قراءة واقعية في حال الانتفاضة وآفاقها

بقلم ممدوح نوفل في 15/10/2002

اعتاد كثير من الكتاب والمحللين السياسيين الفلسطينيين والعرب نعت الأحداث والتطورات الكبيرة التي تشهدها المنطقة، بين فترة وأخرى، بالمرحلة الجديدة، ويصفوها دائما صعبة وخطرة وحرجة ومعقدة وحاسمة..الخ من النعوت الشمولية القاطعة. وإذا كان تشخيصهم تضمن في بعض الأحيان أشكال المبالغة والتضخيم، فهذه الأوصاف والنعوت تنطبق على المرحلة الجديدة التي دخلها الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي بعد؛ فشل جهود دولية وإقليمية واسعة بذلت في 10سنوات في معالجة هذا الصراع. ووصول الفلسطينيين والإسرائيليين إلى نهاية طريق السلام “الانتقالي” التي شقها “اتفاق أوسلو” عام 1993، وفشلهم في التقدم على درب الحل النهائي الذي رسموا ملامحه في أوسلو وما تلاه من اتفاقات ومفاوضات سرية وعلنية مضنية جرت في عواصم ومنتجعات كثيرة ـ كامب ديفيد طابا شرم الشيخ القدس استكهولم واشنطون باريس والقاهرة..الخ. وأيضا بعد انفجار أزمة عملية السلام التي رافقتها طيلة حياتها، في هيئة “انتفاضة ومقاومة مسلحة” في الجانب الفلسطيني في أيلول/ سبتمبر 2000، وانتقال أغلبية المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف وانحيازه لمواقف اليمين وانتخاب شارون رئيسا للوزراء في شباط/فبراير 2001.
وتجمع القوى الإقليمية والدولية المعنية باستقرار أوضاع الشرق الأوسط على أن “الانتفاضة” مثلت منعطفا نوعيا حادا ظهر في طريق السلام الذي اعتمده الإسرائيليون والفلسطينيون في مؤتمر مدريد قبل أكثر من عشر سنوات. بعض القوى فوجئ بهذا المنعطف النوعي وآخرون توقعوه والجميع يتعامل معه باعتباره محطة مفصلية في سيرة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مثل سائر الأحداث الكبرى التي شهدتها المنطقة في النصف الثاني من القرن الماضي بدءا من حرب 1967وانتهاء باتفاق اوسلو عام 1993، واغتيال رابين على يد متطرف إسرائيلي عام 1995.
وبصرف النظر عن رأي أطراف النظام السياسي في إسرائيل، يسارية ويمينية، في “انتفاضة” “القدس والاستقلال” وتقييم أركان الإدارة الأمريكية القديمة والجديدة لها، فالبحاثة الاجتماعيون والمحللون السياسيون الموضوعيون صنفوها مقاومة جماعية للاحتلال من ناس عاشوا تحت حكمه أكثر من ثلث قرن، ولم يعودوا قادرين على تحمل ممارساته الاستعمارية العنصرية فترة أطول.
و”الانتفاضة” في نظر “أهلها” بمختلف انتماءاتهم الفكرية والتنظيمية حركة مشروعة، رغم نواقصها وثغراتها، هدفها انتزاع الحرية التي سلبها المحتل منهم ونيل الاستقلال وفق مبادئ الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة التي تعطي الشعوب المحتلة حق مقاومة المحتل بجميع الوسائل المتاحة. ورغم خضوع الفلسطينيون بشرا وارض وشجر وممتلكات، لكل أشكال القمع والتنكيل والعقوبات الجماعية على امتداد عامين من عمر “الانتفاضة”، لا يزال معظمهم؛ فقراء وأغنياء، عمال وأرباب عمل، حزبيين ومستقلين، مقتنعين بان عملية السلام لم تحقق لهم أهدافهم التي توخوها منها، وأن “الانتفاضة والمقاومة المسلحة” باتت خيارهم الوحيد لانتزاع حريتهم واستقلالهم وطرد الاحتلال من أرضهم التي احتلها عام 1967وإقامة دولتهم المستقلة في الضفة وقطاع غزة.
