نتائج الانتخابات الاسرائيلية تنبؤ باخطار جسيمة

بقلم ممدوح نوفل في 19/01/2003

في العادة تكون فترة الانتخابات الإسرائيلية مناسبة يحاسب فيها الشعب الإسرائيلي أطراف النظام السياسي على ما قدمه كل طرف وما قصر في تقديمه. ويعرض المرشحون، أفرادا وكتل انتخابية، عبر وسائل الإعلام، ما يحلو لهم من مواقف وأفكار. ومن أجل الفوز بمقاعد الكنيست السادسة عشر المقررة أواخر شهر كانون الثاني الجاري، مارس الجميع أساليب مباحة ديمقراطياً وغير مباحة أيضاً. ومع اقتراب موعد فتح مراكز الاقتراع، بدأ مشهد المناورات والألعاب الحزبية يتكرر على أرض بازار الانتخابات بصورة أكثر إثارة وتشويق من مشهد الانتخابات السابقة. وتحولت الحملات الانتخابية إلى عملية ردح سياسي وتجريح شخصي للمرشحين. وسقطت الروادع الأخلاقية والإنسانية والسياسية، وتجاوز المرشحون في دعايتهم الانتخابية الحدود المعقولة وتبادلوا الاتهامات والشتائم السياسية والتنظيمية. وتم الكشف عن تورط “الجد العجوز” شارون ونجليه في قضية فساد ومخالفات جنائية مالية، أفقدته بعضا من وزنه المعنوي، وخسر حزب ليكود عددا من مقاعد الكنيست لكنه لم يفقد فرصة كسب المعركة.
وتدخل القضاء الإسرائيلي، وأثبت متانة استقلاليته، وتعززت مكانته داخليا وخارجيا. ورسم قضاة المحكمة العليا نموذجا يستحق التقدير، حبذا لو يتم الإقتداء به فلسطينيا وعربيا، حين نقض قضاة المحكمة العليا قرار لجنة الانتخابات المركزية حرمان حزب التجمع الديمقراطي ورئيسه عزمي بشارة، وأحمد الطيبي من المشاركة في الانتخابات لأسباب سياسية، وحين مارس القاضي “حيشن” رئيس لجنة الانتخابات صلاحياته وأوقف بث وقائع المؤتمر الصحفي الذي عقده رئيس الوزراء “شارون” عندما تجاوز المسموح به وحول المؤتمر إلى دعاية انتخابية.
والتأمل في مجريات المعركة الانتخابية ومكونات الخارطة السياسية والحزبية، ونتائج استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي يبين، لمن يريد أن يرى الحقيقة، عددا من الحقائق المرة والقاسية على الفلسطينيين، وتحمل في طياتها أخطار كبيرة على العرب وتهدد استقرار المنطقة، أبرزها:
أن المجتمع الإسرائيلي يعيش مرحلة من عدم الاستقرار السياسي والحزبي والنفسي، ومنقسم على نفسه عموديا وأفقيا حول قضايا عديدة ومتنوعة منها؛ الصراع بين التدين والعلمانية، والموقف من مسألة السلام مع الفلسطينيين والعرب، ومدى التجاوب مع سياسة الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة. وزادت أطروحة متسناع “لا لحكومة الوحدة الوطنية وإما العمل أو الليكود” في حدة الانقسام الداخلي ورفعت حرارة المعركة الانتخابية. وقبل اليمين التحدي واستنفر قواه ونزل بقوة إلى ميدان المعركة. وظل قادة وكوادر حزب العمل محبطين وبعضهم يسلم بخسارة المعركة قبل فتح صناديق الاقتراع. وتلقى متسناع طعنات في الظهر وبقي وحيدا في مواجهة اليمين، يكافح من أجل تقليص الفرق في عدد مقاعد الكنيست الجديدة، والبقاء في زعامة الحزب بعد الانتخابات، بأمل متابعة معركة تثيبت توجهاته السياسية والحزبية.
