في ذكرى رحيل المناضل المفكر إبراهيم أبو لغد

بقلم ممدوح نوفل في 17/05/2002

الشكر كل الشكر، لأسرة “مركز إبراهيم للدراسات الدولية” في جامعة بير زيت، على تنظيمهم هذه الندوة القيمة وحسن اختيار مواضيعها. وأفضل وأعظم تكريم يقدم إلى إبراهيم في ذكراه الأولى هو متابعة النضال واختيار أشكال النضال الأنسب لتحقيق أحلام إبراهيم الوطنية. وتأمل الأوضاع الفلسطينية الداخلية وفحص العلاقة بين أطراف النظام السياسي الفلسطيني بشقيه الرسمي والشعبي والوصول إلى رؤية فلسطينية واقعية تساهم في معالجة أزمة العمل الفلسطيني، ووقف التدهور الحاصل في الوضع الداخلي، وفي مصداقية الموقف الفلسطيني في ساحات النضال الأخرى.
من البداية، احتلت المسائل الوطنية الداخلية والعمل في ميدان السياسة الخارجية، حيزا كبيرا في تفكير المفكر أبو لغد، وفي زمن السلطة زاد اهتمامه بهما. وفي لقاءاته المتواصلة مع كوادر الحركة الوطنية الفلسطينية كان دائما يقول: قضيتنا عادلة لها خصوصيتها، وعلينا دائما التعامل مع قضايا النضال بشمولية ونوزع نظرنا؛ عين على الجبهة الداخلية وأخرى على جبهة العمل السياسي. وبخاصة توسيع جبهة الحلفاء والأصدقاء، وتحييد الممكن من الخصوم وتقليص جبهة الأعداء.
في زمن الثورة الفلسطينية، آمن إبراهيم أن طريق خلاص الشعوب المستعمرة من الاستعمار طويلة وشاقة، وميادين حرب التحرير الشعبية كثيرة ومتنوعة ومترابطة يكمل بعضها بعض. وظل يعتبر الكفاح السياسي والجماهيري لا تقل أهمية عن الكفاح المسلح، وكان يصر على تناغم الحركة في الميادين الثلاث. ميز بين أساليب ووسائل النضال، وكان يقول؛ هناك وسائل وأساليب نضالية فعّالة ومجدية، وأخرى فعالة لكنها ضارة تشوه عدالة القضية وتتسبب بإلحاق الهزيمة بالأهداف وبالمناضلين من أجلها. وهذه الأساليب يجب تفاديها حتى لو كانت عادلة ومشروعة. وهناك نوع ثالث تحرمه المبادئ الأخلاقية ويحرمها القانون وهذا النوع أيضا يجب تفاديه كليا. وليس من حق أحد توريط الآخرين فيما يجب تفاديه، خاصة إذا كان ثمن التوريط دما ودمارا.
آمن إبراهيم بالمؤسسة وبالعمل الجماعي المنظم، وكره في مرحلة النضال في الأردن ولبنان فوضى السلاح والإدارة، وتألم من تكرار المشهد في زمن السلطة، وحزن لعسكرة الانتفاضة. وبعد قيام السلطة ركز اهتمامه نحو تصليب البنية الداخلية عبر نشر الديمقراطية وصياغة القوانين والأنظمة واللوائح الأساسية والمناهج. كان يقول الأوضاع الداخلية المهلهلة تنتج مقاومة مهلهلة وتربك السياسات والعلاقات الخارجية، وعكس ذلك صحيح أيضا. وظل يردد في الأطر الوطنية التي انتمى إليها “مجلس وطني ومجلس مركزي” وفي لقاءاته مع أركان السلطة وقيادات فصائل العمل الوطني؛ النهوض بالكفاح السياسي والجماهيري والمسلح يتطلب بناء مؤسسات فلسطينية تلتزم قضايا الشعب، وتضع مصالحه فوق الاعتبارات الشخصية والحزبية والفئوية والطائفية أو الجهوية.
العمليات الاستشهادية في ميزان المصالح الوطنية العليا
يكتسب البحث الآن في العلاقة بين الأوضاع الداخلية والسياسات الخارجية، وبخاصة مسألة العمليات الاستشهادية، أهمية استثنائية خاصة أن الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي يعيشان، هذه الأيام، تفاعلات هذا الشكل النضالي، وهو مدار بحث في جميع التحركات والاتصالات الإقليمية والدولية الهادفة إلى تبريد النزاع على الجبهة الفلسطينية.