وأظن أن “لجنة ميتشيل” الدولية أصابت الحقيقة في تحديد أسباب انفجار “الانتفاضة” وتطور الصراع وتدهور علاقة الطرفين عندما قالت؛ “يبدو أن بعض الإسرائيليين والفلسطينيين لا يتفهمون بشكل كامل مشاكل الطرف الأخر؛ بعض الإسرائيليين لا يستوعبون أبعاد الإذلال والإحباط الذي يعيشه الفلسطينيون بشكل يومي مع نتائج الاحتلال المدعوم بتواجد قوات عسكرية ومستوطنات مغروسة في وسطهم، ولا يفهمون معنى إصرار الفلسطينيين على الحصول على الاستقلال وتقرير المصير. يقابله عدم تفهم بعض الفلسطينيين مدى الخوف الذي يخلفه موقفهم وأعمالهم بين الشعب الإسرائيلي مما يضعف إيمانهم بإمكانية التعايش المشترك مع الفلسطينيين.
خصائص وميزات الانتفاضة الجديدة
والتدقيق في مسيرة “انتفاضة القدس والاستقلال” يبين أن لها خصائص كثيرة تميزها عن سواه من الأحداث الكبرى التي شهدها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في الثلث الأخير من القرن الماضي، وضمنها انتفاضة 1987 التي دامت بضع سنين وهبة النفق عام 1996 التي دامت بضع أسابيع.
ولعل أبرز هذه الميزات هي: مشاركة النظام السياسي الفلسطيني الرسمي في “الانتفاضة” الجديدة من بدايتها، وتحكمه إلى حد كبير بمسارها عبر أحزابه السياسية وإمكانياته المادية وأجهزته الأمنية وجمهوره العريض. إنها الحرب الفلسطينية الإسرائيلية الأولى التي تقع على الأرض الفلسطينية منذ عام 1948 وتقودها قيادة الشعب الفلسطيني الشرعية المنتخبة. وإذا كان تطور الصراع على الأرض في سنتين من عمر “الانتفاضة”، وبخاصة نجاح الجانب الإسرائيلي في تهشيم أوضاع “السلطة” وأضعاف قدرتها في السيطرة على الوضع في المناطق المدينية والريفية التي كانت تديرها..الخ فإن نمو قوى “المعارضة” الفلسطينية وتطور قدراتها وانتعاش أفكارها في الشارع الفلسطيني في زمن “الانتفاضة”، لم يرقى إلى مستوى تحكمها بمسيرة “الانتفاضة” وتقرير مستقبلها. ولم تستطع المعارضة ملء الفراغ الذي خلفه غياب السلطة، وظلت السلطة وقواها هي الناطق الرسمي باسم “الانتفاضة” والممثل لها في المحافل الإقليمية والدولية، وظل المواطن الفلسطيني الخاسر الأكبر من هذا الغياب وذاك الفراغ الذي نشأ عنه.
وتجلت الميزة الثانية لهذه “لانتفاضة” في تعمد الجانب الإسرائيلي منذ البداية إلى إيقاع اكبر خسائر بشرية واقتصادية وثقافية واجتماعية في الجانب الفلسطيني. ظنا منه أن رفع درجة الخسائر يرهب الجانب الفلسطيني ويجبره على التراجع وتقديم التنازلات السياسية المطلوبة. في عهد باراك كان المطلوب من القيادة الفلسطينية الموافقة على ما رفضته في مفاوضات الحل النهائي التي تمت قبل الانتفاضة في قمة كامب ديفيد في تموز/يوليو 2000، التي جمعت باراك وكلينتون وعرفات، وفي عهد شارون صار المطلوب من الفلسطينيين التخلي عن المكاسب التي حصلوا عليها عبر مشاركتهم في عملية السلام وبخاصة في اتفاق أوسلو، وتأجيل بحث قضايا الحل النهائي “القدس واللاجئين والحدود والاستيطان والأمن والعلاقات المستقبلية والمياه”، والقبول بالخضوع لاختبار جديد وتمديد المرحلة الانتقالية عدة سنوات إضافية، وبناء حكم إداري ذاتي ناقص فوق 42% من الأرض. وظيفته الرئيسية إنجاز الخدمات الأمنية والاقتصادية اللازمة للإسرائيليين وضمنهم المستوطنين.
