الارتباك في التعامل مع القضية العراقية يزيد في الخسائر الفلسطينية

بقلم ممدوح نوفل في 07/02/2003

رغم المصائب والمآسي الفظيعة التي يلحقها الاحتلال يوميا بالفلسطينيين، يسيطر هاجس الحرب على العراق على حياة الناس في الضفة وقطاع غزة، ويحتل حيزا كبيرا في جلسات “السمر” اليومية التي يفرضها حظر التجول والإغلاق، ويشارك فيها أفراد الأسرة وتضم ناس من الجيران وضيوف حالت إجراءات منع التجول والحصار دون عودتهم إلى قراهم وبيوتهم. وتنظم، في هذه الأيام، مراكز الأبحاث والدراسات ومنظمات المجتمع المدني في غزة ورام الله، ندوات كثيرة ولقاءات عصف فكري موسعة ومصغرة، تبحث جميعها في نتائج الحرب على العراق ودول وشعوب المنطقة وبخاصة الشعب الفلسطيني وقضيته.
واستنادا لواقعهم المر تحت الاحتلال وتجربتهم القاسية مع الإدارة الأمريكية والأمم المتحدة، يستخلص الفلسطينيون، شعبا وسلطة ومعارضة، من حديث الحرب على العراق أمرين: بوش لن يتراجع قبل الإطاحة بصدام واستبدال نظامه، وصدام لن يستسلم، والحرب على العراق واقعة لا محالة. ولن تعجز أجهزة الإستخبارات الأمريكية والبريطانية عن خلق الذريعة للإعلان عن فشل مهمة المراقبين وإطلاق العنان للصواريخ والطائرات لدق بغداد. والأمر الثاني، أن إسرائيل شريك رئيسي في الحرب على العراق وفي قطف ثمارها خصوصا في الحقل الفلسطيني. وإدارة بوش سوف تواصل صمتها خلال الحرب وبعد احتلال العراق، على العجائب التي يمارسها شارون ضد الفلسطينيين، وقد تبرر له ارتكاب ما يشبهها ضد بعض الإطراف العربية، وتبيح له إعادة احتلال قطاع غزة.
لا شك في أن الولايات المتحدة الأمريكية على يقين أن النظام في العراق لا يملك القدرة على مواجهة الآلة العسكرية الأمريكية. وتعرف تماما أن العراق، في حالته الراهنة ولفترة طويلة، لا يمثل تهديدا حقيقيا لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة. وبخاصة استمرار تدفق النفط للأسواق العالمية والمحافظة على أمن إسرائيل. وإصرار أركان إدارة بوش على ضرب العراق وإغلاق طريق الحل السياسي، يؤكد أن هذه الحرب حلقة مركزية في مشروع أمريكي استراتيجي. هدفه الحقيقي أكبر وأبعد من تجريد العراق من أسلحة التدمير الشامل. يبدأ بوضع اليد على نفط العراق، ومن خلاله التحكم بالنفط في العالم،إنتاجا وتصريفا وتسعيرا. وتسعى إدارة بوش عبر هذه الحرب إلى تعزيز تفوق القدرات الأمريكية في المستويات العسكرية والاقتصادية والثقافية والتقنية. وإعادة صياغة العلاقات الدولية في إطار الأمم المتحدة وخارجها بما يضمن تثبيت نظام القطب الأوحد وتكريس الهيمنة الأمريكية، وانتزاع حق إلحاق الهزيمة بأعدائها وليس احتوائهم، وحق فرض إرادتها بالقوة إذا فشلت الوسائل الدبلوماسية.
وبصرف النظر عن الادعاءات الأمريكية والبريطانية حول امتلاك العراق أسلحة التدمير الشامل فالأرجح أنه لا يمتلكها، وما عرضه باول في مجلس الأمن يوم 5 شباط “فبراير” الجاري على مجلس الأمن غير مقنع ولا يثبت التهمة. وحتى إذا امتلك العراق بعض هذه الأسلحة وبضع صواريخ بعيدة المدى، كما يقول بوش وبلير، فالمؤكد أنها أقرب لبقايا معدات عسكرية “خردة” غير صالحة للاستخدام، ولا تكفي لتهديد أحدا. ولن يغامر العراق بالكشف عنها بعد إنكار وجودها، حتى لا يقع في المصيدة الأمريكية.