في سياق معالجة الموضوع أود الإشارة إلى أنني من المؤمنين بالتأثير المتبادل للأوضاع الداخلية الفلسطينية والسياسات الخارجية. وأختلف مع من يحاول الفصل بين المسألتين ويقلل من قيمة العمل في ميدان السياسة الخارجية، وأيضا مع من يحمل عملية السلام والاحتلال الإسرائيلي واللوبي الصهيوني في أمريكا وأوروبا، مسئولية الأزمة الطاحنة التي يعيشها النظام السياسي الفلسطيني بشقيه الرسمي والشعبي، ويحملهم مسئولية إخفاق السياسات الخارجية الفلسطينية في حشد أوسع قوى دولية لنصرة الشعب الفلسطيني في نضاله العادل والمشروع للخلاص من الاحتلال.
وقبل الدخول في بحث موقع العمليات الاستشهادية في إطار النضال الفلسطيني في هذه المرحلة الراهنة، أود الإشارة إلى أن الحديث عن سلبيات هذا العمل لا يمس الشهداء الذين نفذوا وسوف ينفذون هكذا عمليات. وهم من وجهة نظري مناضلون ضحوا بأنفسهم من اجل قضية وطنية وإنسانية عادلة. أقدموا على التضحية بوعي بعد أن ساوى قهر الاحتلال وممارساته ضد شعبهم بين الموت والحياة. ونقد هذا النمط من العمل لا يشمل العمليات الخاصة التي يتم تنفيذها في الضفة والقطاع ، ضد الجيش الإسرائيلي والمستوطنون، التي تتخذ شكل العمليات الاستشهادية. ليس فقط بسبب مشروعيته بل وأيضا تفهم قطاع واسع من الرأي العام الإسرائيلي والدولي له باعتباره مقاومة احتلال.
إلى ذلك، تعيش الساحة الفلسطينية تبيانا حادا حول هذا النمط من العمل العسكري الخاص الذي يستهدف المدنيين، ويدور حوله نقاش واسع مسئول يشبه التباين والجدل حول العمليات الخارجية وخطف الطائرات أواخر ستينات ومطلع سبعينات القرن الماضي. في حينه أنتج النقاش، وتراجعت الجبهة الشعبية عن العمليات الخارجية وبخاصة خطف الطائرات. ومارست نقدا ذاتيا علنيا قدره الجميع. وتفحص مواقف القوى الوطنية والإسلامية من العمليات الاستشهادية يبين أن حركتي حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية تعتبر العمليات الاستشهادية ضد المدنيين الإسرائيليين حقا مشروعا، وترى فيه نهجا نضاليا فعالا ضد الاحتلال. ولا تعير اهتماما يذكر لنتائجه داخل المجتمع الإسرائيلي، أو تفاعلاته السلبية على النضال في ميدان العلاقات الدولية والسياسة الخارجية.
يقابلها موقف السلطة و م ت ف الرسمي، وموقف حركة فتح الرسمي وحزب الشعب والاتحاد الديمقراطي “فدا” والجبهة الديمقراطية، وأغلبية الاتحادات والمنظمات الشعبية والنقابات واتحاد البلديات تعارضها وتعتبرها أعمالا ضارة تلحق أذى كبيرا متعدد الأوجه بالنضال الفلسطيني وبالمصالح الوطنية العليا للشعب.
وإذا كان لا مجال في هذه الورقة إجراء مراجعة شاملة لمراحل تطور مفهوم الترابط بين الأوضاع الداخلية والسياسات الخارجية في الفكر السياسي الفلسطيني، فان البحث في نتائج الخلل في مفاهيم القوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية، سلطة ومعارضة، وسلوكها العملي إزاء هذه المسألة الجوهرية لا يحتمل التأجيل. خاصة أن الشعب الفلسطيني دفع ثمن هذا الخلل دمارا ودماء غالية. واضعف الموقف الفلسطيني وأربكه في الأمم المتحدة، وفي مجال العلاقة مع القوى الدولية والإقليمية المعنية بالسلام في المنطقة. وأعتقد أن استمرار هذا الخلل الرئيسي يزج القضية برمتها في نفق مظلم يصعب الخروج منه من دون خسائر استراتيجية.