وتجسدت الميزة الثالثة “للانتفاضة” في تسارع وتيرة الصدامات الدامية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، واقتران الحركة الشعبية الفلسطينية السلمية بالمقاومة المسلحة منذ بدايتها في ساحة المسجد الأقصى يوم 28 أيلول /سبتمبر 2000، وقتل جنديين إسرائيليين في مخفر الشرطة في رام الله بعد أقل من أسبوعين من انطلاقتها “12/10/2000″، وتواصل إطلاق النار من مسلحين فلسطينيين على المواقع العسكرية الإسرائيلية والمستوطنات المجاورة للمدن والمخيمات الفلسطينية، قبل وبعد هذا الحادث الشنيع الذي أساء “للانتفاضة”. وتطور إطلاق النار الفردي والمحدود إلى ظاهرة “عسكرة الانتفاضة” وطغيان هذه الظاهرة على ما عداها من تحركات وفعاليات شعبية سلمية، خصوصا بعد اعتماد عددا من “القوى الوطنية والإسلامية” ـ معارضة للسلطة ومشاركة فيها ـ أسلوب العمليات “الانتحارية” ضد أهداف مدنية واقتصادية داخل إسرائيل كنهج استراتيجي ثابت.
وكان طبيعي أن تقود ظاهرة “عسكرة الانتفاضة” وتصميم الطرف الإسرائيلي على إنهاء “الانتفاضة” بقوة السلاح إلى ارتفاع نسبة الخسائر الفلسطينية، وتكبد الطرفان في عامين خسائر بشرية بلغت قرابة ألفين شهيد فلسطيني وثلاثين ألف جريح، وأكثر من 600 قتيل وخمسة آلاف جريح في الجانب الإسرائيلي. هذا بالإضافة للخسائر الجسيمة في الجانب الاقتصادي وتقدر بمليارات الدولارات عند كل طرف. وطالت في الجانب الفلسطيني جميع فئات المجتمع باستناء فئة الموظفين في أجهزة السلطة حيث ظلت خسائرهم أقل من الآخرين.
أما الميزة الرابعة لهذه “الانتفاضة” فتمثلت في عدم تفهم الشارع الإسرائيلي والدول الكبرى المقررة في السياسة الدولية لأهدافها وأشكال النضال العسكري التي اتبعها الفلسطينيون ضد المدنيين الإسرائيليين. خصوصا أنها انفجرت في عهد حكومة حزب العمل، وفي وقت كانت قوى دولية كثيرة مقتنعة أن “باراك” زعيم هذا الحزب ورئيس الحكومة أنذاك، قدم تنازلات جيوسياسية كبيرة ومهمة للفلسطينيين في محادثات كامب ديفيد وطابا. وساهم تحميل الرئيس كلينتون في حينه الجانب الفلسطيني علنا مسئولية فشل قمة كامب ديفيد في تكريس هذه القناعة. وتعززت أكثر وأكثر بعد فشل أركان السلطة الفلسطينية وطاقم المفاوضات وأنصار السلام في دحض الادعاءات الإسرائيلية والأمريكية في الساحة الدولية وفي المجتمع الإسرائيلي. ولعبت العمليات “الانتحارية” ضد المدنيين الإسرائيليين دورا رئيسيا ليس فقط في نزع الصفة الشعبية السلمية عن الانتفاضة، بل وأضعفت الصوت الفلسطيني في هذين الحقلين، وشوشت عليه وعطلت وصوله في الوقت المناسب.
وجاءت أحداث 11 أيلول/سبتمبر في واشنطن ونيويورك وزادت في الطين بلة، خصوصا عندما وصمت إدارة بوش النضال الفلسطيني بالإرهاب، وأدرجت عددا من أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية في قائمة القوى الإرهابية التي يجب ملاحقتها والتخلص منها ومن أعمالها “الارهابية”.
