الوضع الميداني تجاوز المناشدات الفلسطينية والمبادرات الامريكية

بقلم ممدوح نوفل في 23/06/2002

بعد كل عملية “استشهادية” يسقط فيها مدنيون إسرائيليون، يعيش الناس في الضفة وقطاع غزة ومعهم المراقبون السياسيون والصحفيون، وقائع مشهدين يتكرران كل مرة: الأول، يعلن مصدر إسرائيلي رسمي عن وقوع عملية انتحارية جديدة ويحمل عرفات وسلطته مسئولية قتل مدنيين إسرائيليين. ويؤكد أن إسرائيل سترد على العملية، والمجلس الوزاري المصغر دعي لاجتماع طارئ لتحديد طبيعة الرد. ويسرع الرئيس بوش وأركانه إلى إدانة العملية، وتقديم التعازي الحارة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية وذوي الضحايا. ودائما تكون التعازي الأمريكية مقرونة باتهام السلطة الفلسطينية ورئيسها عرفات بالتقصير في محاربة الإرهاب وملاحقة الارهابين. ويتبع الموقف الأمريكي موقف مشابه من دول الإتحاد الأوروبي وأمين عام الأمم المتحدة “كوفي أنان”. وعادة تحرص القيادة الفلسطينية أن تسبق بوش والآخرين، في إدانة العملية وإدانة قتل المدنيين من الطرفين.
في المشهد الثاني، يبدأ الفلسطينيون والصحفيون تلقط أخبار العملية. ويختفي قادة القوى الوطنية والإسلامية والمسلحون والمطاردون من الشوارع. ويغادر أبناء القرى المدن عائدين إلى قراهم قبل إحكام الإغلاق. وفي رام الله يتوجه مراسلو شبكات التلفزة إلى مقر رئيس السلطة الفلسطينية ومحيطه، لتغطية وصول القوات الإسرائيلية ومحاصرة المقر. ويسرع الناس لتأمين حاجاتهم ويتجمعون أمام المخابز والمحال التجارية وبسطات خضار يدفعها أصحابها وسط الشوارع غير آبهين بتعطيل السير.. وداخل وأمام هذه الأماكن يتجدد الجدل حول جدوى العمليات الاستشهادية ونتائجها، ويتبادل الناس تقديراتهم حول طبيعة الرد الإسرائيلي ومكانه، وفي معظم الأحيان تكون تقديراتهم دقيقة، تساهم في تمكين المطلوبين والمطاردين اللجوء إلى مخابئ آمنة خشية المداهمة والاعتقال.
أعتقد أن هذين المشهدين مرشحان للتكرار على خشبة مسرح الصراع الفلسطيني الإسرائيلي طالما بقي شارون رئيس حكومة يشارك فيها حزب العمل. ونتائج عملية “الطريق الحازم” التي شرع الجيش الإسرائيلي في تنفيذها لن تكون أفضل من نتائج عملية “السور الواقي” التي استمرت 6 أسابيع. وقدر الفلسطينيين والإسرائيليين أن يعيشا هذا الحال شهور طويلة لأسباب عدة منها: أولا، أن الوضع على الأرض تجاوز مناشدة عرفات ودعوات السلطة الفلسطينية لوقف العمليات ضد المدنيين الإسرائيليين داخل إسرائيل. ولم تعد حركة حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية ونسبة كبيرة من كوادر وعناصر كتائب الأقصى التابعة لحركة فتح، تلتفت إلى هذه الدعوات وترفض التجاوب معها. خصوصا بعد نجاح الثنائي بيريز ـ شارون في دفع الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي إلى إدراج أسماء حركاتهم وتنظيماتهم في خانة القوى الإرهابية. وبعد أن أصبح قادة هذه القوى وكوادرها وأفرادها مطاردين دوليا، ومشاريع شهداء في قوائم المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وقرر بعضهم، بمحض إرادته، الانتقام والاستشهاد في سبيل الله والذهاب للجنة والانضمام إلى عزيز سبقه. وبيانات هذه القوى تؤكد أنها ماضية في “خطها الجهادي” وتسعى لتطوير مفعول عبواتها الناسفة. وأظن أنها تبقى قادرة على تنفيذ عمليات انتحارية جديدة داخل إسرائيل حتى إذا أعادت إسرائيل احتلال المدن الفلسطينية. مثلما حصل خلال وفور انتهاء عملية “السور الواقي”. لاسيما أن الحديث يدور عن تسلل بضع أفراد وليس حركة وحدات عسكرية فدائية أو نظامية كبيرة. ولدى هذه التنظيمات مخزون كبير من الإنتحاريين.