وفي سياق بحث هذا الترابط بين الأوضاع الداخلية الفلسطينية والسياسات الخارجية لا بد من أخذ عددا من المسائل بعين الاعتبار ودونها يبقى البحث ناقصا منها؛
1) أن النظام السياسي الفلسطيني الرسمي، أي السلطة، لم يظهر للحياة نتيجة انتصار حركة التحرر الوطني الفلسطيني على الاستعمار الصهيوني، بل تم نتاج تفاعل سياسات إقليمية ودولية. والسلطة قامت كما هو معروف للجميع بني على اتفاقات فلسطينية إسرائيلية رعتها قوى دولية، وهذه الإتفاقات تحد من سلطات السلطة وصلاحياتها في بناء الأوضاع الداخلية وفي مجال رسم السياسات الخارجية. ورغم حديث معظم أطراف النظام السياسي الفلسطيني عن بناء قواعد ومرتكزات الدولة في المرحلة الانتقالية التي فرضها “أوسلو”، إلا أن فكر الثورة ظل يهيمن على فكر القوى الفلسطينية كافة.
2) لم يتخلى الشق الثاني من النظام السياسي الفلسطيني أي، الأحزاب والقوى الوطنية والإسلامية غير المشاركة في السلطة، أصلا، عن فكر الثورة. وحافظت المعارضة على تشكيلاتها الحزبية والعسكرية القديمة، وتمسكت بأشكال النضال التي اعتمدتها عقود طويلة. وأكدت رسميا معارضتها لعملية السلام والاتفاقات التي انبثقت عنها والتي أوجدت السلطة الرسمية، ووفرت للمعارضة حرية الحركة والعمل العلني في الضفة والقطاع. وظلت تتحين الفرص للانقضاض على العملية والاتفاقات، وعند أول فرصة هجمت بكل الوسائل القتالية المتوفرة لتهشيمها وتدميرها.
3) ظلت المساعدات الخارجية والعمل في إسرائيل بمثابة المورد المالي والاقتصادي الرئيسي، وضمنها رواتب موظفي السلطة. وإذا كان المؤمنون رواد المساجد والكنائس يذهبون لاماكن العبادة ويقدمون صلواتهم طلبا للغفران وطمعا في ملذات الآخرة، ولا أحد يقدم شيئا لوجه الله فقط، أظن من يقدم مئات ملايين الدولارات للسلطة الفلسطينية لا يقدمها حبا بالشعب الفلسطيني او صدقة لوجه الله ، ويستطيع التأثير في السياسة الفلسطينية الرسمية، ولا يمكن للسلطة إنكار تأثرها بضغوطهم. وبلغ تأثيرهم، في هذه الأيام، حد التدخل في إعادة صياغة النظام الرسمي الفلسطيني. وإذا كان تدخل إسرائيل في الشئون الداخلية الفلسطينية فشل في فرض قيادة بديلة للشعب الفلسطيني، فالصراع لم يحسم وشارون وضع “إصلاح أوضاع السلطة” شرطا مسبقا لاستئناف المفاوضات. واعتقد أن التدخل الأمريكي والأوروبي والعربي في الأوضاع الداخلية مرشح للنجاح بالحد الأدنى، في إعادة صياغة مفهوم الأمن الفلسطيني، واستكمال عملية فك وإعادة تركيب المؤسسة الأمنية.
4) عملية بناء أجهزة السلطة ومؤسساتها الأمنية والمدنية، لم تتم وفق أسس علمية. وتأثرت بالمصالح الحزبية والعلاقات العشائرية والشخصية. وأثرت اعوجاج بنيتها في أداء الوظائف والمهام الداخلية وفي حقل السياسة الخارجية. وحال سفارات فلسطين شاهد على ذلك.
5) تأثرت عملية بناء وتطوير الأوضاع الداخلية، وكذلك رسم السياسات والعلاقات الخارجية الخارجية، بمهمة استكمال تحرير ما لم يتحرر من الأرض والإنسان وقيام الدولة الوطنية المستقلة.
6) تلاعب إسرائيل بالاتفاقات، وتقاعس الراعي الأمريكي عن أداء مهمة الرعاية بأمانة، وتعطل عملية السلام، لعبت دورا محوريا في عملية بناء الوضع الداخلي ورسم السياسات الخارجية.
إلى ذلك، يجب الاعتراف أن تصاعد التباين، في الآونة الأخيرة، حول موضوع العمليات الإستشهادية ، أضعف وضع الجبهة الداخلية وحد من قدرة السلطة على القيام بفعل منتج في حقل السياسة الخارجية، وكثيرا ما تسبب في تقليص جبهة الأصدقاء وشل قدرتهم على تقديم الدعم والإسناد للشعب الفلسطيني. وتؤكد التجربة أن ارتباك وضع الجبهة الداخلية، وتشوش وتشوه مفهوم الديمقراطية كثيرا ما تسبب في صناعة سياسات فلسطينية خاطئة غير واقعية، أكدت وقائع الحياة أن هذه السياسات لا تصلح للعرض والتسويق في معرض السياسات الدولية، ولم تجد قوى دولية تشتريها. وفي بعض الأحيان تسببت في توسيع جبهة الخصوم والأعداء، وسهل على اليمين الإسرائيلي المتطرف ترويج مواقفه وسياساته المدمرة لعملية السلام داخل إسرائيل وخارجها، وتنفيذ توجهاته السياسية والأيدلوجية.
