رياح الانتخابات الاسرائيلية تجمد الحركة حسب خريطة الطريق

بقلم ممدوح نوفل في 12/11/2002

بعد صراع مع الذات ومع الآخرين شكل ياسر عرفات حكومة السلطة الفلسطينية، ونالت ثقة المجلس التشريعي بعد أن قررت بالإجماع اللجنة المركزية لحركة فتح دعمها. والتزم “العرفاتيون” و”الفتحاويون” في التشريعي بقرار القيادة وصوتوا لصالحها، وجمدوا ملاحظاتهم على تركيبة الحكومة وبرنامجها. ولعب الموقف الأمريكي والإسرائيلي السلبي من عرفات ومحاولة شارون تعطيل اجتماع المجلس التشريعي، ومنع13عضو من أعضائه من وصول مقر المجلس في رام الله، دورا حاسما في دفع عدد من أعضاء المجلس إلى تبديل موقفهم. ومنحوا ثقتهم للحكومة الجديدة بهدف المحافظة على النظام السياسي الفلسطيني الرسمي من الانهيار، وتعزيز مكانة عرفات في مواجهة محاولات إضعافه والإطاحة به. وطي مسألة تشكيل الحكومة بعد أن أشغلت الحركة الوطنية الفلسطينية شهور طويلة على حساب مواجهة الاحتلال وتعزيز الصمود في وجهه وتوفير لقمة العيش للناس.
وكان المجلس التشريعي وضع، في إطار “خطة الإصلاح والتطوير” التي رفعها للرئيس عرفات في 16أيار/مايو الماضي، جملة معايير لتشكيل الحكومة الجديدة، بعضها أخذ به والتزم بالعدد المقرر وعين 19 وزيرا فقط، وقفز عن بقية المعايير ولم يوضح موقفه للناس.
وبصرف النظر عن دوافع وأسباب تمسك أبوعمار بالأسس القديمة، وتراجع أعضاء التشريعي عن موقفهم، فالتدقيق في تشكيلة الحكومة الجديدة والإمكانيات المتوفرة، وفي ظروف عملها في الفترة اللاحقة، يشير إلى أنها انتقالية يتعذر عليها الخروج من المأزق المعقد الذي تعيشه. وإنها لا تملك المقومات اللازمة لتعزيز صمود الناس في وجه الاحتلال وتكريس نفسها سلطة فاعلة على الأرض، حتى لو تم تشكيلها حسب المواصفات التي يطالب بها المجلس التشريعي. وأظن أن الحكومة الجديدة لن تنجح في تحقيق ما عجزت الحكومة السابقة عن تحقيقه، من دون دعم مادي ومعنوي عربي ودولي كبيرين، وهذا الدعم يصعب توفيره بعد أن أخذت الإدارة الأمريكية موقفا سلبيا من الحكومة الجديدة، واعتبر الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض تشكيلها “لا يلبي متطلبات الإصلاح الداخلي المطلوب”.
ولا خلاف بين أطراف النظام السياسي الفلسطيني”سلطة ومعارضة” أن عواصف سياسية وعسكرية شديدة، بدأت تتحرك نحو المنطقة تصلها في فصل الشتاء، وتحمل معها استحقاقات كثيرة كبيرة. وهذه العواصف واستحقاقاتها تحول دون قدرة السلطة على تنفيذ برنامجها وإصلاح وضع المؤسسات المدنية والأمنية، وإحداث التغيير النوعي المطلوب في حياة الفلسطينيين وتوفير الأمن لهم. وتعيق إنجاز الإصلاحات الداخلية المطلوبة فلسطينيا، أو تلك التي يطالب بها شارون وإدارة الرئيس بوش وتبنتها اللجنة الرباعية الدولية ـ الولايات المتحدة الأمانة العامة للأمم المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي ـ ووضعتها أول بند في “خريطة الطريق”.
