انتظار الانتخابات الفلسطينية هدر للوقت وتشتيت للطاقات

بقلم ممدوح نوفل في 07/07/2002

في لقاء مع وفد أوروبي زار رام الله مؤخرا، عرض عرفات رئيس السلطة الفلسطينية إجراءته التي اتخذها لإصلاح أوضاع السلطة وتوجهاته اللاحقة لتجديد هيكلها وبنيتها الأمنية والإدارية والمالية. وتحدث عن الانتخابات باعتبارها محطة رئيسية في عملية الإصلاح والتغيير. واستغرب أعضاء الوفد عندما طلب منهم عرفات مساعدته في إقناع صائب عريقات، وزير الحكم المحلي، بإمكانية إجراء الانتخابات التشريعية والبلدية في مطلع العام القادم. وقال عرفات؛ صائب، بحكم موقعه وزيرا للحكم المحلي، هو المعني الأول بالتحضير للانتخابات ومتابعة إعداد قوائم الناخبين وتحضير مراكز الاقتراع ودعوة المراقبين..الخ من الإجراءات، لكنه لا يعمل بحماس، ويشكك في الموقفين الإسرائيلي والأمريكي من الانتخابات.
استأذن عريقات الرئيس عرفات وشرح وجهة نظرته وخلاصتها؛ اليمين الإسرائيلي دمر مؤسسات السلطة المدنية والأمنية، وعطل عمل المؤسسة التشريعية “المجلس التشريعي” أمام سمع وبصر إدارة بوش. ودول الإتحاد الأوروبي لا تملك القدرة على التأثير في الموقف الإسرائيلي. وشارون الذي فعل ذلك بمشاركة حزب العمل، ويفعل الآن أمام الجميع ما هو اكبر وأخطر، لا يمكن أن يكون مع الانتخابات. وشكك صائب بإجراء الانتخابات في موعدها.
شخصيا أشارك صائب رأيه، وهناك فئة واسعة من المثقفين وكوادر السلطة، وأعلبية في الشارع الفلسطيني مقتنعون بهذا الرأي. والشيء الذي لم يقال في لقاء دبلوماسي مع وفد أجنبي، لا حرج في قوله في مقال ينشر على صفحات “الحياة”.
في هذا السياق، أظن أن حكومة شارون سوف تعطل إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والبلدية الفلسطينية سواء رشح عرفات نفسه أم لم يرشح، وسواء ساد الهدوء أم ظل الوضع مضطربا. والشواهد والأدلة على ذلك كثيرة، ولا تتجسد فقط في ما قامت به حكومة شارون حتى الآن ضد السلطة ومؤسساتها، بل وأيضا في موقفها المبدئي المعارض لعملية السلام وللاتفاقات التي انبثقت عنها، وبخاصة التي نصت على تشكيل السلطة الفلسطينية، بشقيها التشريعي والتنفيذي، عبر انتخابات حرة وديمقراطية. وموقفها المعادي لتكريس الديمقراطية منهجا ثابتا في حياة الفلسطينيين، ودول المنطقة باستثناء إسرائيل.
وشارون ليس ساذجا حتى يوافق على يشارك فيها سكان القدس الشرقية كما شاركوا في الانتخابات السابقة، لاسيما انه يعرف أن موافقته على ذلك يفجر أوضاع حكومته فورا.
وعندما وضع شارون إصلاح أوضاع السلطة وتغيير عرفات شرطا مسبقا لاستئناف العملية السياسية، كان هدفه تعطيل المفاوضات وليس دمقرطة أوضاع السلطة الفلسطينية. وشارون يدرك تماما أن إجراء انتخابات تشريعية يعني انبعاث قيادة سياسية تمثل الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، تملك صلاحية رفض أية اتفاقات تتعارض مع مصلحة الناخبين، وقرارها يحظى باحترام المجتمع ودولي، ويجد في الدول الديمقراطية من يدافع عنه. ويعرف شارون أن وجود مجلس تشريعي منتخب يعني تبلور مقومات قيام كيان سياسي فلسطيني موحد، وهذا يتعارض مع موقفه الأيدلوجي المعادي لتبلور شخصية موحدة للشعب الفلسطيني وتشكل كيانية فلسطينية متكاملة. وأن أي مجلس تشريعي يجري انتخابه، في عهده، لن يوافق على الحل الانتقالي أو النهائي الذي يقترحه على الفلسطينيين.