وبالرغم من إقرار السلطة وقيادة م ت ف وجميع القوى الوطنية والإسلامية بأهمية العمل في حقل السياسة الدولي والإقليمي، وكسب الرأي العام العالمي لصالح القضية الفلسطينية، إلا أن مواقفها كثيرا ما تسببت في إرباك العمل الفلسطيني في هذا الحقل. ورغم اعترافها بان اختلال ميزان القوى لصالح إسرائيل يزيد في أهمية العمل في هذا الحقل،إلا أن سلوك بعضها في الميدان شلت قدرة الحلفاء والأصدقاء تقديم الدعم والإسناد للمواقف الفلسطينية العادلة. وسهلت العمليات “الاستشهادية”على حكومة شارون إخفاء حقيقة مواقفها المعادية لعملية السلام، وللاتفاقات انبثقت عنها برعاية أمريكية ومساندة دولية واسعة. ويشهد على ذلك تعامل القوى الوطنية والإسلامية مع تفاعلات أحداث 11 أيلول”سبتمبر”2001 في واشنطن ونيويورك، واندفاع بعضها في درب العمليات “الانتحارية” ضد المدنيين الإسرائيليين قبل وبعد تلك الأحداث.
ولا أضيف جديدا إذا قلت أن الإدارة الأمريكية بدّلت أولويات سياستها الخارجية بعد تلك الأحداث. وأعلنت حربا مفتوحة على “الإرهاب” في كل مكان، وانتزعت تفويضا دوليا بقيادة هذه الحرب وتوجيهها. ولحقت بها هيئة الأمم المتحدة ومؤسساتها، ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين وكندا واليابان ودول أخرى كثيرة منها دولا عربية. وتقلص الاهتمام الأمريكي بمعالجة الصراع العربي الإسرائيلي وحل القضية الفلسطينية وصنع السلام في الشرق الأوسط.
في حينه استوعبت القيادة الفلسطينية الرسمية مدلولات هذا التحول وأدركت أبعاده الخطيرة على القضية الفلسطينية والنضال الوطني العادل والمشروع ضد الاحتلال، وتحركت في أكثر من تجاه لتجنيب الشعب الفلسطيني سلبياته. وأدانت الاعتداء على مقر التجارة العالمية في نيويورك ومقر البنتاغون في واشنطن، واعتبرته عملا إرهابيا. وأبدى رئيس السلطة الفلسطينية استعدادا لدخول في التحالف الدولي ضد الإرهاب الذي دعا إليه الرئيس بوش. وأعلن عرفات من جانب واحد؛ وقف تام وشامل لإطلاق النار مع إسرائيل، ودعا حكومة شارون إلى وقف عملياتها العسكرية في الأراضي الفلسطينية والعودة إلى طاولة المفاوضات. ورغم أن دعوة عرفات لم تلقى تجاوبا إسرائيليا وصعّد شارون أعماله العدوانية ضد الفلسطينيين، إلا إنها لقيت استحسانا في الشارع الفلسطيني، وتركت أثرا إيجابيا في حقل السياسة الدولية. وأرسلت إدارة الرئيس بوش “الجنرال زيني” مبعوثا خاصا للشرق الأوسط رغم انشغالها في الحرب في أفغانستان، وكلفته إعادة تشغيل قطار السلام الفلسطيني الإسرائيلي وإعادته إلى سكته.
وبدلا عن استيعاب هذه التطورات الكبيرة، تخلفت القوى الوطنية والإسلامية “قيادة الانتفاضة”، ولم تحدث أي تغيير جوهري في خطابها السياسي أو في برامجها ونشاطاتها النضالية. ولم تقم بما يلزم لتحصين الجبهة الداخلية درءا للأخطار التي تحملها موجة الحرب ضد الإرهاب على القضية الفلسطينية. وبدلا عن “التفاعل” مع موقف السلطة تخلفت هذه القوى مرة أخرى، وعارضت توجهات السلطة وقيادة م ت ف، ولم تستوعب مدلولات موقف حكومة شارون السلبي من منها. وتمترست خلف شعار تلازم “الانتفاضة والمقاومة المسلحة”، وتصاعدت ظاهرة “عسكرة” الانتفاضة وطمست تماما طبيعتها السلمية.
