لا أفق لتقليص نفوذ عرفات وتحويله إلى شخصية رمزية

بقلم ممدوح نوفل في 31/05/2002

ليست المرة الأولى التي يحتل فيها مصير عرفات، الشخصي والسياسي، موقعا بارزا في الصحافة العربية والعالمية ومحافل السياسة الدولية والإقليمية، وأظن أنها لن تكون الأخيرة. ومن يراجع تاريخ أبوعمار يجد حياته الشخصية مليئة بالأحداث وظلت دوما صاخبة. عاش قرابة40 سنة في العمل السياسي وسط حقول من الألغام والمتفجرات كانت دائما قابلة للاشتعال السريع والانفجار في كل لحظة. قبل التوصل إلى اتفاق “اوسلو” عام 1993، كان عرفات متهما بتهم كثيرة تشبه التهم التي توجه له اليوم. كان متهما بأنه إرهابي، يتزعم منظمة إرهابية، ويحيط نفسه بمجموعة إرهابية فاسدة..الخ وبقدرة قادر تحول عرفات، بعد الإعلان عن”اوسلو”، بين ليلة وضحاها، إلى رجل سلام.. يؤمن بالتعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأفنى حياته بحثا عن السلام.. في حينه امتلأت فنادق العاصمة التونسية بالصحفيين ومراسلي وكالات الأنباء وشبكات التلفزة العالمية جاءوا لتغطية الحدث. وفي لقاءاتهم مع أركان القيادة الفلسطينية كانوا ينقبون في تاريخ عرفات المتعلق بصنع السلام ويتجنبون البحث في تاريخه العسكري. وقال كثيرون منهم صراحة؛ أوامر رئيس التحرير تجميل صورة عرفات وإظهاره رجل سلام. وعرفات المتهم اليوم إسرائيليا وأمريكيا بالإرهاب والفساد، هو نفسه الذي حصل على جائزة نوبل للسلام، ودخل البيت الأبيض أكثر من 25 مرة وسجل رقما قياسيا في دخول زعماء العالم هذا البيت وعدد اللقاءات برئيس أمريكي.
تعرض عرفات، منذ توليه زعامة حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” في العام 1965 لمحاولات اغتيال عدة، معظمها إسرائيلي وقليل منها وقع على يد خصومه من فلسطينيين وعرب. وواجه منذ توليه زعامة منظمة التحرير في العام 1968عدة محاولات لزعزعة مكانته القيادية في المنظمة وفي “فتح”التي أسسها. لكن يقظته الأمنية العالية وإشرافه المباشر على ترتيبات أمنه الشخصي مكنته من البقاء على قيد الحياة. وبقدرته العالية في قراءة حركة الزاوبع السياسة قبل وصولها إليه، واتقانه المناورة والتكتيك وبناء التحالفات وفكها بسرعة، تمكن من الخروج بسلام من الكمائن السياسية التي نصبت في طريقه. وفي أحدى المرات وقف القدر بجانبه، ونجا من موت محقق عندما تحطمت طائرته في الصحراء الليبية في ربيع عام 1992.
عبر قيادته مسيرة النضال الفلسطيني أكثر من 35 سنة، راكم عرفات خبرة سياسية غنية ورصيدا نضاليا كبيرا لا يمكن تجاوزهما. وبهذا الرصيد وتلك الخبرة عزز مكانته في صفوف الفلسطينيين، وتفرد في قيادية السفينة وسط البحور الهائجة التي عبرتها. ونجح بجدارة في إحكام سيطرته على الوضع الداخلي وفرض مواقفه وتوجهاته السياسية والتنظيمية على عموم الحركة الوطنية سنوات طويلة. وبنى الوضع الفلسطيني بصيغة يصعب على احد سواه التحكم فيه.
وإذا كان من غير الممكن عزل الحديث، في الربع الأخير من القرن الماضي، حول مصير عرفات الشخصي والسياسي عن وضع القضية الفلسطينية، فالحديث اليوم حول مصيره استمرار لحديث طرح بقوة في شهر نيسان الماضي إبان حصار القوات الإسرائيلية مقره في مدينة رام الله. يبين الحديث حال عملية السلام المزرية وفشل العالم في إيجاد حل للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي. ويصور حال النظام السياسي الفلسطيني في زمن الانتفاضة الثانية، وبخاصة بعد اقتحام الجيش الإسرائيلي المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية.