إلى ذلك، فقد أصحاب النداء “عرفات والسلطة” القدرة على المقاومة باستثناء التمترس عند الحقوق. ولم يعودوا قادرين على حماية شعبهم من بطش الاحتلال، وتساووا معه في الحاجة إلى من يوقف إذلالهم ويحميهم من عقلية شارون الانتقامية. يدعون الناس إلى الصبر في مواجهة القهر الإسرائيلي ولا يستطيعون توفير لقمة العيش لهم، أو تقديم وعد نظري بقرب رفع الحصار والإغلاق ووقف المطاردات والمداهمات والاعتقالات والاغتيالات. وليس في الأفق شيئا يبعث الأمل في النفوس وينبأ بعملية سياسية بديلة لعملية السلام التي قتلها شارون. وإعادة احتلال المدن الفلسطينية يحرر السلطة من مسئولية محاربة الإرهاب، إذا لم يلغي وجودها لصالح حالة من حالات الفوضى العارمة. ويعرف “جورج تنيت” مدير أل C I A أن السلطة الفلسطينية غير قادرة على تلبية طلب بوش ـ شارون وقف العمليات الإنتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين، وسمع عرفات يقول إن تدمير المؤسسة الأمنية الفلسطينية وانعدام الأفق السياسي شل قدرة السلطة على وقف هذه العمليات.
ثانيا، تجاوز الوضع الميداني مبادرة أو خطة الرئيس بوش المتوقعة حول صنع السلام في المنطقة. ولم يعد الحديث الأمريكي اللفظي عن قيام دولة فلسطينية، دائمة أو مؤقتة، مجهولة الزمان والمكان، ومؤتمر دولي مجهول الحضور، قادر على إخراج الناس في الضفة والقطاع من حالة اليأس عملية السلام مع الإسرائيليين، والإحباط من الدور الأمريكي في معالجة النزاع. ويعتبر الفلسطينيون هذا الحديث خدعة أمريكية كبرى هدفها تقطيع الوقت، خاصة أنهم يسمعون، صباح مساء، بوش وأركانه يشجعون شارون على المضي قدما في أعمال القتل والتدمير. ويقولون عنه علنا حقا إسرائيليا مشروعا في الدفاع عن النفس. ويغض بوش وأركانه النظر عن قتل الأطفال وترويع وتجويع المدنيين الفلسطينيين، ويتجاهلون أن أعمال شارون ساوت الموت بالحياة عند كثير من الفلسطينيين. ولم يسمع الناس في الضفة والقطاع أنهم يعتزمون استخدام نفوذهم القوي في إسرائيل لوقف إحتلال المدن الفلسطينية، وإزالة حاجز من حواجز القهر والإذلال التي نصبها على مداخل المدن والقرى والمخيمات.
ثالثا، بعد فشل “عملية السور الواقي” التي نفذها الجيش الإسرائيلي في شهر نيسان “إبريل” ماضي، في إخضاع قيادة السلطة وتدمير البنية التحتية “للإرهاب” وفشله في اعتقال”الإنتحاريين” وقادتهم..الخ فقد شارون وأركانه الأمنيين والسياسيين صوابهم. واندفعوا بسرعة نحو بناء “جدار واقي” من الإسمنت والأسلاك الشائكة والخنادق العميقة بموازاة الخط الأخضر وبعمق 2ــ10كلم داخل الأرضي الفلسطينية. ونسي بن اليعاز، رئيس حزب العمل وزير الدفاع، الدرس الثمين الذي استخلصه قائده ومعلمه رابين من تجربته التاريخية الغنية: إن لا حلا عسكريا للنزاع العربي الإسرائيلي، وتحقيق أمن إسرائيل والإسرائيليين يتم عبر المفاوضات وبناء الطرفين علاقات سلمية لبنة لبنة. وأن الفصل العنصري والأسلاك الشائكة وحقول الألغام والخنادق..الخ تقتل بذور السلام، وتفرق وتعمق الكراهية في نفوس الناس على الجانبين.