وبدلا من المساهمة في توفير المناخ السياسي الملائم لمتابعة الحملة الفلسطينية والعربية والدولية الهادفة إلى فضح سلوك الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، نفذت حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”كتائب شهداء الأقصى” التابعة لحركة فتح سلسلة عمليات “انتحارية” في العفولة ونتانيا وحيفا والقدس ومدن إسرائيلية أخرى، قتل فيها عددا كبيرا من المدنيين الإسرائيليين الأبرياء. واغتالت مجموعة من الجبهة الشعبية وزير السياحة الإسرائيلي “رحبعام زئيفي”. وظهر في الشارع الإسرائيلي وأمام الرأي العام العالمي وكأن هناك مبارزة بين الأطراف الفلسطينية في تنفيذ عمليات “انتحارية” ضد المدنيين الإسرائيليين.
ولم يفكر أنصار العمليات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين في نتائج عملياتهم على الشعب الفلسطيني، وعلى العلاقات الوطنية خصوصا علاقتهم بالسلطة. ومضوا قدما في السباق ونسوا أن المدن الإسرائيلية تعرضت في حرب الخليج عام 1991 إلى قصف الصواريخ العراقية، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي “شامير” وأركانه غلاة المتطرفين فضلوا كسب الرأي العام العالمي، وكسب الموقف الأمريكي والتحالف الدولي الذي بني ضد العراق، على توجيه صواريخهم وطائراتهم لضرب المدن والمعسكرات العراقية.
في حينه استقبل الرأي العام العالمي العمليات “الانتحارية” ضد المدنيين الإسرائيليين باستنكار شديد، وتحولت صورة القاتل إلى ضحية. وظهرت إسرائيل في مرآة السياسة الدولية كأحد ضحايا “الإرهاب” الفلسطيني. واستثمر شارون موجة التضامن الدولي في طمس جرائمه ضد الشعب الفلسطيني، ووظفها لصالح توجهاته المدمرة لعملية السلام والاتفاقات التي انبثقت عنها. ورفع شعار محاربة الإرهاب الفلسطيني ومضى قدما تحت سمع وبصر العالم في تحطيم مقومات قيام دولتهم فلسطينية مستقلة بجانب دولة إسرائيل، وركز ضرباته ضد مؤسسات السلطة الفلسطينية المنية والمدنية. واستغل الثنائي بيريز ـ شارون اندفاع إدارة بوش في الحرب ضد الإرهاب، ونجحا بمساعدة أنصار إسرائيل في الكونغرس والإدارة في إدراج أسماء حركتي “حماس والجهاد و”كتائب الأقصى” ضمن قائمة القوى الإرهابية.
وتعاملت القيادة الفلسطينية الشرعية مع هذه العمليات وكأنها تستهدف المس بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني، وإضعاف مصداقية السلطة ومنظمة التحرير أكثر من إستهداف مصالح إسرائيل الحيوية. وأن هدف من خطط لها وتبناها استدراج مزيد من الضربات العسكرية الإسرائيلية المدمرة لمؤسسات السلطة ومراكز أجهزتها الأمنية والعسكرية والبنية التحتية الفلسطينية التي بنيت بمساعدات دولية تم الحصول عليها بشق الأنفس.
ورغم إدانة السلطة الفلسطينية اغتيال الوزير “زئيفي” والعمليات “الانتحارية” وتعهد رئيسها عرفات بمعاقبة المسئولين عنها، إلا أن الإدارة الأمريكية اعتمدت مقولة شارون؛ “السلطة الفلسطينية إطارا يرعى الإرهاب ورئيسها يقود منظمات إرهابية”. وساوت هجوم حركتي “حماس والجهاد والإسلامي” على المدنيين الإسرائيليين بالهجوم الإرهابي على المدنيين الأمريكيين. وحمّلت السلطة الفلسطينية ورئيسها عرفات مسئولية التهاون في محاربة الإرهاب والتساهل مع “حماس والجهاد” والجبهة الشعبية و”كتائب الأقصى”. وعدم بذل الجهد الكافي لتوفير المناخ الملائم لاستئناف عملية السلام. ومنحت إدارة بوش حكومة شارون ضوءا أخضر لتصعيد حربها على “الإرهاب الفلسطيني” وتدمير المنظمات الفلسطينية التي ترتكب أعمالا إرهابية ضد المدنيين الإسرائيليين الأبرياء.