ثانيا: أظهر المجتمع الإسرائيلي في هذه الانتخابات حساسية خاصة تجاه قضاياه الداخلية وبخاصة الأمنية والاقتصادية والمتعلقة بالرشوة والفساد، تفوق اهتمامه بصنع السلام مع الفلسطينيين. وظهر انه غير ناضج للوصول إلى سلام حقيقي شامل وشبه عادل مع جيرانه الفلسطينيين، وبناء علاقة طبيعية متوازنة مع العرب. ولم تفلح جهود السلام في إخراجه من صومعته العنصرية المتقوقع فيها، وظل أغلبية الإسرائيليين أسرى مفاهيم توراتية غيبية. ولم ينجح زعيم حزب العمل وقوى السلام في إقناعهم أن في السلام منافع استراتيجية كبيرة وكثيرة لهم، تفوق المنافع الآنية والمحدودة التي تجنيها إسرائيل من استعمار شعب فلسطين واحتلال أرضه.
وبصرف النظر عن النوايا، فإن أخطاء حزب في عهد باراك وبعده بن أليعازر، شككت الإسرائيليين اليهود، شرقيين وغربيين متدينين وعلمانيين، في إمكانية السلام مع الفلسطينيين. وجاءت رياح الحرب على العراق ورياح “الانتفاضة والمقاومة” الفلسطينية وبخاصة “العمليات الانتحارية ضد المدنيين في قلب المدن الإسرائيلية، وكرست عقدة خوف من العرب التي زرعتها الصهيونية في عقول الإسرائيليين جيلا بعد جيل. ودفعتهم نحو التمسك بالأمن بمفهومه الضيق والتخلي عن السلام الذي يجلب الأمن الشامل. وواصلوا انحيازهم لبرنامج اليمين الداعي إلى تدمير العراق في حال تعرض إسرائيل للصواريخ. وإخضاع الفلسطينيين بالقوة وعدم التفاوض معهم وتدمير سلطتهم باعتبارها سلطة إرهابية تسعى إلى تدمير إسرائيل. ورغم اتهام شارون وأبنائه بالرشوة والفساد، وتدهور الوضع الأمن والاقتصادي في عهده، يتجه أغلبية الإسرائيليين لمسامحته وتجديد حقبة حكمه باعتباره القادر على صنع المعجزات وردع العرب وتركيع الفلسطينيين وجلب الأمن والسلام مفصلين على مقاسهم وحدهم.
ثالثا: بالرغم من الأخطار الكبيرة التي يجلبها فوز اليمين الإسرائيلي في الانتخابات الجديدة، ظل الفلسطينيون سلطة ومعارضة قاصرين عن التأثير فيها بما يجنبهم هذه الأخطار. وعجزت السلطة عن توجيه رسالة سلام واضحة وصريحة للمجتمع الإسرائيلي، وظل كلام أقطابها عن السلام ودعوة بعضهم إلى نبذ العنف والإرهاب باهتا وملتبسا. وتعمدت قوى المعارضة الفلسطينية أظهار ضعف عرفات والسلطة الرسمية، وعملت ما بوسعها للتشويش على المواقف والبيانات الفلسطينية الواقعية القليلة التي حاولت دحض تهمة رفض السلام واعتماد الإرهاب وسيلة لتحقيق الأهداف. وزود بعضها شارون بالمقومات الضرورية لمواصلة حربه العنصرية ضد الفلسطينيين، وجردوا شعبهم من أدنى أشكال الدعم والإسناد المعنوي الدولي. وبدلا عن تقدير خطورة المرحلة والتخلص من تهمة التطرف والارهاب، أصر أنصار “الكفاح المسلح والعمليات الانتحارية” خصوصا في فتح وحماس والجهاد الإسلامي، على مواقفهم، ومضوا قدما في بياناتهم النارية و”عملياتهم الانتحارية” واستعراضاتهم العسكرية في شوارع مدن ومخيمات قطاع غزة، وحمّلوا الشعب الفلسطيني ما يفوق طاقته. وساهموا في إضعاف مواقف متسناع “واليسار الإسرائيلي”، وعززوا مواقف شارون العنصرية المتطرفة في الحقلين الداخلي والدولي.
