تدمير الاجهزة الامنية مبرر كاف لوجود قوات دولية

بقلم ممدوح نوفل في 25/04/2002

ظهر يوم 23 نيسان الجاري وصلت مجموعة صغيرة من الشبان الملثمين، مسلحين بأسلحة خفيفة، إلى “دوار الساعة” وسط مدينة رام الله. نزلوا من سيارتهم وأنزلوا معهم ثلاثة شبان، رموهم على الأرض وأطلقوا عليهم النار، وقالوا هذا عقاب الخونة والجواسيس.. قلة من المواطنين صدقت ما قيل، آخرون قالوا تصفية حسابات شخصية وعائلية، والجميع هرب من المكان خشية تدخل القوات الإسرائيلية الموجودة قرب المكان لاعتقال الملمثين. وفي اليوم التالي تكر المشهد في الخليل.
وبعد انسحاب القوات الإسرائيلية من أجزاء واسعة من مدينتي رام الله والبيرة، تحدث عدد من أصحاب المنازل والمحلات التجارية عن سرقة بيوتهم ومحلاتهم التجارية. ووقفت امرأة أمام مبنى وسط رام الله تملك فيه محلا تجاريا، خلع الجيش الإسرائيلي أبوابه وسرق بعض أفراده قسما من موجوداته، وصرخت في وجه مجموعة لصوص أفرغوا محتويات محلها، وقالت؛ خافوا الله هذه أغراض محلي، يكفي ما فعله الاحتلال بنا. واصل الشبان شغلهم ولم يكترثوا لصراخها ولم يتحرك أحد لوضع حد لهذه الجريمة.
وخلال فترة الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في الضفة، واصلت بعض الأطراف الفلسطينية عملياتها العسكرية ضد المستوطنات ومواقع الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة. وسقط خلال أقل من أسبوع أكثر من خمسة عشر شهيدا معظمهم أطفال دون السادسة عشر، شاركوا في عمليات عسكرية نجحت واحدة فقط.. وأسفرت عن قتل جندي إسرائيلي واحد وجرح بضع جنود آخرين. وفشلت بقيتها واستشهد منفذوها دون إلحاق خسائر بالجنود أو المستوطنين الإسرائيليين. وتؤكد بيانات حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” أن هذين التنظيمين ماضيين في خط الكفاح المسلح وتنفيذ مزيد من العمليات”الاستشهادية” في المدن الإسرائيلية وضد المستوطنات والمواقع العسكرية الإسرائيلية في الضفة وقطاع غزة، بغض النظر عن الذي فعله شارون في الضفة الغربية، وعن الذي يمكن أن يفعله في مدن ومخيمات قطاع غزة.
الأمثلة أعلاه نموذج عن ظاهرة عامة تعيشها الساحة الفلسطينية هذه الأيام. وتقدم صورة واقعية عن تباين الرأي حول العمل العسكري، وحال الأمن الداخلي والخارجي الفلسطيني، وقدرات أجهزة الأمن الفلسطينية في الضفة الغربية بعد اجتياح الجيش الإسرائيلي مدنها وقراها ومخيماتها.
نعم، نجح شارون بجدارة في العام الأول من عهد حكومته في تدمير أجهزة الأمن الفلسطينية، والحق خسائر فادحة بممتلكات المواطنين. قبل عملية “الجدار الواقي”، ركز الجيش الإسرائيلي ضرباته الانتقامية ضد المؤسسة الأمنية الرسمية. وفي كل مرة كانت حركة “حماس” أو حركة “الجهاد الإسلامي” أو “كتائب الأقصى” التابعة لحركة فتح تنفذ عملية كبيرة أو صغيرة داخل إسرائيل أو في الضفة والقطاع، كانت مراكز ومجمعات؛ قوات الشرطة، وقوات الأمن الوطني “الجيش”، وقوات ال 17، والقوة البحرية والمخابرات العامة، والاستخبارات العسكرية، والأمن الوقائي..الخ هدفا لغارات الطيران الإسرائيلي وقذائف المدفعية والدبابات. ودمرتها جميعها باستثناء “المقاطعة” في رام الله و”مقاطعة” الخليل. وتفككت وحدة هذه الأجهزة واهتز تماسكها، وتبعثر أفرادها في مباني قيد الإنجاز. وفقد قادتها سيطرتهم المهنية والإدارية على القوات، وعاش الإفراد خارج قوانين الضبط والربط العسكرية، وتحولوا إلى مجموعات مليشية غير مستقرة في مكان.