وربطت إدارة بوش تفعيل دورها في رعاية عملية السلام، وردع إسرائيل وتخفيف معاناة الفلسطينيين من قهر الاحتلال وإجراءاته غير الإنسانية، بتنفيذ السلطة الفلسطينية عددا من الاستحقاقات الداخلية. أولها، إثبات سيطرتها الأمنية على الوضع في الأراضي الفلسطينية، ومحاربة “المنظمات الإرهابية”، ومنع وقوع عمليات جديدة ضد المدنيين الإسرائيليين، واعتقال مدبري العمليات الانتحارية التي نفذت داخل إسرائيل وتقديمهم للمحاكمة. وثانيها، تفكيك بنية (حماس والجهاد الإسلامي) التي صنفتها ضمن قائمة المنظمات الإرهابية.
والتقط شارون هذا الموقف الأمريكي واندفع باتجاه القضاء على بقايا عملية السلام، وشطب “أوسلو” الاتفاقات الأخرى التي انبثقت عنه، وتدمير مؤسسات السلطة وركائزها المدنية والعسكرية. وتجاوزت إجراءاته جميع الخطوط الخضراء والصفراء والحمراء، وبلغت حد اعتبار القيادة الفلسطينية الشرعية المنتخبة “غير ذي شان” والتخطيط للإطاحة بها.
وفي سياق حماية المصالح الفلسطينية العليا وتجنب العاصفة الهوجاء التي هبت على المنطقة تحت شعار الحرب على الإرهاب، أقدم رئيس اللجنة التنفيذية على “إعلان حالة الطوارئ” في الأراضي الفلسطينية، وأكد مجددا على الوقف الشامل والفوري لجميع الأعمال العسكرية. واتخذت السلطة الرسمية عددا من الإجراءات الأمنية والتنظيمية الداخلية، وضمنها اعتقال كوادر في الجبهة الشعبية وحركتي حماس والجهاد الإسلامي وأغلقت عددا من مؤسساتهما الحزبية والإعلامية ووضعت اليد على مراكزهما الاجتماعية والصحية. واعتقدت قيادة السلطة أن هذه الإجراءات تقطع الطريق أمام عدوانية شارون وتقلص جبهة الخصوم والأعداء
وبدلا عن استيعاب “قوى المعارضة” الدوافع والأسباب التي دفعت القيادة الفلسطينية لاتخاذ هذه الإجراءات، وقع شرخ في العلاقات الداخلية، أثر بصورة وأخرى على مسيرة الانتفاضة، وأعلنت هذه القوى، في بيانات مستقلة، تمسكها بالمقاومة المسلحة ضد الاحتلال باعتبارها حق مشروع. ودعت إلى التعبئة العامة..!؟ وأكد بعضها عزمه مواصلة عملياته القتالية بكل أنواعها وتنفيذ عمليات استشهادية ضد المدنيين الإسرائيليين. وبدلا عن قيامها بمبادرات ذاتية نوعية تحول دون عزل النضال الوطني في الساحة الدولية، دعت قيادات المعارضة في بيانات علنية إلى؛ (عدم الرضوخ إلى قرار ما يسمى بوقف إطلاق النار، وإلغاء حالة الطوارئ. والمشاركة في صنع القرار وإلغاء قرار إغلاق مؤسسات حركتي حماس والجهاد الإسلامي. وعدم الارتهان إلى خيار ما يسمى بالمفاوضات السياسة العبثية على أساس مرجعيات واتفاقات أوسلو وتحت رعاية أمريكية منحازة)..الخ. واعتبرت إجراءات قيادة السلطة مسا بالوحدة الوطنية يضعف تماسك الجبهة الداخلية.
وبدلا عن مراجعة الذات واستخلاص العبر المفيدة مما حصل للشعب الفلسطيني بعد العمليات “الاستشهادية” ضد المدنيين الإسرائيليين، تصرف أنصار العمليات “الانتحارية” وكأن شيئا لم يحصل في مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية. ولم يأبهوا بنتائج موقفهم على الوحدة الوطنية ومصالح المواطنين. وضربوا عرض الحائط رأي الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين. واستهتروا برأي قوى عربية وعالمية صديقة تعارض هذا النمط من العمليات وترى فيه تشويها لصورة النضال الفلسطيني المشروع، ويلحق أضرارا كبيرة وواسعة بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني. ونفذ بعضهم عمليات عسكرية جديدة ضد المدنيين الإسرائيليين. وكانت عملية حماس في “نتانيا” أواخر آذار”مارس” 2002 كافية لإضفاء مصداقية عالية لحديث شارون عن الإرهاب الفلسطيني. ووفرت للمؤسسة الأمنية الدعم الأمريكي اللازم لتنفيذ “عملية الجدار الواقي” التي زرعت القتل والخراب والدمار في شتى أنحاء الضفة الغربية.