ويدرك شارون أيضا أن أية انتخابات تشريعية تجري بعد 6 أشهر، سوف تفرز مجلس تشريعي يشبه في تركيبته، بالحد الأدنى، المجلس القائم إن لم يكن أكثر تصلبا وتشددا في التعامل مع توجهاته القائمة على نهب الأرض واستيطانها وتدمير مقومات قيام دولة مستقلة
وبشان انتخابات الرئاسة، بديهي القول أن دعوة شارون لتغيير ياسر عرفات لا يعني قبوله التعامل مع “أبوعمار” في حال فوزه في انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية. وأظن أن شارون وبوش وجميع خصوم عرفات لا يستطيعون منعه من ترشيح نفسه لانتخابات رئاسية جديدة. والمؤكد أن عرفات لا ينوي التقاعد في هذه الفترة، وهو مقتنع أنه لا يزال قادرا على العطاء ويردد جملته الشهيرة؛ “من تعب منكم من النضال فليرسل لي أبناءه لاستكمل بهم المشوار”. ومصمم على خوض الانتخابات ليس فقط بسبب قتاعته أنه قادر على العطاء بل لأنه يرفض الاستسلام. وموقف شارون العدواني يزيد عرفات تصميما على المضي قدما في التحدي حتى النهاية. وبصرف النظر عن دوافع عرفات لخوض الانتخابات، فنتائج استطلاعات الرأي تشير إلا أن الموقف الإسرائيلي ـ الأمريكي الأخير من عرفات أعاد له جزءا كبيرا من شعبيته التي فقدها بعد اتفاق فك الحصار عن مقاطعة رام الله وكنيسة المهد أواخر نيسان الماضي. وتؤكد جميع الاستطلاعات أنه سوف يحصل على أعلى نسبة من الأصوات، تفوق النسبة التي حصل عليها في انتخابات عام 1996.
والفلسطينيون المؤيدون والمعارضون لعرفات مقتنعون أنه يتعرض لحملة أمريكية إسرائيلية ليس بسبب غياب الديمقراطية في منهج عمله الفردي، بل أساسا بسبب صموده في وجه الضغوط الإسرائيلية والأمريكية. ورفضه الاستسلام وتقديم تنازلات تمس الثوابت الوطنية الأساسية. ولا احد في المعارضة دعاه للاستقالة وعدم ترشيح نفسه ، بل دعاه الجميع للصمود، والأغلبية تؤيد ترشيحه من جديد. والتدقيق في المرشحين لانتخابات الرئاسة الذين ظهرت أسماؤهم حتى الآن، يبين أنهم أكثر تشددا من عرفات، وبعضهم يتهمه بالتهاون مع الاحتلال والخضوع للابتزاز الأمريكي، واشك أن يتقدم لهذه الانتخابات مرشح يقف على يمين عرفات. وبديهي القول أن الخيار الوحيد المتاح أمام شارون لتجاوز معضلة تجديد شرعية عرفات، هو تعطيل انتخابات الرئاسة الفلسطينية المقررة مطلع العام القادم 2003. وإذا كان الخلاص من عرفات جسديا قبل هذا التاريخ، يشفي غليل شارون، فنتيجة ذلك تحكّم مواقف “الشهيد عرفات” بالسياسة الفلسطينية سنوات طويلة.
وبشأن الانتخابات البلدية، يخطئ من يعتقد أن شارون لا يعارض إجراؤها باعتبارها لا تتعارض مع توجهه المركزي الداعي إلى منح الفلسطينيين حكما ذاتيا. ومن يتعمق في مضمون الحكم الذاتي الذي يفكر به شارون واليمين الإسرائيلي ككل، يستنتج أن وجود بلديات منتخبة ينسف هذا التوجه. وإذا كانت حكومة عمالية “يسارية” لم تتحمل نتائج الانتخابات البلدية التي تمت منتصف سبعينات القرن الماضي، ولم تتوانى عن إعطاء الأجهزة الأمنية ضوءا اخضر لاغتيال كريم خلف وفهد القواسمة وبسام الشكعة، بعد فوزهم بتلك الانتخابات، فمن البديهي القول أن حكومة يمينية برئاسة شارون لن تسمح بإجراء انتخابات بلدية ينتج عنها قيادات وطنية. وشارون يعرف سلفا أن المنتخبون الجد في المجالس البلدية والقروية، سواء كانوا حزبيين أو مستقلين، لن يستسلموا لمخططه القائم على حصر من انتخبوهم في كنتونات ومعازل عنصرية. ولن يتوانى رؤساء البلديات الجدد على خوض المعارك معه ومع سواه حول الأرض وتوسيع حدود بلدياتهم. ولن يصمتوا له على سياسة الاستيطان ومصادرة الأراضي. ويعرف شارون أن حماس وقوى المعارضة سوف تشارك في هذه الانتخابات إذا سمح بإجرائها، وأن قسما من مرشحيهم سوف يحصلون على نسبة عالية من الأصوات. هذا إذا لم تحصل قوى المعارضة على أغلبية المقاعد في مجالس عدد من المدن الكبرى والبلدات الفلسطينية.