ثمار الانتفاضة كثيرة لكنها عرضة للتبديد والضياع
بجانب الخسائر المتنوعة الكثيرة التي تكبدها الفلسطينيون في زمن “الانتفاضة”، وبخاصة البشرية العزيزة التي لا تعوض ولا تقدر بثمن، وتدمير البنية التحتية للمجتمع الفلسطيني، والخسائر الكبيرة في مجال الاقتصاد التي يصعب تعويضها في مدى زمني قصير من دون مساعدات خارجية كبيرة وبدون تحمل الرأسماليين الفلسطينيين مسئولياتهم الوطنية..الخ حصد الفلسطينيون في زمن “الانتفاضة” ثمارا كثيرة ثمينة بعضها نضج وقطفوها وبعضه الآخر لم ينضج بعد. أول هذه الثمار الثمينة هي استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي أصابها صدع كبير في العقد الأخير من القرن العشرين. وصهرت “الانتفاضة” فئات الشعب الفلسطيني في الضفة وقطاع غزة في بوتقة النضال ضد الاحتلال باستثناء “أنصار الثنائية الفلسطينية ـ الإسرائيلية” الذين خفتت أصواتهم وتراجعت نشاطاتهم وتقلص نفوذهم السلطوي.
وزال في زمن “الانتفاضة” خطر انقسام الشعب بين داخل وخارج وتراجعت نغمة لاجئين ومواطنين، عائدين ومقيمين. وكانت هذه النغمة الانقسامية أخذت مجدها بعد اتفاق اوسلو وتشكيل السلطة الوطنية في العام1994 ودخول قيادة م ت ف إلى الأراضي الفلسطينية، وإسناد معظم الوظائف الحساسة للكوادر العائدة. وتأكد اللاجئون والنازحون في الخارج والداخل، من أن عملية السلام والاتفاقات التي انبثقت عنها لم تقف على رجليها على حسابهم كما روجت بعض قوى المعارضة الفلسطينية، العلمانية والدينية. واقتنع اللاجئون والنازحون والمبعدون أن حقوقهم ظلت محفوظة ولم تندثر ولم يفرط احد بها، وعادت قضيتهم بعد عقود من الزمن تتصدر واجهة الأحداث وصارت محورا رئيسيا في التحركات الإقليمية والدولية. وتمكن أكثر من مئة ألف منهم من العودة على الوطن بصيغ مختلفة وتحت مسميات متنوعة ـ أجهزة سلطة، تصاريح زيارة، لم شمل..الخ
إلى ذلك، أظهر الفلسطينيون في إسرائيل وحدتهم كأقلية قومية تخضع للاضطهاد والتمييز العنصري، وبرهنوا بالعمل أنهم جزءا حيويا من الجسد الفلسطيني الذي إذا اشتكى عضو منه تداعت لنجدته بقية لأعضاء. وصنعوا أنبل وأهم ظاهرة عرفها الصراع العربي ـ الإسرائيلي منذ نكبة عام 1948، وظهروا اشد تمسكا بانتمائهم القومي من أي وقت مضى رغم خضوعهم نصف قرن لحكم استعماري عنصري عمل المستحيل على تجريدهم من هذا الانتماء وطمس هويتهم الوطنية. ويدرك الاستراتيجيون الإسرائيليون أن تحرك الفلسطينيين في إسرائيل في زمن “الانتفاضة” تم على خلفية قومية بالأساس، وأن كسب أصواتهم في الانتخابات وامتصاص نقمتهم ضد الاضطهاد، يتطلب ليس فقط زوال التمييز العنصري ضدهم وتحسين أوضاعهم المعيشية، بل وأيضا حل قضية أهلهم اللاجئين حلا عادلا، وحصول إخوانهم في الضفة وقطاع غزة على حقوقهم الوطنية العادلة والمشروعة وفي مقدمتها إقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.
وأي تكن مواقف المعارضة من المشاركة في السلطة الوطنية، بشقيها التشريعي والتنفيذي، فالانتفاضة طهرت علاقة الطرفين بصورة وأخرى من شوائبها وحلت بعض عقدها المستعصية. وجسرت علاقة السلطة إلى حد كبير بقوى المعارضة بمختلف اتجاهاتها وميولها السياسية والعقائدية. وحررت قيادة م ت ف من تهمة الرضوخ للضغوط الأمريكية والخضوع للشروط الإسرائيلية والتفريط بالحقوق الوطنية التي تلبستها إبان المرحلة الانتقالية الطويلة.