أول هذه الاستحقاقات، يأتي من بقاء أفق التسوية السياسية للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي مسدودا، ومن استمرار الصدام الدموي القائم على الأرض على حاله طالما ظل اليمين الإسرائيلي ممسكا بزمام الحكم في إسرائيل. وإذا كان احتدام النزاع الحزبي والسياسي بين أطراف النظام السياسي في إسرائيل عجل في فرط عقد حكومة الوحدة الوطنية واختار حزب العمل التوجه إلى انتخابات مبكرة، فإن من الخطأ الاعتقاد أن هذا التوجه يفتح نافذة أمام السلطة الفلسطينية للخروج من المأزق. خاصة أن نتائج الانتخابات الإسرائيلية محسومة سلفا لصالح قوى اليمين المتطرف كما تشير استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي، سواء تمت بصورة مبكرة في الشتاء أو الربيع القادمين أو جرت في موعدها الطبيعي أواخر العام القادم 2003. والكل يعرف أن شارون لا يختلف عن نتنياهو، وكلاهما مصمم على حسم النزاع مع الفلسطينيين ووقف “الانتفاضة” بالقوة، وتعطيل دور المؤسسات الفلسطينية التنفيذية والتشريعية واستكمال تدمير بقايا المؤسسة الأمنية، وشل قدرة السلطة الفلسطينية الجديدة على الحركة ومنعها من تنفيذ برنامجها الذي طرحه عرفات على المجلس التشريعي، بصرف النظر عن محتواه.
والاستحقاق الثاني الذي تواجهه السلطة الفلسطينية الجديدة هو”خريطة الطريق” الأمريكية والمطالب التعجيزية التي تفرضها على الفلسطينيين؛ إنهاء الانتفاضة ووقف العمل العسكري وجميع أعمال العنف ضد الإسرائيليين في أي مكان، وضمنهم طبعا المستوطنين، ووقف التحريض ضد إسرائيل. تغيير نظامهم السياسي تغيرا جوهريا، بدءا من تعديل الدستور وإصلاح القوانين، مرورا بإنشاء منصب رئيس وزراء وتعيين حكومة فلسطينية جديدة غير التي شكلوها قبل أيام، وانتهاء بالتحضير لانتخابات تشريعية فقط وإلغاء انتخاب رئيس السلطة أو الدولة بصورة حرة مباشرة وتفويض المجلس التشريعي بهذه المسألة.
وإذا كانت القيادة الفلسطينية الرسمية لم تعلن حتى الآن موقفها من “خريطة الطريق”، ولم تعلن لاعتبارات تكتيكية تأجيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقررة مطلع العام الجديد “2003”، فالناس في الضفة وقطاع غزة يدركون أن هذه “الخريطة” تطالب السلطة في شهرين بتنفيذ ما لا طاقة لها عليه. وهم على يقين أن الانتخابات الفلسطينية لن تجري في عهد اليمين الإسرائيلي، وأن حكومة يرأسها شارون أو نتنياهو لن توافق على انتخابات رئاسية يشارك فيها عرفات، ولا انتخابات تشريعية يشارك فيها أهل القدس رغم أنهم شاركوا في انتخابات عام 1996.
وأظن أن تفكك حكومة الوحدة الوطنية وذهاب الإسرائيليين إلى صناديق الاقتراع يكرس هذا الاستخلاص، ويعجل في التحاق “خريطة الطريق” الأمريكية بخطط “تنيت” و”ميتشيل” و”زيني” التي طواها النسيان. ويجمد عمل اللجنة الرباعية الدولية الخاصة بحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي بانتظار نتائج الانتخابات الإسرائيلية. والمؤكد أن أعضاء هذه اللجنة لن ينسوا الضغط على القيادة الفلسطينية لطي مشروع الانتخابات الفلسطينية قبل انصرافهم في إجازتهم الطويلة.
ويتجسد الاستحقاق الثالث الكبير الذي يواجه الفلسطينيين، شعبا وسلطة ومعارضة، في الحرب القادمة على العراق ونتائجها المحتملة على القضية الفلسطينية وعموم المنطقة العربية. وبصرف النظر عن المناوشات والمناورات السياسية الجارية في أروقة الأمم المتحدة فالواضح أن الرئيس بوش ورئيس الوزراء البريطاني طوني بلير مصممان على شن الحرب. وإذا كان الرابح الأول في هذه الحرب هو إدارة الرئيس بوش وحكومة طوني بلير، فالرابح الثاني هو إسرائيل، والخاسر الأول فيها هو الشعب العراقي، وسيكون الشعب الفلسطيني الخاسر الثاني بالتأكيد.