بديهي القول أن القيادة العراقية تعرف نتائج هذه الحرب وتسعى بشتى الوسائل لتجنبها، ولا مصلحة لها في تدمير ذاتها وتفتيت بلدها وقتل وجرح مئآت الألوف من شعبها. وصمتها على استفزازات لجان التفتيش وإجراءاتها اليومية المهينة، دليل على الرغبة في عدم توفير الذريعة للحرب والخلاص من الأزمة بأقل الخسائر.
ويبدو أنها قررت القتال في بغداد وبعض المدن الكبرى الأخرى بعد أن صار القتال أمرا فروضا. وتفضل استخدام ما لديها من معدات حربية في مواجهة قوات الغزو الأمريكي بعد أن تحط رحالها على أرض العراق وتبدأ بمهاجمة المدن. وليس من مصلحة عراقية ولن يكون بمقدورها توجيه أسلحتها نحو الكويت مثلا كما فعلت عام 1990، وتصريحات بعض أركان النظام العراقي ضد الكويت ضارة ولا معنى لها ولا تخيف أحد. وفي كل الأحوال لن يكون بمقدور القيادة العراقية أيضا توجه ضربة جدية لإسرائيل، لأنها لا تملك القوى والوسائط اللازمة لذلك، وتدرك أن إسرائيل جاهزة للرد بقوة وسيناريو حرب الخليج الثانية لن يتكرر. والجميع يعرف أن إسرائيل دولة تملك أسلحة نووية وبيولوجية وكيماوية، وتملك صواريخ وطائرات قادرة على قذفها فوق أي بقعة في المنطقة، ولا أحد يفكر في تجريدها من هذه الأسلحة.
ليس سهلا تقدير مسار الحرب على العراق، وتقدير كل نتائجها على الشعب العراقي وبقية دول وشعوب المنطقة، لكن هناك قضايا واضحة باتت أقرب إلى الحقائق، منها، التغيير في العراق قادم حتما بصرف النظر عن مدة الحرب وميادينها. وهذا التغيير له مضاعفات وتفاعلات سياسية وعرقية وطائفية واسعة داخل العراق وفي محيطه. وتبسيط صقور إدارة بوش لمهام ما بعد سقوط نظام صدام يجسد عنجهية المغرور بقوته واحتقارهم للشعوب العربية، وجهلهم بتاريخ العراق، ويتصرفون وكأن الشعب العراقي مطية يسهل ركوبها واستعمارها واستعبادها.
إلى ذلك، أظن أن تداعيات الحرب على العراق لن تستثني أحدا في المنطقة، وسوف تطال الدول الصناعية الكبرى والصغرى خصوصا التي تعتمد على نفطها. وإذا كانت مقدمات هذه الحرب أحدثت فجوة في العلاقات الأمريكية الأوروبية وشقت وحدة الموقف الأوروبي، فوقوعها يوسع هذه المشاكل، خصوصا إذا طالت الحرب وتصرفت إدارة بوش خلال الحرب وبعدها بروح الانتقام. ولا ادري إذا كانت الحرب ستنقذ الاقتصاد الأمريكي من حالة الركود أم أنها قد تزيد في تدهوره خصوصا إذا طالت. وإقدام إدارة بوش على ضرب العراق دون غطاء دولي يمثل سابقة خطيرة لها انعكاسات سلبية على العلاقات الدولية وعلى دور الأمم المتحدة، وتعقد علاقة الولايات المتحدة الخارجية وتزرع القلق والخوف في مناطق عدة من العالم وتقوي الاتجاهات المتطرفة في الشرق الأوسط، وقد يتحول العراق إلى ملاذ “للإرهابيين” والملاحقين والمطارين.
وإذا كان هدف الحرب على العراق منع انتشار أسلحة الدمار الشامل الكيماوية والجرثومية ومنع وصولها ليد الارهابين أمثال بن لادن ، فهذا يعني أنها بداية لسلسة حروب ضد من يملك هذا السلاح، تقرر إدارة بوش أن امتلاكه له يمثل خطرا عليها. وبديهي القول أن بقية دول “محور الشر” كوريا الشمالية وإيران” ودولا عربية أخرى مرشحة لحروب مشابهة بعد الحرب على العراق. وإذا كان إحلال نظام ديمقراطي في العراق هدفا حقيقيا آخر للحرب، فإن تجارب الشعوب وتجربة الفلسطينيين الحية مع الاحتلال الإسرائيلي تؤكد أن الديمقراطية لا تبنى بقوات احتلال تأتي من الخارج، وعلى إدارة بوش شن الحرب أيضا على دول أخرى كثيرة في المنطقة وخارجها تفتقر إلى الديمقراطية المفقودة في العراق.
