الذكرى الثانية للانتفاضة محطة لاجراء مراجعة جريئة

بقلم ممدوح نوفل في 24/09/2002

ربما تكون”انتفاضة القدس والاستقلال” آخر معركة جماهيرية عسكرية واسعة يخوضها الفلسطينيون في المدى المرئي ضد الاحتلال، وقد تكون آخر معارك الجيل القديم المؤسس لمنظمة التحرير الفلسطينية ضد إسرائيل. وإذا كان الفاصل الزمني بين الانتفاضة الشعبية الأولى في العام 1978والحالية زاد على 12 سنة فالتنبؤ بتوقيت وقوع حدث مشابه للانتفاضتين في الشكل والمضمون، مسألة متعذرة، وقد لا يقع قبل سنوات طويلة لأسباب كثيرة منها؛ أولا، عدم وضوح النتائج النهائية ـ السياسية والعسكرية والاقتصادية ـ للمعركة الجارية. وهذه النتائج حاسمة في جميع الحالات في رسم المستقبل الفلسطيني على مدى سنوات العقد الأول من القرن الجديد ان لم يكن ابعد من ذلك. ثانيا، تأثر أوضاع جميع دول المنطقة وشعوبها وخصوصا الفلسطينيين بأحداث11 سبتمبر/أيلول في أمريكا. وتصميم إدارة بوش على توجيه ضربة عسكرية قوية للعراق يصعب تقدير نتائجها على الصراع العربي الإسرائيلي قبل وقوعها وانقشاع غبارها. وثالثا، تأثر الوضع الفلسطيني بالعلاقة غير المستقرة بين قوى النظام السياسي في إسرائيل. وإذا كان لا أفق لحركة مجدية على طريق السلام العربي الإسرائيلي في عهد اليمين الإسرائيلي أيا تزعمه، فالأمر يختلف في حال تسلم “اليسار” زمام الحكم في إسرائيل.
وبرغم ضبابية الصورة تبقى، في كل الأحوال، الذكرى الثانية لانطلاقة “انتفاضة القدس والاستقلال”، أو”انتفاضة الأقصى” كما يسميها الاتجاه الديني، محطة هامة لإجراء مراجعة مسئولة لمسيرة هذه الانتفاضة. خصوصا أن جميع القوى الوطنية والإسلامية تقر أنها تعاني منذ فترة طويلة مشاكل كثيرة كبيرة ومتنوعة تعيق تطورها وتمنعها من التقدم تجاه أهدافها.
وفي سياق المراجعة المنتجة لا تستطيع قيادة الانتفاضة في السلطة والمعارضة مواصلة الهروب من تقديم جوابا مسئولا مجردا من العواطف لعديد الأسئلة الكبيرة منها مثلا: هل ما تشهده الأرض الفلسطينية انتفاضة شعبية بالمفهوم المتعارف علية أم أنه صداما دمويا بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية؟ وهل الاستمرار في “عسكرة” الانتفاضة وتنفيذ عمليات “انتحارية” ضد المدنيين الإسرائيليين يخدم المصالح العليا للفلسطينيين؟ وإذا كان لا أحد يملك وصفة كاملة لصناعة الانتفاضات الشعبية فهل ارتكبت “قيادة الانتفاضة” أخطاء في إدارة المواجهة؟ وهل كانت “الانتفاضة” قدرا لا مفر منه ؟ وما هي آفاقها بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر في أمريكا التي تلقي بظلالها على جميع بقاع الأرض، وإذا فاز اليمين الإسرائيلي أيضا في الانتخابات القادمة؟..الخ من الأسئلة المؤلمة والصعبة التي يتداولها الناس في الضفة وقطاع غزة.
لا شك في أن جواب بعض الأسئلة ليس ملحا ويمكن تأجيله، لكن تهرب أو تأخر السلطة و”قيادة الانتفاضة” والكتاب والمثقفين الفلسطينيين في تقديم جواب على بعضها الآخر يلحق أضرارا كبيرة وواسعة بالمصالح العليا للفلسطينيين، ويفقد “القيادة” القدرة على استخلاص عبر ودروس التجربة، ومعالجة مشاكل “الانتفاضة” وتوفير مقومات تطويرها وتواصلها في العام الجديد.