وإذا كان لا مجال في هذه الورقة سرد مجريات عملية “الجدار الواقي” فإن قيادة حماس لا تستطيع إنكار أن عملية “نتانيا” سهلت على شارون الشروع في اليوم التالي في هجومه الشامل على مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية. ووفرت ذريعة برر بها مواصلة وتصعيد أعمال القتل والإغلاق والحصار والاعتقال وتدمير مؤسسات السلطة الفلسطينية وتدمير ممتلكات الناس. ولا تستطيع إثبات براءتها التامة من تهمة توفير الفرصة لشارون لتفريغ حقده القديم وتدمير مخيم جنين وأجزاء واسعة من حي القصبة في مدينة نابلس. وقتل ما لا يقل300 فلسطيني وجرح قرابة 3000 آلاف واعتقال أكثر من 6000 بقي منهم 2000 حتى الآن في السجون الإسرائيلية يعانون أقسى أنواع العذاب.
لا خلاف مع قيادة حركة حماس وأنصار العمليات “الإستشهادية” ضد المدنيين الإسرائيليين، في الفصائل والمجتمع الفلسطيني، حول عدالة الموقف الفلسطيني وشرعية مقاومة الاحتلال. وصحيح ما تقوله حماس والآخرين، أن لدى شارون وأركانه مشروعا قديما يقوم على قتل وتهجير أكبر قدر من الفلسطينيين، وضم مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية، وتدمير السلطة الفلسطينية وفرض قيادة بديلة عميلة، وتدمير عملية السلام ونسف نتائجها على الأرض وشطب الاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية التي تم التوصل إليها منذ العام 1993 وحتى الآن، وتحطيم مقومات قيام دولتهم فلسطينية مستقلة بجانب دولة إسرائيل…الخ لكن الصحيح أيضا أن العمليات “الانتحارية” التي نفذت ضد المدنيين الإسرائيليين خلقت أيضا حالة من الرعب في الشارع الإسرائيلي وحب الانتقام ووحدته خلف شارون. وأضعفت قوى السلام، ودفعت المجتمع الإسرائيلي إلى أحضان أحزاب اليمين التي تنادي بالموت للعرب وترحيل الفلسطينيين. وسهلت على شارون إخفاء أهدافه ونواياه الحقيقية ونقض الاتفاقات الأمنية. وكرس الاعتماد على الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في حفظ أمن الإسرائيليين، وأجاز لنفسه، تحت سمع وبصر العالم، حق اختراق مناطق السلطة الفلسطينية متى شاء.
وإذا كانت العمليات الانتحارية أثبتت فشل شارون والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية نسبيا في توفير الأمن للإسرائيليين، وألحقت خسائر اقتصادية وبشرية كبيرة بإسرائيل، فإنها في الوقت ذاته وضعت الشعب الفلسطيني أمام خطر خسارة العديد من الإنجازات الهامة التي حققها في السنوات القليلة الماضية، وعرضته إلى خطر إسقاط نموذج الحالة الأفغانية على نضاله العادل والمشروع ضد الاحتلال وسهلت وصمه بالإرهاب في مرحلة أصبح “الإرهاب والإرهابيين” مطاردين دوليا في كل مكان.
لا شك في أن التباين حول المواقف من العمليات انتحارية مسألة طبيعية، مثله مثل الخلاف حول المشاركة في عملية السلام، ومسائل فكرية وسياسية أخرى كبيرة كثيرة. لكن الأعراف الديمقراطية ومبدأ الحرص على الوحدة الوطنية يحرمان أي طرف حسم قضايا الخلاف بفرض رأيه بالأمر الواقع على الآخرين، وتنفيذ ما يحلو له حتى لو أدى إلى كوارث وطنية. خاصة إذا كان هذا الطرف خارج السلطة ورفض المشاركة في الانتخابات.
وأظن أن من يفرض رأيه ينسف القاسم المشترك مع الآخرين. وفي هذا السياق نسفت عمليات حماس والجهاد الإسلامي السابقة والأخيرة أسس الإطار القيادي المعروف بقيادة “القوى الوطنية والإسلامية” الذي تشكل مع بداية الانتفاضة. ولم يعد بمقدور حركة فتح وحزب فدا وحزب الشعب وجبهة النضال الشعبي، والمنظمات والإتحادات الشعبية وتجمع البلديات..الخ من القوى والمؤسسات المناهضة للعمليات الانتحارية مواصلة العمل مع حماس في إطار قيادي واحد. وجعل صيغة “قيادة الانتفاضة” الحالية التي تجمع “القوى الوطنية والإسلامية” عبئا ثقيلا على الانتفاضة ذاتها. وسكوت هذه القوى على سلوك حماس وتفردها بالقرار يضعف قدرتها على خوض هذه المعركة الداخلية الفكرية السياسية الهامة، ويشوش الصورة في نظر المواطن الفلسطيني. وعندما تصبح حركتي حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية في دائرة القوى الإرهابية المستهدفة أمريكيا وأوروبيا وغدا من قبل النظام الرسمي العربي.. فان ذلك يشكل، في الظرف الراهن مأزقا ليس فقط لهذه القوى بل وأيضا للقيادة الشرعية الفلسطينية.
