هل يقتحم شارون مقر عرفات ويخلط الاوراق في المنطقة

بقلم ممدوح نوفل في 20/04/2002

بعد أسبوع كامل من جولاته المكوكية بين القدس ورام الله، لم ينجز وزير الخارجية الأمريكية “باول” مهمته كما حددها الرئيس كلينتون. وعاد يوم 17 نيسان “إبريل” الجاري إلى واشنطن قبل تحقيق انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق الفلسطينية التي احتلتها بعد 28 آذار “مارس” الماضي. وفي مؤتمره الصحفي الذي عقده في القدس قبل مغادرة المنطقة، حاول “باول” أن يبدو متوازنا في موقفه. وتهرب من الإجابة على أسئلة الصحفيين حول الجدول الزمني لانتهاء العمليات الحربية، وانسحاب القوات الإسرائيلية من المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وحول تصوره لحل قصة حصار مقر عرفات وكنيسة المهد. ورفض الاعتراف بالفشل، وتذرع بأنه اكتشف أن القصة معقدة أكثر مما كان يتصور، وحلها بحاجة لوقت أطول مما توقع، وان مدير وكالة الاستخبارات المركزية “تنيت” والمبعوث “زيني” و”بيرنز” مدير دائرة الشرق الأوسط في الخارجية سيصلون المنطقة، ويستكملون ما لم ينجزه. ولم يحدد موعد وصول أي منهم ونسي أن رئيسه كلينتون قال على إسرائيل وقف عملياتها والانسحاب فورا من المناطق التي احتلتها.
بعد مغادرة “باول” وفشل مساعده “بيرنز” في تحقيق ما لم يحققه الوزير تداول الفلسطينيون أسئلة كثيرة منها؛ هل تحدى شارون الإدارة الأمريكية وافشل مهمة “باول” أم أن “باول” أجاد لعب دور ساهم في رسمه ؟ وماذا بعد فشل القوة الأعظم” في معالجة الصراع، هل من أفق لتدويله أم انه سوف يتواصل والأيام القادمة حبلى بمفاجئات وتطورات دراماتيكية؟
لست من أنصار تفسير الأحداث انطلاقا من وجود مؤامرات تديرها أجهزة المخابرات خلف الكواليس في إطار “لعبة الأمم”. واعتقد أن اعتماد مصالح الدول وموازين القوى قاعدة لقراءة الأحداث وتفسير المواقف يظهر الحقيقة ويكشف المؤامرات في وجودها. وفي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي اعتقد أن أوراق جميع الأطراف مكشوفة.
قبل تحرك الوزير “باول” إلى المنطقة، ظلت الإدارة الأمريكية عشرة أيام كاملة صامتة على أعمال القتل والتدمير والاعتقال التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، شعبا وقيادة وسلطة وممتلكات. ووقف بوش يتفرج على النيران التي أشعلها شارون في المنطقة، ويستمتع الاثنان بمنظر عرفات محاصرا في مقره في مدينة رام الله، وقال “بوش” هذا ما جنته يداه. وظل يطالبه بذل جهد أكبر في محاربة الإرهاب، وهو يعرف انه لا يستطيع الاتصال بأي من أركانه الأمنيين والسياسيين. وكشف موقفه عن شراكة أمريكية إسرائيلية في الحرب ضد الفلسطينيين، حيث اعتبر بوش وأركانه ما قامت به حكومة شارون في مدن ومخيمات وقرى الضفة الغربية جبهة جديدة في إطار الحرب ضد الإرهاب التي أعلنها بعد أحداث أيلول “سبتمبر” في واشنطن ونيويورك.
وفجر دعم بوش مواقف شارون وتصاعد العدوان الإسرائيلي، موجة غضب قوية في الشارع العربي والعواصم الأوروبية ضد هذه الشراكة. وتعرضت إدارة بوش لنقد عربي ودولي شديد. وأصدر مجلس الأمن الدولي أكثر من قرار لم يستطع المندوب الأمريكي معارضتها. دعت جميعها الحكومة الإسرائيلية إلى وقف عملياتها الحربية ضد الفلسطينيين فورا، وسحب قواتها من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها مؤخرا. وأعلن الاتحاد الأوروبي فشل الإدارة الأمريكية في رعاية عملية السلام وطالب بصيغة رعاية جديدة يكون الاتحاد طرفا رئيسيا فيها.