على ذلك، أجزم سلفا أن موقف إدارة الرئيس بوش من الانتخابات البلدية والتشريعية والرئاسية الفلسطينية، لن يتعارض مع موقف حكومة شارون منها. هي بالتأكيد جاهزة لتقدم المساعدة للفلسطينيين، والإيعاز للأوروبيين بتمويلها وتنظيمها ورقابتها والإشراف على نزاهتها..الخ إذا سمحت حكومة شارون بإجرائها. ويكفي تحفظ حكومة شارون، وليس معارضتها، كي تسحب هذه الإدارة موقفها المؤيد للانتخابات، وتمارس ضغوطها على دول الإتحاد لمعارضتها. ويخطئ من يعتقد أن نشر الديمقراطية في فلسطين مشكلة أمريكية أوروبية. وأن إفراطهم في حب الفلسطينيين وحرصهم على مستقبلهم..يدفعهم إلى الضغط على عرفات لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية، وهي التي تدفعهم الآن للضغط عليه لإجراء إصلاحات جذرية في أجهزة الأمن الفلسطينية وبقية مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني.
إن صمت الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي على سياسة الفصل العنصري الذي يطبقه شارون على الأرض، وعمليات تدمير المجتمع الفلسطيني الممنهجة، وضغطهم المتواصل على عرفات لقمع المعارضة بقوة السلاح شواهد حية على زيف ادعاءاتهم وزيف كلامهم عن الإصلاح والتجديد والتغيير. ولن ينسى الفلسطينيون أن هذه الأطراف ذاتها غضت النظر عن التحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبها شارون في مخيم جنين ونابلس ورفح وسواها من المدن الفلسطينية، ولا تفعل الآن شيئا دفاعا عن المبادئ والقوانين وقرارات الشرعية الدولية ومواثيقها المتعلقة بحقوق الإنسان الفلسطيني التي ينتهكها شارون يوميا تحت سمع وبصر الجميع.
وإذا كان الإتحاد الأوروبي عاجز عن ردع شارون، فكلام أركان الإدارة الأمريكية عن الإصلاح والتغيير في بنية النظام السياسي الفلسطيني هدفه تقطيع الوقت على حساب دم وجوع أبناء الضفة والقطاع، وتغطية قرارهم الانسحاب من عملية السلام. ويخطئ من يعتقد أن إدارة بوش غيرت قناعتها الأساسية من عملية السلام. ويتذكر الجميع أن أركان هذه الإدارة أعلنوا، منذ دخولهم البيت الأبيض أنهم لن يتورطوا في صنع السلام العربي الإسرائيلي كما تورط كلينتون. وبعضهم قال بصوت منخفض لا أفق لهذا السلام في عهد شارون وعرفات. وأظن أن تجربتهم في النصف الأول من عهد بوش كرست هذه القناعة. ومصالحهم الحزبية والانتخابية تدفعهم إلى ترجمتها بالصمت على سياسة شارون الحالية واللاحقة، وبنعت الفلسطينيين نعوت وأوصاف يرتاح لها الناخب الأمريكي وأعضاء الكونغرس الحاليين واللاحقين.
وإذا كانت المعطيات المتوفرة ترجح عدم إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والبلدية الفلسطينية، فإن تأخير القيادة الفلسطينية موعد إجرائها إلى كانون الثاني عام 2003، يعتبر خطئا تكتيكيا تسبب في هدر الطاقات. وأضعف قيمة الخطوة محليا وإقليميا ودوليا، وعطل استخدامها ورقة رابحة في امتصاص الهجوم الأمريكي الإسرائيلي الجاري ضد الفلسطينيين شعبا وسلطة وأرض. وإذا كان التأخير يفسح المجال للتعطيل، فالرهان على الانتخابات وإجراء تغيير في أجهزة الأمن للخروج من المأزق سعي وراء سراب.