وإذا كانت عادة الاعتراف بالأخطاء مفقودة في الساحة السياسية الفلسطينية، فالجميع تأكد بالملموس أن “قيود اوسلو” وجميع اتفاقات وتفاهمات السلام التي تمت في المرحلة الانتقالية لم تمنع “القيادة المتنفذه” في السلطة والمنظمة من الدخول في مواجهة مكشوفة مع القيادتين الإسرائيلية والأمريكية دفاعا عن الحقوق الوطنية.
وفي زمن “الانتفاضة” جمدت الأحزاب والحركات السياسية الدينية والعلمانية مظاهر خلافاتها وصراعاتها النافرة، واستعاد بعضها روحه الكفاحية وبرز نشاطه ضد الاحتلال وأدواته في الحقلين السياسي والاجتماعي. صحيح أن خلافات أطراف النظام السياسي الفلسطيني حول عملية السلام والاتفاقات التي انبثقت عنها لا تزال قائمة، لكن الصحيح أيضا أن “الانتفاضة” والمواجهات اليومية والتضحيات المشتركة، أزالت بعض المفاهيم غير الديمقراطية التي حالت سنوات طويلة دون توحد القوى الوطنية والإسلامية حول ما يتفق عليه في النضال ضد الاحتلال، ومواصلة الحوار حول قضايا الخلاف. ومهما كانت آراء المحليين الإسرائيليين والأجانب في قيمة الوحدة الوطنية أرى أنها تصلح قاعدة لانطلاقة جديدة في تعزيز الديمقراطية كناظم رئيسي ثابت بين السلطة والمعارضة.
إلى ذلك، في زمن “الانتفاضة” تأكد العرب، شعوبا وحكومات، خطأ بعض التقديرات التي سادت في مرحلة “الوئام والسلام” الفلسطيني الإسرائيلي التي سبقت الانتفاضة. وأكدت “الانتفاضة” للجميع أن الشعب الفلسطيني وقيادته لم يستسلموا، وأن موقفهم في مفاوضات الحل النهائي، وخصوصا بشأن قضايا الأرض والقدس واللاجئين..الخ يختلف عن موقفهم في مفاوضات المرحلة الانتقالية، ولاحظوا أن تساهل المفاوض الفلسطيني في الانتقالية قابله تشدد في النهائية.
واهتز النظام السياسي العربي بشقيه الشعبي والرسمي، لمناظر المواجهات الفلسطينية الإسرائيلية غير المتكافئة، وظهرت بداية صحوة عربية من مرحلة السبات العميق التي عاشها هذا النظام في العقد الأخير من القرن الماضي. واجتاحت المظاهرات الشعبية شوارع العواصم العربية من المحيط إلى الخليج. واستنكرت الشعوب العربية جرائم الاحتلال وتدنيس شارون ساحة المسجد الأقصى، وكانت حركتها القوية بمثابة رسالة احتجاج شديدة اللهجة على استمرار تمزق النظام الرسمي العربي، تضمنت دعوة لإحياء التضامن العربي وإغلاق جميع الطرق أمام استفراد إسرائيل والاستعمار القديم والجديد بالشعب الفلسطيني وبأي من الدول العربية. وعقدت القمة العربية ثلاث مرات في زمن “الانتفاضة” في القاهرة وعمان وبيروت، وتمسك العرب بالرؤية الفلسطينية لتسوية قضايا القدس واللاجئين والاستيطان والحدود والانسحاب إلى حدود 1967، وطالبوا بتوفير الحماية دولية للفلسطينيين. واستعادت القضية الفلسطينية عمقها القومي موقعها الطبيعي باعتبارها قضية العرب الأولى. ولام كثير من أهل الانتفاضة أنفسهم على قنوطهم سابقا من الموقف العربي.