من حق العرب شعوبا وحكومات، أن ينظروا للتوجهات الأمريكية الجديدة بعين الشك والريبة، وأن يخشوا تفتيت المنطقة انطلاقا من العراق. خاصة أن البديل المرشح لوراثة النظام الحالي ليس أقل من حالة من الفوضى تؤسس لدولة ائتلاف طوائف.
وسيناريوهات الضربة الذي يجري الحديث عنها تحمل في طياتها مخاطر تقسيم العراق وزجه في حرب أهلية طاحنة تتورط فيها تدريجيا شعوب الدول المجاورة لهذا البلد المنكوب. فالغارات الجوية وقصف البوارج صواريخ ثقيلة ذكية فوق ما تعتبره الإدارة الأمريكية مواقع الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، يدمر المصانع والمنشئات المدنية والعسكرية، لكنه لا يغير النظام في العراق. والمبتدأ في العلوم العسكرية يعرف إن الإطاحة بالأنظمة بقوة السلاح يحتاج إلى قوات برية قوية، وهذا الأمر ينطبق على تغيير النظام في العراق. ولا تستطيع إدارة بوش وحكومة بلير الادعاء أن دعمهما للقوى العسكرية المحلية الموالية لهما كاف لإنجاز المهمة. ولا أظن أن أركان الجيشين الأمريكي والبريطاني فقدوا صوابهم ومستعدون للمغامرة بحياة عشرات الآلاف من جنودهم، وزجهم في معركة برية هدفها السيطرة على شوارع بغداد ومدن عراقية أخرى. ولا ادري إذا كان بوش وبلير وضعا في حساب المعركة مضاعفات التسبب في قتل وجرح مئات الألوف من المدنيين في العراق والدول المجاورة له، ورفض الشعب العراقي الخضوع للاستعمار الأمريكي البريطاني حتى لو خلصهم المستعمرون الجدد من نظامهم الديكتاتوري.
إلى ذلك، من حق الفلسطينيين أن يقلقوا أكثر من سواهم من تصميم الإدارة الأمريكية على شن الحرب على العراق. خاصة أن تجربتهم علمتهم أن الولايات المتحدة الأمريكية، في سياق تحقيق أهدافها ومصالحها الداخلية والخارجية، لا تتردد في تدمير الآخرين، ولا تتورع عن الكيل بمكيالين وتجاهر بذلك عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. وإذا كان تقدير نتائج هذه الحرب على العرب والعجم والأمريكان والبريطانيين وبقية الأوروبيين غير نهائي، ويتضمن احتمال الخطأ والصواب بنسبة عالية، فنتائجها على الفلسطينيين واضحة لمن لم يدفن رأسه في الرمل. أخطرها: خلق قضية ساخنة موازية تشغل العرب والعالم عن قضيتهم المزمنة. وإرهاب الحكام العرب عبر تأديب النظام العراقي، بحيث لا يبقى بينهم صوت واحد يقول لا لأمريكا على أمر تقوم به، وإرغامهم على التنصل من القضية الفلسطينية وقبول تسوية للنزاع العربي الإسرائيلي تحقق لإسرائيل مكاسب واسعة على حساب أرضهم وكرامتهم. وجر بعض العرب للمساهمة في الضغط على الفلسطينيين لقبول مشروع الكنتونات الذي يعرضه شارون كحل نهائي، دون تعديل أو تبديل. وبديهي القول أن استمرار تخبط النظام السياسي الفلسطيني، بشقيه سلطة ومعارضة، في إدارة الصراع مع إسرائيل، وارتباكه في التعامل مع قصة الحرب على العراق يزيد في الخسائر الفلسطينية. وفشل حوار القاهرة مؤشر على أن قوى الحركة الوطنية والإسلامية الفلسطينية غير مستوعبة حجم المخاطر التي تحيط بها وبالقضية الفلسطينية ولم تتعلم من التجربة التاريخية وضمنها تجربتها الذاتية، والتاريخ لن يرحم من تسبب في زيادة آلام شعبه.