شاءت الصدف أن تطل “الانتفاضة” في مطلع عامها الثالث على مشهدين فلسطينيين لهما دلالات قيمة: الأول يظهر فيه فشل حوار القوى الوطنية والإسلامية “قيادة الانتفاضة” على مدى ثلاث شهور في الاتفاق على تقييم موحد للمرحلة السابقة، وفي صياغة برنامج سياسي نضالي واقعي يعتمد قاسما مشتركا للعمل في المرحلة المقبلة، ولم تتفق هذه القوى على تشكيل قيادة وطنية موحدة للانتفاضة تكون قراراتها ملزمة للجميع دون استثناء. وزاد الألم الوطني حين ظهرت الدبابات الإسرائيلية، في المشهد ذاته، وهي تجوب شوارع المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، ونظام حظر التجول مفروض في جميع أنحاء الضفة الغربية، وقطاع غزة مقطع الأوصال ثلاث قطع وشارون يهدد باجتياحه كما اجتاح الضفة، وقطاع واسع من الناس يعاني الجوع والمرض، وبعضهم يبحث عن مأوى بعد أن دمر الاحتلال منازلهم.
وفي المشهد الثاني يظهر رئيس السلطة الفلسطينية ومعه ما يزيد على 200 كادر محاصرين في بين ركام وحطام مقر القيادة الفلسطينية “المقاطعة” في رام الله، يعانون نقصا حادا في المياه والطعام والدواء، تحيط بهم الدبابات والأسلاك الشائكة من كل الجهات. وبجانب هذه الصورة المؤلمة وطنيا، تظهر في هذا المشهد صورة كبيرة للناس يتجولون ليلا في شوارع المدن والمخيمات الفلسطينية ويخرقون نظام منع المتجول ويتحدون قوات الاحتلال المدججة بجميع أنواع الأسلحة الأمريكية الفتاكة، ويقرعون الطبول ويدقون بأدوات حادة أعمدة الكهرباء وأنواع أخرى من المعادن وضمنها الطناجر وأواني الأكل والشرب، ويصرخون بأعلى قوة حناجرهم: لا للاحتلال، لا لحرب التجويع والتجهيل، لا للإذلال لا للحصار، ونعم للحرية والاستقلال.
لا شك في أن تباين مواقف القوى الوطنية والإسلامية ـ سلطة ومعارضة ـ حول تقييم طبيعة المرحلة ومفهوم الانتفاضة ودورها في الصراع..الخ مسألة طبيعية وظاهرة صحية. ويسجل لهذه القوى أنها برغم خلافاتها العميقة نجحت في إدامة الانتفاضة بصورة وأخرى عامين كاملين. ولم تطلق التهم جزافا ولم تخون بعضها البعض، ولم تتبادل تهم الانحراف والتخاذل والاستسلام وغيرها من النعوت التي تبادلتها فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج أوقات احتدام الخلاف بينها. وأنها رغم توفر السلاح بكثرة بيد الجميع لم تدخل في صدامات دموية واشتباكات مسلحة كما حصل في مرحلة الخارج وفي الانتفاضة الأولى.
لكن هذا الثناء والمديح يتبخر أمام المشهدين المذكورين أعلاه. وعند فتح كشف حساب الخسائر والأرباح السياسية والمعنوية والاقتصادية في العامين الأخيرين تتحول صورة قيادة الانتفاضة الزاهية إلى طلاء أسود. فهذا الكشف يظهر بجلاء أن جزءا كبيرا من هذه الخسائر خصوصا البشرية الغالية والاقتصادية القيمة، ليس له ما يبرره إطلاقا.
وبصرف النظر عن تقييم “قيادة الانتفاضة” لدورها كهيئة موحدة وتنظيمات سياسية، أعتقد إن عبر ودروس عامين من عمر الانتفاضة ومعهما مشهد صمت النظام الرسمي والشارع العربي والإسلامي على مجازر إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني ومحاولة إذلاله، تفرض على السلطة والقوى الوطنية والإسلامية مراجعة مواقفها وبرامجها وخطط عملها، والاعتراف بالأخطاء الكبيرة الجسيمة التي ألحقت أضرارا بالمصالح الوطنية العليا. وخاصة عدم التفريق بين حزبي العمل والليكود والرهان على الانتفاضة والعمليات “الانتحارية” إسقاط حكومة شارون في ستة أشهر.