إلى ذلك، فشل النظام الرسمي العربي في التأثير المباشر وغير المباشر في الرأي العام الإسرائيلي، ولم تنجح الحكومات والجامعة العربية في إيصال رسالة سلام واضحة للمجتمع الإسرائيلي تدحض ادعاءات اليمين الباطلة، وتبين أن العرب طلاب سلام. وفوتوا فرصة تذكير الشعب الإسرائيلي بان مشروع ولي العهد السعودي الأمير عبد الله الذي أقرته قمة بيروت العام الماضي لا يزال على الطاولة، ويعرض على إسرائيل السلام والعلاقات الطبيعية مقابل الانسحاب إلى حدود عام 1967. وحتى اللحظة يتردد جميع الرؤساء والملوك العرب في استقبال ميتسناع، والتفسير الوحيد لهذا التردد يكمن في قناعتهم بفوز شارون وحرصهم على تجنب إغضابه. وكأن استرضاء شارون قبل فتح صناديق الاقتراع يجنبهم المصائب والكوارث التي يخبأها لهم.
وبجانب هذا القصور الفلسطيني والعربي الرسمي لم يفلح العرب في إسرائيل في توحيد صفوفهم وبدلا من اختزال عدد قوائمهم الانتخابية زادت من ثلاثة إلى أربعة، وهذه الزيادة قد تقلص عدد ممثليهم في الكنيست في أعز الأوقات، وعندما أصبحت قيمة كل مقعد كنيست كبيرة.
بعد عرض هذه الحقائق المرة، بديهي القول إن فوز شارون في هذه الانتخابات شبه مؤكد، وأن مرحلة ما بعد الانتخابات الإسرائيلية سوف تكون أشد قتامة في حياة أهل المنطقة من الفترة القاسية التي سبقتها، سواء ظل ميتسناع على رأس حزب العمل أو غاب عن مسرح الحياة السياسية وشارك الحزب في حكومة وحدة وطنية بزعامة شارون. وإذا كان فوز القوى العلمانية وأنصار السلام في الانتخابات الإسرائيلية مستبعدا، كما تبين استطلاعات الرأي، فإن التزام حزب العمل، بعد الانتخابات، بمقولة ميتسناع “لا للمشاركة في حكومة يتزعمها شارون” يديم فترة المخاض الصعب الذي يمر فيه المجتمع الإسرائيلي، ويقود إلى تشكيل حكومة يمينية أشد تطرفا من الحكومات السابقة. ولا جدال في أن الحرب على العراق سوف تزيد في عذاب شعوب المنطقة وخصوصا الشعبين العراقي والفلسطيني، وتفجر صراعات جديدة يصعب تقدير نتائجها.
في كل الأحوال لن يتوانى العجوز شارون في فترة حكمه الثانية عن تنفيذ قناعاته العنصرية المتطرفة وتحقيق ما لم يحققه في الفترة الأولى. وسوف يحاول إنجاز احلامه كاملة وبسرعة قبل ذهابه للتقاعد في مزرعة مع مزروعاته وحيواناته التي يكن لها احتراما يفوق احترامه للإنسان العربي. ويعتقد شارون أن حال الضعف والهوان التي يمر بها العرب يوفر له فرصة تاريخية للخلاص من عرفات وتدمير بقايا السلطة الفلسطينية. والإجهاز على حلم الفلسطينيين في دولة، وحل معضلة أمن إسرائيل الإستراتيجية الديمغرافية والعسكرية، عبر مواصلة الاستيطان على حساب الأرض الفلسطينية. وفي معرض رده على سؤال حول المستقبل، قال شارون في محفل انتخابي مغلق: “أفكر في جلب نصف مليون مهاجر يهودي خلال 3 ـ 4 سنوات أخلق بهم واقعا جديدا في يهودا والسامرة. وتفاخر بالوقائع التي صنعها على الأرض وفي حقل السياسة الدولية خلال عامين من حكمه. وعند سؤاله عن مصير الفلسطينيين قال بعضهم يبقى في بيته والآخرون تستوعبهم بلاد العرب الواسعة ولاحقا تتغير مواقفهم ومطالبهم، ويخلق الله ما لا تعلمون”.
وبغض النظر عن قدرة شارون على تحقيق بعض أو كل أحلامه العنصرية، فإن مجرد وجوده مجددا في رئاسة الوزراء يفرض على العرب وبخاصة الفلسطينيين رفع يقظتهم وعدم التلكؤ في تحضير أوضاعهم لمواجهة أسوء الاحتمالات. ولعل التمسك بخريطة الطريق واللجنة الرباعية الدولية وتشجيع المشروع الكندي الداعي إلى إرسال قوات دولية يساعد في تقليص الخسائر في بقية حقبة شارون. ويخطئ من يراهن على تدخل بوش، بعد ضرب العراق، للحد من طموحات شارون.