ومع تصاعد حركة “الانتفاضة” في الضفة وقطاع غزة، شاهد العرب والعالم فاشية سلوك جيش الاحتلال والمستوطنين. وتبددت الصورة الزائفة حول انتهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي التي نجح الإعلام الإسرائيلي الأمريكي في نشرها في عواصم العالم خلال تسع سنين من المفاوضات والاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية. وأدرك غالبية شعوب العالم وجميع القوى الدولية المعنية باستقرار الشرق الأوسط أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا يزال مستمرا وانه كفيل بتفجير أوضاع المنطقة برمتها إذا لم يتم حله بصورة عادلة. وبات البعض مقتنعا أن ليس بمقدور الإسرائيليين والفلسطينيين وحدهم حل خلافاتهم الأساسية المزمنة ولا بد من حل دولي يفرض على الطرفين. وهناك أيضا من اقتنع بضرورة وجود قوات دولية تفصل بين الطرفين تمهيدا للحل.
وبجانب ذلك كله احتلت “الانتفاضة” من اليوم الأول لانطلاقها موقعا بارزا في الفكر العسكري ـ الأمني الإسرائيلي، وأحدثت هزة في النظام السياسي وغيرت خريطة تحالفاته الحزبية، وساهمت في ميل المجتمع الإسرائيلي أكثر نحو مواقف اليمين. وتقلصت الفروقات بين حزب العمل والليكود، ووجد حزب العمل في حكومة اتحاد وطني باب نجاة مؤقت. وزرعت “الانتفاضة” حالة من القلق والاضطراب في صفوف نسبة واسعة من الإسرائيليين. وألحقت “الانتفاضة” بالاقتصاد الإسرائيلي خسائر لا يستهان بها، وتضررت مصالح فئات واسعة من المجتمع الإسرائيلي. وتحطم فرع السياحة في وقت توقع ناسه ازدهارا قويا في نهاية الألفية السابقة وبداية الألفية الجديدة، وألغى مستثمرون أجانب ومحليون مشاريع استثمارية كبيرة في هذا الفرع. وأصيبت فروع البناء والصناعة والتجارة والزراعة بأضرار واسعة، نجمت عن نقص في العمالة الفلسطينية الرخيصة وتدني التصدير إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية.
وبجانب الخسائر الاقتصادية والبشرية ومقتل أكثر من 600 إسرائيلي وجرح الآلاف تقلص في عام “الانتفاضة” الأول عدد المهاجرين اليهود إلى إسرائيل. وأكدت “الانتفاضة” للعالم أن لا سلام مع الاستيطان وكشفت عن دوره في تفجير الصراع وإدامته. وزعزعت ثقة المستوطنين بمشروعهم وهبوا للدفاع عن مصالحهم. وتعززت أطروحة حزب العمل حول إخلاء أكثر من 120 مستوطنة وتجميع المستوطنين في ثلاث تجمعات رئيسية تحتل اقل من 3% من أراضي الضفة الغربية، وتأكد أغلبية الإسرائيليين أن تعايش المستوطنين مع الفلسطينيين أمرا مستحيلا. وظهر للإسرائيليين أن مجاراة مطالب المستوطنين الأمنية وتوجهاتهم التوسعية في الأرض الفلسطينية مكلف أمنيا وسياسيا وماليا ويلحق أضرارا فادحة بسمعة إسرائيل وعلاقاتها الإقليمية والدولية وبالاقتصاد الإسرائيلي.
