ليس من حق أنصار العمليات الانتحارية توريط الاخرين فيما يجب تفاديه

بقلم ممدوح نوفل في 07/01/2003

قبل العملية “الانتحارية” المزدوجة التي نفذتها “كتائب الأقصى” التابعة لحركة فتح في قلب تل أبيب يوم 6/1/2003 ، كان الحديث بين الفلسطينيين يدور حول نوع وشكل الضربات العسكرية التي يبيتها شارون لهم على أبواب انتخابات الكنيست الجديدة المقررة في 28 كانون “يناير” الجاري، أو خلال الحرب الأمريكية البريطانية الواقعة على العراق سواء حصل بوش وبلير أم لم يحصلا على دليل. وكان أطراف النظام السياسي الفلسطيني، بمختلف اتجاهاتهم الفكرية والسياسية، على قناعة أن المجتمع الإسرائيلي ظل بعد عامين من عمر “الانتفاضة والمقاومة”، ومن القتل المتبادل، يميل نحو التطرف. وان شارون وأركانه، مدنيين وعسكريين، مصممون على كسب هذه الانتخابات على حساب آلام الفلسطينيين وعذابهم، وعازمون على تصعيد أعمال القتل والاعتقال والإغلاق ونسف البيوت وتدمير الممتلكات، بأمل اشباع غليل جمهور المتطرفين وكسب أصواتهم الانتخابية.
ورغم عدم ارتياح الشارع الفلسطيني إلى عدم قدرة القوى الوطنية والإسلامية، على حل خلافاتها السياسية والتنظيمية والعقائدية دون تدخل الأشقاء، إلا أنهم تمنوا نجاح جهود القيادة المصرية في مساعدة السلطة والمعارضة على توحيد الصفوف وتجاوز الخلافات، والاتفاق على برنامج نضالي يصون الحقوق الوطنية، وبلورة رؤية واقعية تقلص الخسائر البشرية والاقتصادية التي يلحقها الاحتلال يوميا بالجميع. ويتمنى الناس في الضفة وقطاع غزة أن تكون الحركة المصرية على الجبهة الداخلية الفلسطينية منطلقا لحركة مصرية عربية نشيطة وفعّالة في حقل السياسة الدولية؛ تخفف قلقهم من المستقبل، وتقلص في معانتهم وترفع الظلم عنهم، وتشعرهم بعودة الروح لتضامن العرب معهم، وترغم شارون وأركانه على وقف أعمال القتل والاعتقال والتدمير التي يقوم بها جيشه منذ شهور دون رادع عربي أو دولي.
وبدلا عن المساهمة في توفير المناخ السياسي الملائم لمتابعة حوار القاهرة وإنجاحه واستثمار الجهود المصرية في تحقيق الأمل الشعبي، أبى أنصار هذا النمط من العمليات القتالية في “كتائب شهداء الأقصى” إلا أن يبددوا آمال الناس بنجاح الجهود المصرية. وعوض مراجعة الذات واستخلاص العبر المفيدة من التجربة ومما يحصل للشعب الفلسطيني بعد كل عملية “انتحارية” قرر بعضهم فرض موقفه على الجميع. وزادت عمليتهم المزدوجة في تل أبيب في قلق الناس في الضفة والقطاع حول المصير، وعمقوا قناعتهم بان القوى الوطنية والإسلامية “سلطة ومعارضة، تغلب مصالحها الحزبية الضيقة على المصلحة العامة، وتحرث في حقل لا يمت بصلة لهموم الناس اليومية.
وبصرف النظر عن نوايا أنصار العمليات الانتحارية في تنفيذ عمليتهم في قلب تل أبيب، في هذا الوقت بالذات، فان هذه العملية ألحقت أضرار بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني أكبر وأوسع من عمليات كثيرة سبقتها. وظهر من خطط لها ومول تنفيذها، وكأنهم أرادوها حاجزا اعتراضيا في طريق الحوار والجهود المصرية، ولم يأبهوا بنتائجها السلبية على العلاقات المصرية الفلسطينية. ويسجل لهم النجاح بامتياز.. في خلط الأوراق واختاروا التوقيت الملائم لإرباك انعقاد الجولة الثانية من حوار القاهرة، وإفشال المساعي العربية والأوروبية المبذولة لإنجاحها. ونجحوا بجدارة في إظهار ضعف السلطة وضعف انضباط كوادر حزب السلطة”فتح” وتصدع وحدته الداخلية.