إلى ذلك، أعتقد أن لا خلاف بين القوى الوطنية والإسلامية ـ سلطة ومعارضة ـ على أن توجهات الإدارة الأمريكية بعد أحداث 11أيلول/ سبتمبر وخصوصا تصميم بوش وأركانه على ضرب العراق والمضي قدما في الحرب ضد قوى “الشر والإرهاب” كما حددوها، تضع المنطقة العربية على عتبة تغييرات نوعية جيوسياسية. والجميع مقتنع أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي سوف يبلغ ذروته القصوى في العام الثالث من عمر الانتفاضة ومرشح للانفجار بصورة أقوى وأوسع. وهذه الرؤية المشتركة للتطورات المحتملة توفر أرضية واسعة لدخول العام الجديد بخطة عمل موحدة؛ تتجاوز الأخطاء القاتلة، وتعزز النهضة الشعبية الفلسطينية الجديدة ولا تحبطها، وتفتح الأبواب أمام الدعم المادي والمعنوي العربي، وتستوعب المتغيرات الدولية وداخل إسرائيل.
وإذا كانت مهمات العمل المستخلصة من تجربة العامين الأوليين من عمر الانتفاضة والأخرى المشتقة من التطورات الكبيرة المحتملة، كثيرة ومتنوعة، فإن جهد القوى الوطنية والإسلامية ـ سلطة ومعارضة ـ يجب أن ينصب في العام الجديد باتجاه إنجاز ثلاثة مهام رئيسية:
الأولى/ الانسحاب فورا من ملعب العمل العسكري الذي يتقنه شارون ونجح في استدراج السلطة والقوى والوطنية والإسلامية إليه. ووقف العمليات الانتحارية وقفا شاملا وتجنيب قطاع غزة خطر الاجتياح الذي يحضر له شارون. والتخلص من جميع مظاهر عسكرة الانتفاضة، والعمل على إعادتها إلى أصولها كحركة سلمية مناهضة للاحتلال، وتعزيز النهضة الشعبية التي ظهرت في الأيام الأخيرة. وابتداع أساليب نضال جديدة قادرة على تحريك الشارع الفلسطيني واستيعاب طاقاته وتفعيل الموقف العربي وموقف الأصدقاء، وتنشيط دور قوى السلام في إسرائيل.
ثانيا/ إذا كان هجوم شارون الأخير على مقر القيادة الفلسطينية في رام الله ومحاصرة الرئيس عرفات عطل مهمة تطوير وإصلاح الوضع الداخلي، فإن تحضير الأوضاع الذاتية للمضي قدما في هذه المهمة بعد انتهاء الحصار وضمنها تعيين رئيس وزراء، ضرورة تفرضها المصلحة الوطنية.
والمهمة الثالثة، إحياء منظمة التحرير الفلسطينية، وتفعيل مؤسساتها ـ لجنة تنفيذية ومجلس وطني ومجلس مركزي. خصوصا أن التجربة بينت أن السلطة الفلسطينية في الضفة والقطاع لا يمكنها التحول إلى إطار قادر على تمثيل الشعب كله، ولا تستطيع سد الفراغ الكبير الذي يخلقه غياب مؤسسات منظمة التحرير.
وأخيرا، لعل يفيد في الذكرى الثانية للانتفاضة تذكير الجميع أن وقائع الحياة أكدت أن اعتماد القدرية في المعالجة المشاكل يضر ولا ينفع، وانتهاج سياسة إنتظارية لا يسمن ولم يغني عن جوع. وأن إحلال الرغبات الذاتية، كما يحصل الآن، بديلا عن الوقائع يعقد العلاقات الوطنية ويقود إلى حلول وهمية يلامس مظاهر الأزمة وقشورها وليس جوهرها، والشيء ذاته ينطبق على سياسة الردح والتنكيت التي يمارسها بعض السياسيين والمثقفين داخل غرف مغلقة حول حال الانتفاضة وقيادتها. وان التمترس عند المواقف الخاطئة يحول الأخطاء إلى كوارث ونكبات وطنية.