وإذا كانت القوى الدولية والإقليمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تحركت وأنقذت عرفات من قبضة شارون وأرغمته عدم التعرض لحياة عرفات وأجبرته على فك الحصار عن مقره، فحركتها لم تكن لمودة خاصة تكنها لعرفات والسلطة الفلسطينية، بل نتيجة إدراك، مبني على دراسات مدققة للوضع الفلسطيني، خلاصته؛ لا بديل لعرفات في هذه المرحلة وبديله المرئي هو الفوضى وتسلم التيار الديني الأشد تطرفا زمام الأمور. وتصفيته جسديا على يد الإسرائيليين يعقد الحلول السياسية ويوسع دائرة النزاع ويطيل أمده، ويبقي عرفات “المغيب”، على يد الإسرائيليين، حاكما فعليا لفلسطين سنوات طويلة. ولن يتجرأ فلسطيني التوصل لاتفاقات مع إسرائيل رفضها عرفات في حياته.
أعتقد أن من أدرك هذه الحقيقة ووصل إلى هذا الاستنتاج الصحيح وأنقذ حياة عرفات، يدرك تماما ان وضع عرفات ومكانته في صفوف الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية لم تتغير منذ فك الحصار عن مقره أواخر نيسان الماضي، ولن يتغير في غضون الأسابيع والشهور القادمة.
ورغم قوة حملة النقد والتشهير التي يتعرض لها عرفات في هذه الفترة، فهي أخف من الحملة التي تعرض لها قبل وبعد عملية “السور الواقي”. والواضح أنها لا تستهدف حياة عرفات بل إضعاف مكانته القيادية في الشارع الفلسطيني وداخل المؤسسة الرسمية، وتجريده جزءا كبيرا من الرصيد السياسي والشعبي الإضافي الذي راكمه في الحصار، وخاصة صموده في وجه الضغوط الإسرائيلية والأمريكية، ورفضه تقديم تنازلات لم يقدمها قبل وخلال الحصار.
وبديهي القول أن الشيء الذي لم ينتزع من عرفات إبان فترة حصاره يصعب انتزاعه الآن. والحملة الجارية ضده معرضة في الشهور القليلة القادمة للتراجع والإضمحلال، ليس بسبب تغيير نوعي متوقع في مواقف عرفات وقبوله تصور شارون لحل النزاع، بل بسبب تحرك متوقع في وضع النظام السياسي في إسرائيل وخصوصا اقتراب ساعة خروج حزب العمل من حكومة شارون تمهيدا لانتخابات الكنيست. وعندها تتشكل معارضة جدية تتبنى خطا سياسيا يقوم على التعامل مع عرفات باعتباره؛ شرا لا بد منه.. والزعيم الوحيد القادر على توقيع الحل النهائي للنزاع.. وظهور هكذا موقف داخل إسرائيل يؤثر في السياسة الأمريكية والأوروبية. وقد يتكرر المشهد الذي عاشته شعوب العالم في ايلول “سبتمبر” 1993، حتى لو لم يتم التوصل الى اتفاق شبيه باتفاق “اوسلو”. وبامكان عرفات ببساطة تقطيع الوقت وانتظار الانتخابات الإسرائيلية القادمة وما يسبقها ويليها من تفاعلات داخل المجتمع الإسرائيلي. وعنده أوراق كثيرة يلعب بها حتى ذلك التاريخ، وأجندته تتضمن مهام داخلية وخارجية كثيرة مثيرة.
وإذا كان الحديث عن مصير عرفات يتركز الآن حول مستقبله السياسي، فمصيره السياسي والشخصي ليس رهنا بإجراء الإصلاحات الداخلية التي يطالب بها شارون وأركان الإدارة الأمريكية. وأجزم أن هذا الحديث يتبخر فورا، إذا نجح عرفات في السسيطرة على مواقف وسلوك القوى الوطنية والإسلامية، ونجح في مجال ضبط الوضع الأمني، وفعّل دور أجهزة الأمن الفلسطينية، ومنع وقوع عمليات “انتحارية” ضد المدنيين الإسرائيليين داخل إسرائيل. وأركان البيت الأبيض ورؤساء دول العالم يكتفون بذلك في الظرف الراهن.
ويخطئ من يعتقد أن نشر الديمقراطية في فلسطين مشكلة أمريكية أوروبية إسرائيلية. وأن إفراطهم في حب الفلسطينيين وحرصهم على مستقبلهم… يدفعهم للضغط على عرفات لإجراء إصلاحات جذرية في النظام الفلسطيني. فصمتهم على الفصل العنصري الذي يطبقه شارون وضغطهم المتواصل على عرفات لقمع المعارضة بقوة السلاح شاهد على زيف ادعاءاتهم.