إلى ذلك، اظهر تهليل أركان حركتي حماس والجهاد الإسلامي في الفضائيات العربية بالعملية وبمقتل خمسة عشر مدنيا إسرائيليا وسبعة عمال أجانب، أن المشاركين الأساسيين في حوار القاهرة “حماس والجهاد وفتح” ليسوا معنيين بنجاحه، وتصرفوا وكأن شيئا لم يحصل في جولة الحوار الأولى. ولا أضيف جديدا إذا قلت أن هدف الحركة المصرية، كان ولا يزال، إقناع القوى الفلسطينية “أنصار العمليات الانتحارية” ضد المدنيين الإسرائيليين، بوقف أو تجميد عملياتهم فترة معقولة. وان اللواء عمر سليمان مدير المخابرات المصرية قال لقادة قوى الفلسطينية الذين التقى بهم في القاهرة الشهر الماضي: “العمليات الانتحارية في مرحلة الانتخابات الإسرائيلية ومرحلة التحضير لضرب العراق تلحق أضرارا واسعة بالأمن المصري والأمن القومي العربي، بجانب الأضرار الكبيرة التي تلحقها يوميا بالفلسطينيين شعبا وسلطة ومعارضة”. ونصح سليمان ممثلي الفصائل الفلسطينية إدراك حجم المخاطر الكبيرة التي تحيط بشعبهم في هذه المرحلة، وبضرورة التخلص بكل السبل من تهمة الإرهاب التي لحقت بالحركة الفلسطينية. ونبههم إلى الأبعاد المأساوية التي قد تلحق بهم وبقضيتهم في حال وقوع الحرب على العراق وهم متلبسون هذه التهمة الخطيرة.
لا خلاف مع كتائب شهداء الأقصى وحماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية حول عدالة الموقف الفلسطيني وشرعية مقاومة الاحتلال، لكن الخلاف الجوهري معهم يكمن حول تقدير الممكن تحقيقه من الأهداف الوطنية في هذه المرحلة من الصراع، وحول الوسائل والأساليب الأنجع لتحقيقها. وتؤكد الخبرة التاريخية للشعوب وضمنها تجربة الشعب الفلسطيني، أن هناك دائما وسائل فعّالة ومجدية في مقاومة الاحتلال، وأخرى فعالة لكنها ضارة وتتسبب في إلحاق الهزيمة بالأهداف وبالمناضلين من أجلها، وهذه الأساليب يجب تفاديها حتى لو كانت عادلة ومشروعة. وهناك نوع ثالث يحرمه القانون والمبادئ الأخلاقية وهذا أيضا يجب تفاديه كليا. وليس من حق أحد أن يورط الآخرين فيما يجب تفاديه، خصوصا إذا كان ثمن التوريط دما ودمارا وحصارا.
وأيا تكن دوافع مخططي عملية “تل أبيب” المزدوجة، فهذه العملية تندرج في خانة العمليات الضارة التي يحرمها القانون والمبادئ الأخلاقية. ولا يمكن لقادة وكوادر “كتائب شهداء الأقصى” إنكار أن عمليتهم شوهت صورة النضال الفلسطيني العادل والمشروع وأضعفت الموقف الفلسطيني الرسمي في الحقلين العربي والدولي، ولم يقدروا أبعاد تكريس اتهام حزب السلطة “فتح” بالإرهاب في مرحلة الحرب الشاملة المتواصلة ضد الإرهاب والإرهابيين منذ 11 أيلول “سبتمبر” 2000. ووفروا لشارون ذريعة لتفريغ حقده ضد الفلسطينيين وتصعيد أعمال التدمير القتل والإغلاق والحصار والاعتقال التي يمارسها ضدهم منذ توليه الحكم في إسرائيل.
