراق إلى رأس حربة ثانية في المنطقة تستخدم بجانب إسرائيل في إعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط وفق الرؤية الأمريكية. وساهم في تكريس تفرد الولايات المتحدة في رسم السياسة الدولية خارج الأمم المتحدة وداخلها وشجع أركانها المتطرفين على مواصلة سياسة البلطجة والعدوان ضد شعوب كثيرة أخرى.
وبصرف النظر عن النوايا فإن نظام صدام ألحق خسائر فادحة بالموقف العربي في الصراع مع إسرائيل إضافة لخسائر الشعب العراقي البشرية والمادية التي يصعب تعويضها؛ تسبب في احتلال ثاني عاصمة عربية بعد بيروت والحق بالشارع العربي هزيمة معنوية عميقة يصعب زوالها خلال وقت قصير. أسقط خطرا أمنيا استراتيجيا مثله “نظريا” العراق، وظل يقلق القيادة الإسرائيلية سنوات طويلة. اهتز بنيان جامعة الدول العربية وتشرذم النظام الرسمي العربي وخلقت قضية جديدة تشغل أطرافه فترة طويلة عن القضية الفلسطينية “قضية العرب المركزية”. وفقدت سوريا ولبنان عمقهما الجيوعسكري، وتتعرض لضغوط أمريكية إسرائيلية للسكوت على الاحتلال الأمريكي للعراق، وقطع صلته بالمعارضة الفلسطينية. وفتحت شهية إسرائيل على اعتراف العراق بها واستئناف ضخ نفط عراقي إلى ميناء حيفا, ويحاول شارون استثمار الفوز الأمريكي البريطاني في العراق في حربه ضد الفلسطينيين ويسعى لدفع الإدارة الأمريكية لاستكمال خدماتها الجليلة لشعب إسرائيل..ومساعدته في تركيع سوريا وإخراج قواتها من لبنان وتجريد حزب الله من أسلحته، وتحويل “خريطة الطريق” إلى خريطة لفرض الاستسلام على الفلسطينيين.
برغم المآسي التي ألحقها صدام بالعرب، يبقى الأمل كبيرا في نهضة سريعة للشعب العراقي والتخلص من كابوس الاحتلال بعد زوال كابوس الدكتاتورية عن كاهله. والمهم أن يستوعب أطراف النظام الرسمي العربي مرحلة ما بعد الحرب على العراق، وأن لا يتركوا شعب العراق الجريح فريسة للوحوش الكاسرة وخاصة شارون. وان يعووا قيمة دمقرطة علاقاتهم بشعوبهم قبل فوات الأوان.