وأجزم أن إظهار هذه القوى حرص زائدا على دمقرطة المجتمع الفلسطيني، وحديثهم عن التغيير والإصلاح والتجديد، هو مجرد كلام هدفه تقطيع الوقت وتغطية العجز والتردد في الضغط على شارون لوقف أعماله العدوانية ضد الفلسطينيين وإلزامه باحترام الاتفاقات التي توصل إليها الطرفان. ولإخفاء فشلهم في إرغامه على العودة إلى طاولة المفاوضات والالتزام بأسس عملية السلام التي انطلقت من مدريد في العام 1991. ولن ينسى الفلسطينيون أن هذه الأطراف ذاتها غضت النظر عن التحقيق في الجرائم الحرب التي ارتكبها شارون ضد الإنسان الفلسطيني في مخيم جنين ونابلس وسواها من المدن الفلسطينية.
وفي سياق الحديث عن مصير عرفات لا يستطيع أي باحث موضوعي تجاهل تاريخه وموقعه كرمز للنضال الوطني ضد الوصاية والاحتواء للحركة الوطنية الفلسطينية، وقائدا لمسيرة أربعين عاما من النضال الفلسطيني من اجل الحرية ونيل الاستقلال وإقامة الدولة المستقلة. تأكد العالم، في العقد الأخير منها، أن عرفات ركنا هاما من أركان حل النزاع العربي الإسرائيلي. يؤمن بحل بالنزاع بالطرق السلمية على أساس دولتين للشعبين. وحديث شارون واليمين الإسرائيلي أن عرفات عقبة أمام صنع السلام لا يقف على أرض سياسية صلبة، فلا خلاف في الجوهر بين رؤية عرفات للحل النهائي ورؤية الإدارة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي لهذا الحل. بينما خلافهم مع شارون جوهري حول الحل السلمي على أساس دولتين للشعبين.
إلى ذلك، لا أحد يستطيع تجاهل أن عرفات انتزع شرعيته التاريخية عبر نضاله الطويل وانتزع شرعيته القانونية عبر الانتخابات. وسلفا يمكن الجزم انه سوف يحصل على أعلى الأصوات إذا جرت انتخابات جديدة وظهر من ينافسه على رئاسة السلطة الفلسطينية. صحيح أن عرفات خسر جزءا من رصيده الكبير بعد قبوله الاتفاقين المتعلقين بحل مشكلة حصار كنيست المهد، حصار “المقاطعة” في رام الله، إلا أن هذه الخسارة لم تهز زعامته التاريخية.
لا جدال في أن الوضع الفلسطيني الداخلي بحاجة إلى إصلاح إلا أن هذه الحاجة لم ترق إلى مستوى المطالبة الشعبية بالإطاحة بنظام عرفات. وأخطاء السلطة التي أعلن عرفات أمام المجلس التشريعي مسئوليته عنها، لم تمس شرعية قيادته. والفلسطينيون الصادقون في حمل راية الدعوة لإصلاح الأوضاع الداخلية مقتنعون ان أقصر الطرق لتحقيق هدفهم النبيل يتجسد في مواصلة العمل مع عرفات. ويتمنون أن يتمكنوا من استغلال قوة عرفات والدعم الدولي لاستصدار القوانين الصعبة المؤسسة للدولة الحديثة مثل قانون الأحوال الشخصية، وحقوق المرأة ومساواتها بالرجل، واستقلال القضاء. ويأملون أن يتولى عرفات قيادة مسيرة التغيير والتجديد وتحقيق الإصلاح السياسي والمالي والأمني والإداري المنشود وهو قادر على ذلك.
وإذا كان عرفات مشكلة في نظر كثيرين فهو عنوان الحل بصرف النظر عن الرغبة الذاتية، ومصيره مسألة داخلية تتعلق بالسيادة يقررها الفلسطينيون وحدهم. ويرفضون بالمطلق أي تدخل خارجي. والحديث الإسرائيلي والأمريكي عن تقليص نفوذ عرفات وتحويله إلى شخصية رمزية مجردة من الصلاحيات لا مقومات له في الوضع الفلسطيني الراهن. والرهان على تبديل هذا الوضع هدر للوقت والطاقات وليس أكثر. وواقع النظام السياسي الفلسطيني يؤكد أن عرفات الآن وحتى إشعار آخر هو القادر على حل قضايا النزاع الكبيرة والصغيرة المعقدة. وما قدمه بشأن الاعتراف بإسرائيل والتنازل عن أكثر من 75% من أرض فلسطين التاريخية لم يكن بمقدور أحد سواه تقديمه.
وهو وحده المؤهل في هذه المرحلة لصنع حل تاريخي بين الشعبين وإذا لم يتم هذا الحل في حياته سيتأخر سنوات طويلة. وفي كل الأحوال أظن أن شارون سوف يرحل من الحياة السياسية قبل تحقيق حلم التخلص من عرفات الذي راوده منذ العام 1982 ويراوده الآن.