لقد حصد الفلسطينيون وشعوب عربية أخرى في “عاصفة الصحراء” عام 1991مآسي كبيرة وذاقوا ويلات متنوعة، وأظن أن خسائر الفلسطينيين في الحرب الجديدة سوف تكون أكبر. خصوصا أن هذه الحرب، إذا وقعت، قد تكون طويلة، وتفاعلاتها الأمنية والسياسية والاقتصادية عميقة وواسعة تطال إقليم الشرق الأوسط كله. وإذا كان يتعذر الآن تقدير نتائج هذه الحرب على المنطقة وأنظمتها السياسية، فالمؤكد أنها تكفي لإشغال بوش وبلير والأمم المتحدة وجميع الزعماء العرب عن حل القضية الفلسطينية سنوات طويلة. وقد يجد فيها شارون فرصة مواتية لتصفية حساباته القديمة والجديدة مع الفلسطينيين
ربما تكون هذه التطورات المرئية والمحتملة واستحقاقاتها الكبيرة، أخطر ما واجهه الشعب الفلسطيني منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1964، وتعرض إنجازات مرحلتين من النضال الوطني ـ الكفاح المسلح والمفاوضات السلمية ـ للتبديد والضياع. خاصة إذا لم تحسن قوى النظام السياسي الفلسطيني في السلطة والمعارضة، قراءتها بصورة جيدة ولم تحسن التعاطي معها ولم تتصرف بمسئولية وطنية عالية، ووضعت نفسها والشعب الفلسطيني في مواجهة العواصف. وإذا كان لا مجال في هذا المقال للإجابة على السؤال؛ هل وصول حال الفلسطينيين إلى مرحلة الخطر الشديد كان قدرا لا مفر منه ؟ فإن تجنيب الشعب الفلسطيني مزيدا من الخسائر في الشهور القادمة تقضي أن تبادر النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية مراجعة جريئة لمرحلة المفاوضات في عهد كلينتون ـ باراك، وفي أساليب النضال التي هيمنت على فعل “الانتفاضة”.
أعتقد أن مهمة الفلسطينيين والعرب الرئيسية في عهد بوش ـ شارون أو نتنياهو، تقليص خسائرهم إلى أدنى مستوى. وإن مواجهة الأحداث والتطورات المرئية والمحتملة، مسئولية عربية جماعية، وفي إطارها تقع على عاتق الفلسطينيين مسئولية خاصة. خصوصا أن وجهة النظام الرسمي العربي تغليب المصالح القطرية على المصالح القومية المشتركة، واختار الزعماء العرب أسلوب الهروب إلى الأمام ودفن الرأس في الرمل.
ويخطئ الفلسطينيون، سلطة ومعارضة، إذا اعتقدوا أن بامكانهم تحقيق مكاسب تذكر في هذه المرحلة ويمكنهم مواجهة استحقاقاتها بالأسلوب القديم نفسه. والتجربة أكدت أن تمسك السلطة بالثوابت الوطنية والحقوق يبقى شعارا تعبويا مجردا، إذا لم يترجم في خطة سياسية قادرة على شق طريقها إلى الرأي العام العالمي وفي الشارع الإسرائيلي. وأن مواصلة القوى الوطنية والإسلامية “قيادة الانتفاضة” دعوة الشعب الفلسطيني للصمود في مواجهة الاحتلال ومواصلة التصدي له، لا يسد رمق الجائعين في الضفة وقطاع غزة.
ومع التقدير الكبير لكل من يضحي من أجل الوطن، فإن وقائع الحياة في العامين الماضيين أكدت أن العمليات “الانتحارية” ضد المدنيين الإسرائيليين في إسرائيل تزيد في الخسائر البشرية والاقتصادية الفلسطينية، وتعرقل تسويق التوجهات الفلسطينية الواقعية في حقل السياسية الدولية وفي الشارع الإسرائيلي وتسهل وصم النضال الفلسطيني العادل بالإرهاب. ويفترض أن لا يكون خلاف على أن أي عملية “انتحارية” في مرحلة تفرد المتطرفين الإسرائيليين العنصريين بالسلطة وفترة التحضير للانتخابات تخدم شارون وتوفر له فرصة إبراز عضلاته العسكرية ضد الفلسطينيين وكسب مزيد من الأصوات في الانتخابات.
وفي جميع الأحوال تفرض التطورات المرتقبة واستحقاقاتها الكبيرة إحياء دور منظمة التحرير الفلسطينية، وتفعيل مؤسساتها ـ لجنة تنفيذية ومجلس وطني ومجلس مركزي. خصوصا أن هذه التطورات تطال الفلسطينيين في الشتات، والتجربة العملية بينت أن السلطة الفلسطينية في الضفة والقطاع لا يمكنها أن تكون إطارا يمثل الشعب الفلسطيني في كل مكان. وليس بمقدورها سد الفراغ الكبير الذي يخلقه غياب مؤسسات منظمة التحرير حتى لو كانت الحكومة كاملة الأوصاف.