اعتقد أن العمليات الانتحارية التي تستهدف المدنيين الإسرائيليين ألحقت أضرارا واسعة بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني. والحرص على هذه المصالح يفرض على القوى المقتنعة بأهميتها إجراء مراجعة شاملة لموقفها واستخلاص عبر التجربة. وقراءة التطورات الدولية قراءة واقعية، والاعتراف بان المهمة المركزية في هذه المرحلة تقليص نسبة الخسائر وليس تحقيق مكاسب سياسية جديدة. وهذه القوى مطالبة تأكيد التزامها بوقف جميع الأعمال التي تسهل على شارون تفريغ حقده ضد الفلسطينيين وتنفيذ أحلامه القديمة بتصفية الحركة الوطنية. صحيح أن قهر الاحتلال، وما قام ويقوم به الجيش الإسرائيلي في الضفة وقطاع غزة، ساوى الموت بالحياة عند نسبة كبيرة من الفلسطينيين. ويدفع كثيرين إلى اختيار الموت في عملية انتقامية “انتحارية” على حياة القهر والذل. لكن وقائع حياة الفلسطينيين وتجاربهم النضالية تؤكد أن هذا الدرب من المقاومة والخلاص الفردي لا يعالج في هذا الزمان الألم والعذاب الجماعي، بل يزيد فيه ويوسع انتشاره ويضعف النضال ضد الاحتلال في جبهات أساسية أخرى.
وإذا كانت القيادة الشرعية “السلطة” ملزمة في المرحلة الراهنة بعمل ما يلزم لفرض سلطة القانون وحماية المصالح العليا للشعب الفلسطيني ووضعها فوق جميع الاعتبارات الأخرى. فان دحض هذه نظرية “العمليات الإستشهادية” لا تتوقف على السلطة الرسمية وحدها، وليست الأساليب الأمنية أنجع الحلول. إنها معركة فكرية سياسية قبل أي شيء، لا تحسم بتصنيف علماء الدين لها “استشهادية” أو “انتحارية”، أو بفتوى دينية حول موقع منفذ العملية “الإستشهادية” عند الله يوم القيامة. ميدانها الشارع الفلسطيني ووسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة. والتحضير لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية الجديدة لا يتعارض مع خوضها الآن، وخوض معركة التغيير والإصلاح الداخلي أيضا. وحان الوقت للقوى والأحزاب الوطنية للمجلس الوطني والتشريعي هيئات وأفراد، واتحاد الكتاب والمثقفين والصحفيين والاتحادات الشعبية الأخرى والنقابات..الخ المعارضين لهذا النمط من العمليات، التحرر من الابتزاز ومن عقدة الحرص على الوحدة الوطنية وتركيز الجهد في مواجهة الاحتلال، ورفع أصواتهم دفاعا عن قناعتهم وعن المصالح العليا للشعب الفلسطيني. وأتمنى أن تساهم القوى والأحزاب والنقابات والكتاب والمثقفين العرب في هذه المعركة الفكرية بإدلاء الرأي، خصوصا أن نتائجها تؤثر على الجميع.
وتخطئ المعارضة إذا اعتقدت أن إضعاف إسرائيل، بدعم أمريكي، للسلطة الفلسطينية يوفر فرصة لخلق نوعا من ازدواجية السلطة. ومفيد أن يتذكر الجميع أن الشعبين الفلسطيني والأردني دفعا دما زكيا ثمن شعار ازدواجية السلطة الذي رفعته فصائل في المقاومة الفلسطينية في الأردن العام 1970. وان العالم يعيش منذ انتهاء الحرب الباردة مطلع العقد الماضي مرحلة القطب الأوحد. والولايات المتحدة الأمريكية صادرت القرار الدولي، وبعد أحداث 11أيلول “سبتمبر” زاد تفردها في رسم وجهة السياسة الدولية، وأظن ان التصادم المباشر معها ينم عن غباء سياسي أقرب إلى الانتحار. ودائما هناك مساحة واسعة للحركة بين الاستسلام والانتحار.