وخلال عامين من عمرها، مست “الانتفاضة” بعض مرتكزات الأمن في إسرائيل. وإذا كان بناء أمن استراتيجي قوي للدول والحفاظ عليه يتحققان بمقدار ما تنجح الدولة في توسيع شبكة المصالح الأمنية المشتركة مع التجمعات والدول المحيطة بها وإقامة علاقات سلام ثابتة مع جيرانها..الخ فالأمن الخارجي الإسرائيلي صارا بعيدا المنال في زمن “الانتفاضة”، وتراجعت إمكانية إقامة علاقات سلام حقيقي مع الدول الإسلامية والدول العربية جيران إسرائيل. وتدهور الأمن الداخلي بمفهومة التكتيكي إلى حد كبير، وتلقى ضربة معنوية قوية بعد فشل اذرع الأمن الإسرائيلية في وقف الانتفاضة والقضاء على المقاومة المسلحة المرافقة لها. وتم تدمير أحد الأهداف المبطنة التي كان حزب العمل “وليس حزب ليكود” يرمي لتحقيقها من اتفاق أوسلو، وهي استقدام قيادة وكوادر منظمة التحرير الأمنية والعسكرية والمدنية للضفة وقطاع غزة، واستخدامهم أدوات لتوفير الأمن لإسرائيل والإسرائيليين. ولم تميز أجهزة الأمن الإسرائيلية بين نقد الناس العاديين لأداء كوادر السلطة الفلسطينية والمطالبة بتعزيز الديمقراطية وتصحيح الوضع ومحاربة الفساد..الخ وبين الإيمان بان رجال السلطة ـ مدنيون وعسكريون ـ وطنيون فلسطينيون ملتزمون قضايا شعبهم العادلة.
والواضح أن القيادة الإسرائيلية فوجئت بسرعة التحول في مواقف رجال الأمن والشرطة الفلسطينية في زمن “الانتفاضة”، وانخراطهم السريع في الدفاع عن أهلهم وعن شرف السلاح الذي حملوه. وبعد عامين من عمر “الانتفاضة” وما تخللها من مصادمات، أدرك قادة الأذرع الأمنية الإسرائيلية أن عهد اعتماد إسرائيل على أجهزة الأمن الفلسطينية في ضبط الأمن في المناطق الفلسطينية وفقا للمفهوم الإسرائيلي قد انتهى. وعهد تعامل جيش الدفاع الإسرائيلي معها باعتبارها قوات صديقة قد ولى بعد الاشتباكات التي وقعت بين الطرفين. وبات قادة الجيش الإسرائيلي يتعاملون معها باعتبارها قوات أقرب إلى المعادية، وتحولت في كثير من الأحيان إلى هدف لإطلاق النار.
لا شك في أن هذه الإنجازات وسواها كبيرة وثمينة، وأظن أن لا خلاف بين الفلسطينيين، سلطة ومعارضة وشعب، أنها غير ثابته وقابلة للزيادة والنقصان، خاصة أن المعركة لم تنتهي. وإذا كان شارون لا يستطيع رفع رايات النصر في الكنيست وفي شوارع المدن الإسرائيلية، فليس عاقلا من الفلسطينيين من يدعي بأن “الانتفاضة” انتصرت وشارون خسر الحرب، وإسرائيل على وشك الانهيار السياسي والمعنوي.
آفاق المستقبل ومهام ملحة لا تحتمل التأجيل
أكدت وقائع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في العامين الماضيين أن استخلاص المحللين الإستراتيجيين حول خيار شعوب المنطقة للسلام استخلاص غير ثابت وغير دقيق. وبينت العمليات الحربية وأنواع وأشكال الإجراءات العنصرية والعقوبات المفروضة على الفلسطينيين، أن جميع اللقاءآت والاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية المتنوعة والمفاوضات العربية الإسرائيلية، العلنية والسرية التي تمت في 10 سنوات، فشلت فشلا ذريعا في إرساء أسس ثابتة لبقاء خيار السلام خيارا وحيدا لمعالجة هذا النزاع المزمن. ولم تبني أخلاقية واضحة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولم ترسي مبادئ راسخة لعلاقة سلمية نامية ومتطورة بينهما. ولم تنجح الجهود والإمكانيات الدولية والإقليمية الهائلة التي بذلت من اجل صنع السلام، في بناء سياج متين يحمي الاتفاقات التي تم التوصل إليها ويصون بذور علاقات السلام من عدوانية القوى المتطرفة.
لا شك أن بإمكان المؤرخين للصراع العربي الإسرائيلي، دون تردد، اعتماد “الانتفاضة والمقاومة” وفوز شارون في الانتخابات حدا فاصلا بين نهاية مرحلة من العلاقات الفلسطينية العربية ـ الإسرائيلية كانت أهدافها واضحة وطريقها معروفة، وبداية مرحلة جديدة شديدة التعقيد ليس سهلا التكهن بجميع أحداثها وتقدير جميع نتائجها النهائية.