وفي الأيام الأخيرة تجاوز الموقف الإسرائيلي جميع الخطوط الصفراء والحمراء، وتسابق أركان اليمين الإسرائيلي في الدعوة إلى الانتقام وإعادة احتلال الضفة وقطاع غزة، واستكمال تدمير السلطة وأجهزتها المدنية والأمنية وطرد رئيسها عرفات، وطالب بعضهم بقتله. ورفع رئيس جهاز الأمن “الشاباك” “آفي ريختر” توصية بإعادة احتلال كامل مدن الضفة والقطاع والبقاء فيها حتى الانتهاء من إقامة المناطق العازلة وإتمام بناء السياج الأمني. وقرر شارون بموافقة أركان حزب استدعاء جزءا من قوات الاحتياط وتوسيع رقعة انتشار الجيش وتعميق تواجده في الأراضي الفلسطينية. ونفذ قادة الجيش القرار الذي انتظروه طويلا. وبسرعة احتل معظم المدن الفلسطينية ويحضر لاحتلال البقية. ويأمل أركان المؤسسة الأمنية النجاح هذه المرة في تحقيق ما فشلوا في تحقيقه في “عملية السور الواقي” وما تلاها من عمليات عدوانية صغيرة وكبيرة. وتدمير “أوكار الإرهاب” حسب تعبير شارون ووزير دفاعه بن اليعازر في مؤتمر الكونغرس الصهيوني الذي عقد في القدس يوم 20/6/2002. ونسي شارون أن توغله في الأراضي اللبنانية وتعميق عملياته الحربية في حرب 1982، أسفر عن مجازر صبرا وشاتيلا ولم يقضي على م ت ف وقيادتها.
وبصرف النظر عن المدة الزمنية للاحتلال الجديد يمكن الجزم سلفا أن شارون وأركانه الأمنيين والسياسيين لن يجدوا من يتعاون معهم في محاربة الإرهاب وفي إدارة شئون الناس وتأمين متطلبات حياتهم اليومية. وإذا كانت القيادة الإسرائيلية فشلت في بناء “الإدارة المدنية” قبل أكثر من ربع قرن فلن تنجح فيه بنائها الآن. ولن ينجح الإسرائيليون في بناء قوة شرطة عميلة أو الاعتماد على القوة الموجودة. فرجال الشرطة والأمن الفلسطينيون سئموا، قبل الاحتلال الجديد، زيهم الرسمي ومهامهم ودورهم في اعتقال مدبري العمليات الانتحارية، وبعضهم صار يتعاطف، سياسيا وفكريا، مع الإستشهاديين خاصة أن الجيش الإسرائيلي أذلهم ويهين آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم، ودمر مقارهم واعتقل مئات منهم. وسيكتشف الإسرائيليون بسرعة أن مساندتهم مغامرات شارون الحربية وسياسته الانتحارية أوقعهم في ورطة سياسية أمنية،أعقد وأصعب من التي زجهم فيها عام 1982، عندما توغل في العمق اللبناني ودخل مدينة بيروت، وارتكب مجازر صبرا وشاتيلا.
أعتقد أن الوضع في الأراضي الفلسطينية يتجه بتسارع شديد نحو تدهور دراماتيكي خطير يفتح على احتمالات عدة. من جهة، نقل شارون مشروعه الأصلي خطوة نوعية، وقرر توجيه ضربة قاضية للسلطة الفلسطينية وإعادة تركيبها على أسس جديدة غير التي بنيت عليها. بالمقابل يرفض الفلسطينيون الاستسلام للاحتلال الجديد والقديم. وبيانات حماس والجهاد الإسلامي وكتائب عز الدين القسام تؤكد أنها ماضية في عملياتها الإستشهادية ضد المدنيين الإسرائيليين غير أبهة بالأصوات الفلسطينية الوازنة التي ارتفعت مؤخرا ودعت إلى وقف هذا النمط من العمليات، وحصر مقاومة الاحتلال في حدود الأراضي المحتلة منذ عام 1967.
وبديهي القول أن صيغة ومضمون الخطاب الذي أعده الرئيس بوش قبل هذه التطورات صارت قديمة وبحاجة إلى تعديلات واسعة تستوعب مجريات الصراع على الأرض وتمنع توسعه وتحوله إلى نزاع دموي يقفل الطريق أمام الحلول السياسية سنوات طويلة. وإذا كان الرئيس بوش مضطر إلى مراعاة مفاتيح الأصوات اليهودية وعدم استفزاز الناخب المؤيد لإسرائيل بهدف ضمان الأكثرية الحزبية في مجلسي الشيوخ والنواب، فالعرب والمسلمون وجميع المعنيين باستقرار أوضاع المنطقة مطالبون بالضغط على بيريز وأركان حزب العمل للخروج فورا من حكومة شارون. ومطالبون بالتحرك في المحافل الدولية واستصدار قرار بإرسال قوة دولية أو متعددة الجنسية إلى الأراضي الفلسطينية، حيث أصبح وصول هذه القوات مخرجا وحيدا لوقف أعمال القتل والتدمير المتبادلة. ولا حاجة لانتظار مجازر جديدة شبيهة بمجازر صبرا وشاتئلا وجنين حتى يتحرك الجميع.