إلى ذلك، لا يستطيع أنصار العمليات الانتحارية بمختلف انتماءاتهم الحزبية إثبات براءتهم من تهمة إضعاف تيار السلام في إسرائيل، وتعزيز التطرف في المجتمع الإسرائيلي، وحرف نظر الإسرائيليين عن مشاكل حزب ليكود الداخلية وفضائح شارون وأولاده المالية. والمساهمة في دفع الإسرائيليين المترددين لحسم مواقفهم لصالح قوى اليمين المتطرف التي تنادي بالموت للعرب وترحيل الفلسطينيين، ومنح أصواتهم للكتلة اليمينية التي يترأسها شارون، وتبني برنامجه الانتخابي القائم على الحل العسكري وإلحاق هزيمة ساحقة بالفلسطينيين قبل العودة لطاولة المفاوضات.
صحيح أن تواصل العمليات الانتحارية في قلب المدن الإسرائيلية يؤكد فشل نظرية الأمن التي يعتمدها شارون في إخماد نهج “الانتفاضة والمقاومة”، وان هذا النهج ألحق خسائر كبيرة بالاقتصاد الإسرائيلي، لكن الصحيح أيضا أن هذا الفشل وتلك الخسائر يزيد في حالة القلق والخوف في المجتمع الإسرائيلي، ويدفع قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي نحو التطرف وليس الاعتدال. تماما كما يحصل في المجتمع الفلسطيني بعد عمليات الاغتيال والاقتحام ونسف البيوت والإذلال التي يقوم بها جيش الاحتلال والمستوطنون في الضفة والقطاع.
لا جدال أيضا في أن لدى شارون وأركانه مشروعا قديما، كما يقول الفلسطينيون أنصار العمليات الانتحارية، يقوم على قتل وتهجير أكبر قدر من الفلسطينيين، وضم مساحات واسعة من الأراضي، وتدمير السلطة وفرض قيادة بديلة، وتدمير عملية السلام وشطب الاتفاقات التي تم التوصل إليها منذ العام 1993، وتحطيم مقومات قيام دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيل…الخ لكن الصحيح أيضا أن نهج العمليات “الانتحارية” ضد المدنيين الإسرائيليين وسقوط قتلى من جنسيات أخرى يسهل على شارون إخفاء أهدافه ونواياه الحقيقية، ويخلط الصورة أمام الرأي العام العالمي ويحول القاتل المجرم إلى ضحية. ويظهر إسرائيل في مرآة السياسة الدولية أحد ضحايا “الإرهاب” الفلسطيني.
لا شك في أن التباين حول المواقف من العمليات الانتحارية مسألة طبيعية، مثله مثل الخلاف حول المشاركة في عملية السلام ومسائل فكرية وسياسية أخرى كبيرة كثيرة، لكن الأعراف الديمقراطية ومبدأ الحرص على الوحدة الوطنية يحرمان أي طرف حسم قضايا الخلاف بفرض رأيه بالأمر الواقع على الآخرين وتنفيذ ما يحلو له حتى لو أدى إلى كوارث وخرب العلاقات الفلسطينية العربية. وإذا كانت السلطة فقدت القدرة على فرض القانون وتوجيه التوجه الوطني المركزي، فالارتقاء بالإحساس بالمسئولية هو الذي يجب أن يملأ الفراغ وليس الاندفاع نحو نشر الفوضى السياسية والاجتماعية.
أعتقد أن عملية تل أبيب خاطئة في زمانها ومكانها وهدفها، وحق الشعب الفلسطيني مطالبة كوادر كتائب شهداء الأقصى ومن شاركهم المسئولية، الاعتراف بهذا الخطأ الجسيم والاعتذار عنه، تماما كما اعتذرت قيادة فتح في قطاع غزة عن مسيرة المسلحين والملثمين التي ظهرت في شوارع مدينة غزة في ذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية مطلع العام الجديد. وفي جميع الحالات يجب أن تبقى المصالح الفلسطينية العليا فوق كل الاعتبارات الأخرى. وتجسيده في الظرف الراهن يفرض على القوى الوطنية والإسلامية استئناف الحوار برعاية مصرية أو بدونها، وعدم إطالة النقاش والتوصل إلى اتفاق يؤكد التزام الجميع بوقف العمليات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين. وأظن أن الجميع يدرك أن هذا الاتفاق يفقد معظم قيمته إذا تأخر عن موعد الانتخابات الإسرائيلية. ولن تلفت انتباه أحد بعد بدء الحرب على العراق.