والتنبؤ الآن بآفاق هذه “الانتفاضة” مغامرة فكرية لأسباب كثيرة منها؛ أولا،عدم وضوح النتائج النهائية ـ السياسية والعسكرية والاقتصادية ـ للمعركة الجارية على أرض فلسطين التاريخية. وهذه النتائج حاسمة في جميع الحالات في رسم المستقبل الفلسطيني على مدى سنوات العقد الأول من القرن الجديد إن لم يكن ابعد من ذلك. ثانيا، تأثر أوضاع جميع دول المنطقة وشعوبها وخصوصا الفلسطينيين بأحداث11 سبتمبر/أيلول في أمريكا. وتصميم إدارة بوش على توجيه ضربة عسكرية قوية للعراق يصعب تقدير نتائجها على الصراع العربي الإسرائيلي قبل وقوعها وانقشاع غبارها، ولا أحد يعرف حدود دور إسرائيل في هذه الحرب. وثالثا، تأثر الوضع الفلسطيني بالعلاقة غير المستقرة بين أطراف النظام السياسي في إسرائيل خاصة أن الانتخابات باتت على الأبواب. وإذا كان لا أفق لحركة مجدية على طريق السلام العربي الإسرائيلي في عهد اليمين الإسرائيلي أيا تزعمه، فالأمر يختلف في حال تسلم “اليسار” زمام الحكم في إسرائيل. وإذا كان هذا الاستنتاج دقيقا يصبح العمل على فك حكومة الإتحاد الوطني وتفسيخ التحاف المعادي للسلام بين فئة قيادة حزب العمل وقيادة حزب الليكود مهمة مركزية تستحق أن يكيف الفلسطينيون نشاطاتهم السياسية والنضالية لتسهيل إنجازها. وتستحق أيضا جهدا مركزا من أنصار السلام والأطراف العربية والدولية المعنية باضعاف قوى التطرف واستقرار أوضاع المنطقة.
وبرغم ضبابية الصورة تبقى، في كل الأحوال، الذكرى الثانية لانطلاقة “انتفاضة القدس والاستقلال”، أو”انتفاضة الأقصى” كما يسميها الاتجاه الديني، محطة هامة لإجراء مراجعة مسئولة لمسيرة هذه الانتفاضة. خصوصا أن جميع القوى الوطنية والإسلامية تقر أنها تعاني منذ فترة طويلة مشاكل كثيرة كبيرة ومتنوعة تعيق تطورها وتمنعها من التقدم تجاه أهدافها.
وربما تكون “انتفاضة القدس والاستقلال” آخر معركة جماهيرية عسكرية واسعة يخوضها الفلسطينيون في المدى المرئي ضد الاحتلال. وقد تكون آخر معارك الجيل القديم المؤسس لمنظمة التحرير الفلسطينية ضد إسرائيل. وأجزم أن إنجازات “الانتفاضة” في خطر وعرضة للتبديد والضياع في العام الثالث من عمرها، إذا لم تحسن القوى الوطنية والإسلامية “قيادة الانتفاضة” قراءة المتغيرات الدولية والإقليمية ولم تحسن التعاطي معها، ولم تحاول تجنب مواجهة العواصف التي بدأت تهب على المنطقة بفعل هذه المتغيرات. وإذا لم تبادر “قيادة الانتفاضة” أيضا إلى تحديد أهداف واقعية “للانتفاضة” غير التي رفعت في المسيرات وسمعت في المظاهرات في المرحلة الأولى من عمرها. وإذا كان لا مجال في هذا المقال للحديث عن تفعيل وتطوير “الانتفاضة”، فإن معالجة الظواهر والأمراض الخطيرة التي تنخر جسمها هو المدخل السليم للتفعيل والتطوير. وبخاصة إنها ظاهرة عسكرة الانتفاضة ووقف العمليات الانتحارية التي يمكن التخلص منها بقرار. وتطوير دور “قياد\ة الانتفاضة وتحويلها إلى هيئة أركان الحركة الشعبية يلتزم الجميع بتوجهاتها المركزية.