واضطر سيد البيت الأبيض “بوش” إلى الدفاع عن الدور الأمريكي في الشرق الأوسط، وبدّل صيغة خطابه السياسي. ودعا إسرائيل إلى وقف عملياتها الحربية في الأراضي الفلسطينية، وسحب قواتها إلى مواقعها قبل يوم 28 آذار الماضي، واستخدم كلمة فورا بعد مراوغة مكشوفة. وأعلن انه قرر إيفاد وزير خارجيته إلى المنطقة لوقف إطلاق النار ووضع الترتيبات اللازمة لتنفيذ خطة “تنيت” الأمنية، وتقرير “ميشيل” وإعادة الطرفين إلى طاولة المفاوضات.
إلى ذلك، لم تكن القيادة الفلسطينية بحاجة إلى عشرة أيام حتى تكتشف تواطؤ إدارة بوش مع شارون. وكان عرفات على علم بخطة شارون “الجدار الواقي” قبل شروعه في تنفيذها. وكانت معلوماته تؤكد أن إدارة بوش اطلعت على خطة شارون ووافقت عليها. ووضعت ثلاث شروط على شارون. الأول، أن لا تؤدي العملية العسكرية إلى نسف عملية السلام وتدمير ما انبثق عنها من اتفاقات وترتيبات عملية على الأرض، وضمنها مؤسسات السلطة الفلسطينية المدنية والعسكرية. والشرط الثاني، ان لا تؤدي إلى حرب إقليمية أي عدم القيام بعمليات “ترانسفير” تزعزع أوضاع الدول المجاورة. والثالث عدم المس بعرفات شخصيا.
وعندما رفض نائب الرئيس الأمريكي “ديك تشيني” اللقاء بعرفات خلال زيارة المنطقة، قبل الحرب، وحاول اللقاء بعدد من الشخصيات الفلسطينية رفض عرفات الطلب. وكان على يقين ان هدف الزيارة “تشيني” للمنطقة تضليل الزعماء العرب، والتمهيد لضرب العراق والبحث عن بديل لعرفات. وأوعز أبوعمار للعاملين في مقره في رام الله، تخزين كميات كبيرة من التموين وأمر بحفر بئر ماء في ساحة “المقاطعة” لمواجهة الحصار وقال؛ أنه سوف يكون طويلا.
وقبل وصوله إسرائيل زار “باول” عددا من الدول العربية، وعقد اجتماعا رباعيا في مدريد ضم الأمين العام لأمم المتحدة، ووزير الخارجية الروسية، ووزير الخارجية الإسبانية ممثلا عن الإتحاد الأوروبي. وفي جميع العواصم العربية التي زارها واللقاءات التي عقدها سمع “باول” موقفا رئيسيا واحدا خلاصته: الضغط على شارون لوقف الحرب التي يشنها ضد الفلسطينيين. استمرار التعامل مع عرفات باعتباره رئيس الشعب الفلسطيني المنتخب بصورة ديمقراطية. وربط المحادثات الأمنية الفلسطينية الإسرائيلية بمفاوضات سياسية. وإنعاش الوضع الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية باعتبار ذلك كله اقصر الطرق وأنجعها في محاربة الإرهاب.
في حينه سجل بعض الزعماء العرب ملاحظات على جدول زيارة “باول”، وتسائل ملك المعرب عن سبب عدم بدأ الجولة بزيارة إسرائيل والأراضي الفلسطينية. وفسر الفلسطينيون الأمر أن إدارة بوش منحت شارون بضع أيام إضافية لكمال أهداف حربه. وتوقعوا ارتكاب شارون جرائم كبيرة قبل وصول “باول”. وهذا ما وقع في مخيم جنين والقسم الأثري القديم من مدينة نابلس. ورغم فظاعة جرائم الجيش الإسرائيلي خصوصا في هذين الموقعين صمت بوش وأركانه وصمت “باول” ولم يجد وقتا لزيارة المخيم.
وزاد قلق الفلسطينيين من الصمت الأمريكي، واستوعبوا أبعاد قبول “باول” اللقاء بالرئيس عرفات في مقره قبل فك الحصار عنه سحب الدبابات الإسرائيلية من محيطه. وفي لقاءه بالرئيس عرفات استمع “باول” جيدا لعرض مطول قدمه عرفات حول الاعتداءات الإسرائيلية ونتائجها على الشعب الفلسطيني، وعلى عملية السلام ومجمل الوضع المنطقة. ولم يتردد عرفات في القول صراحة: انه لا يستطيع الموافقة على إعلان وقف إطلاق النار الذي يطالب به شارون قبل انسحاب القوات الإسرائيلية إلى مواقعها قبل يوم 28 آذار”مارس” الماضي. وان شارون نجح في تدمير الأجهزة الأمنية الفلسطينية والمدنية، إضافة إلى الدمار الهائل الذي لحق بالمدن والقرى والمخيمات وبالاقتصاد الفلسطيني. وان السلطة الفلسطينية غير قادرة على النهوض بالمهام الأمنية المطلوبة قبل إعادة بناء هذه الأجهزة. وشدد ابوعمار على ضرورة وجود قوات طرف ثالث، دولية أو أمريكية أو متعددة الجنسية، للفصل بين الطرفين وملء الفراغ الأمني، ريثما ترمم السلطة أوضاعها ويعاد بناء الأجهزة الأمنية والمدنية الفلسطينية.
من جهته، أبدى “باول” تفهما للأوضاع الفلسطينية الصعبة، ولم يبدي أية ملاحظة على الرؤية الفلسطينية التي عرضها عرفات. وأكد أن مهمته تتجاوز وقف إطلاق النار وسحب القوات الإسرائيلية إلى مواقعها قبل 28 آذار “مارس” الماضي. وانه قدم للمنطقة اخلق الظروف الملائمة لتنفيذ الرؤية الأمريكية التي طرحها الرئيس بوش لتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، كاملة.
ويعتبر الانسحاب ووقف إطلاق النار وخطة “تنيت” وتقرير “ميتشيل” خطوات أولية على طريق تنفيذ رؤية الرئيس بوش. ويؤمن بضرورة ربط الخطوات الأمنية بخطوات سياسية، وان محاربة الإرهاب تتطلب تلازم الإجراءات الأمنية مع فتح أفق سياسي ينهي الإحباط ويزيل اليأس من النفوس، وتحسين الأوضاع الاقتصادية للسكان. وأكد انه باق في المنطقة حتى عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل العملية الإسرائيلية واستئناف المفاوضات السياسية بين الطرفين.
وكشفت اللقاءات تراجع الإدارة الأمريكية عن طلب الانسحاب فورا، ووافقت على تنفيذه وفق خطة شارون. وتتضمن إقامة مناطق عازلة حول المدن والمخيمات، وحرية العودة إليها متى شاء لأغراض تتعلق باعتقال “الإرهابيين” المطلوبين.
وبدلا من الضغط على شارون وإلزامه تنفيذ أطروحة بوش، تدهور وضع الفلسطينيين الأمني والمعيشي وصار أسؤ مما كان عليه قبل وصول “باول”. وزاد الجيش الإسرائيلي أعمال القتل والاعتقال والنسف والتدمير وصارت أكثر وحشية وهمجية. وكشفت وسائل الإعلام هول المجزرة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في مخيم جنين ومدينة نابلس. وشدد شارون حصاره حول مقر الرئيس عرفات وقطع الماء والكهرباء والهاتف عنه. ولم تتورع عن إطلاق النار باتجاه كنيسة المهد واستخدمت رصاصا حارقا وحرقت غرفتين أثريتين.
وفي آخر لقاء عقد مع عرفات حمل الوزير “باول” تصور شارون للانسحاب، وشروط فك الحصار المضروب حول مقر القيادة الفلسطينية في رام الله، وحول كنيسة المهد في بيت لحم. وساند طلب شارون تسليم المتهمين بقتل الوزير “زئيفي”، ومن تتهمه إسرائيل بقصة سفينة السلاح “كارين A”. ولم يقدم “باول” جدولا زمنيا للانسحاب، ولم يتعهد بمنع الجيش الإسرائيلي من إعادة احتلال المناطق التي ينسحب منها.
ورفض عرفات شروط شارون ومطالبه، وتأكد الوفد الفلسطيني أن لا خلاف في إطار الإدارة الأمريكية، وجولة “باول” ومساعده “بيرنز” ذر رماد في عيون العرب والاتحاد الأوروبي والمعنيين باستقرار أوضاع المنطقة. وغادر “باول” وترك المنطقة على “كف عفريت” اسمه شارون، وصار وضعها ينذر بوقوع تطورات دراماتيكية. وتركه المنطقة قبل تحقيق الأهداف التي تحدث عنها يبهت قيمة زيارته لعرفات وتأكيد شرعيته، وزيارته سوريا ولبنان لتهدئة الوضع على الحدود الإسرائيلية اللبنانية.
وبات عرفات في دائرة الخطر الشديد. ويخشى أركان القيادة الفلسطينية أن يكون “باول” منح شارون ضوءا اخضر لاقتحام مقر عرفات، تماما كما منح “بوش وتشيني” شارون ضوءا اخضر واقتحم مناطق السلطة الفلسطينية. والمضي قدما في خطة إعادة فك وتركيب القيادة الفلسطينية وفرض قيادة بديلة، وزج الفلسطينيين في صراع داخلي مؤلم وطويل. ويحمل الفلسطينيون الإدارة الأمريكية مسئولية اقتحام مقر عرفات اذا تم، ومسئولية نتائج هكذا عمل أرعن.