وفي عملية “الجدار الواقي” أكمل شارون وأركانه في المؤسسة العسكرية مشروع شطب وتدمير المؤسسة الأمنية الفلسطينية، ووسعوا بيكار عمليتهم العدوانية وطالت منازل وممتلكات المواطنين. وأمروا قواتهم تدمير وتخرب ونهب المؤسسات الفلسطينية المدنية ولم تسلم وزارات الصحة والتعليم والأشغال العامة والمواصلات ودوائر الإحصاء والأحوال المدنية..الخ وتعاملوا مع أفراد وضباط أجهزة الأمن على أنهم قوة معادية، قسم يمارس”الإرهاب”، والآخر يتستر عليه ويغذيه. وقتل واعتقل وجرح الجيش الإسرائيلي مئات من كوادرها وأفرادها. وجردهم من أسلحتهم وملابسهم وأهانهم أمام عدسات المصورين، وشاهد الناس في كل مكان عمليات الإهانة والإذلال التي تعرضوا لها. وفي التحقيق معهم سمع كوادر وأفراد الأجهزة الأمنية كلاما زاد في قناعتهم أن الاحتلال لا يميزهم عن المتهمين بممارسة الإرهاب، ويريدهم عملاء يوظف طاقاتهم في إدامة استعمار شعبهم وصيانة أمن إسرائيل والإسرائيليين وضمنهم المستوطنون.
وبصرف النظر عن الذي يعتمر في نفوس الضباط والأفراد ضد الإحتلال، فان ما تعرضت له الأجهزة الأمنية التي ينتمون إليها، قبل وخلال “الحرب الفلسطينية الإسرائيلية الثانية” يؤكد :
أولا، إن استهداف الأجهزة الأمنية الفلسطينية، هي ترجمة دقيقة لقرار شارون وأركان المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تدمير عملية السلام وإلغاء الاتفاقات الأمنية الموقعة بين الطرفين، ونسف مبدأ التعاون والتنسيق الأمني والاعتماد على القدرات الأمنية الإسرائيلية في حماية أمن إسرائيل والإسرائيليين. وخلق حالة فراغ أمني في مناطق السلطة الفلسطينية. وارباك نظام حياة المجتمع الفلسطيني وتعطيل تطوره، وشل عمل السلطة في حفظ الأمن الاجتماعي. وإيجاد ذريعة دائمة لاستمر احتلال الجيش الإسرائيلي أجزاء من مناطق “ألف”الخاضعة للسيطرة الفلسطينية الكاملة، وتبرير دخول المدن الفلسطينية متى شاء. وإشغال الفلسطينيين والرأي العام العالمي عن عمليات نهب الأرض وتوسيع الاستيطان وخلق واقع أمني ديمغرافي يصعب تغيره.
ثانيا: لا شك في أن قوات وأجهزة الأمن في الضفة تلقت ضربة قوية أضعفتها لدرجة تقترب من إلغاء وجودها. وهذه الأجهزة تحتاج فترة زمنية لا تقل عن 6 شهور لإعادة لملمة أوضاعها، شريطة توفر المساعدات المالية واللوجستية اللازمة فورا. وبديهي القول أن هذه الأجهزة بالكاد تتمكن خلال هذه الفترة من النهوض بمهمة حفظ الأمن الداخلي. ولن تتمكن قبل عام من النهوض بمهام أمنية أخرى، خصوصا منع وقوع عمليات عسكرية في قلب المدن الإسرائيلية وضد المستوطنين وأفراد ومواقع الجيش الإسرائيلي في الضفة. وحديث عرفات مع وزير الخارجية الأمريكي “باول” ومساعده “بيرنز” ومع الوفود العربية والأوروبية التي زارته مؤخرا، عن عجز السلطة الفلسطينية الوفاء بأي التزامات أمنية في الشهور القادمة، حديث صريح يصور الواقع بدقة. ويخلو من المبالغة أو التهرب من الالتزام بواجبات أمنية كما يدعي شارون. وأظن أن تفاعل كوادر وأفراد أجهزة الأمن الفلسطينية مع مهمات محاربة “الإرهاب” كما يتصوره بوش وشارون ، أمرا شبه مستحيل بعد الذي تعرضوا له على يد قوات الاحتلال.
ثالثا: أكدت وقائع الحياة أن الفلسطينيين والإسرائيليين لن ينعموا بالأمن والأمان قبل الوصول إلى حل سياسي مقبول من الطرفين. وأن عملية السلام وما انبثق عنها من اتفاقات سياسية وأمنية لم توفر الأمن العام والخاص للفلسطينيين. وان سكان المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية أحوج من المواطنين الإسرائيليين في تل أبيب وحيفا والقدس، إلى من يوفر لهم الأمن والأمان على حياتهم وممتلكاتهم. وإذا كانت العمليات “الانتحارية” الفلسطينية دفعت المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف، فعملية “الجدار الواقي” وما رافقها من مجازر وأعمال همجية، دفعت الفلسطينيين في كل مكان إلى الكفر بالسلام. وأجزم أن لا أفق لحل سياسي في عهد شارون ومع اليمين الإسرائيلي.
رابعا: يخطأ شارون وأركانه الأمنيين إذا اعتقدوا أن عمليتهم الحربية الواسعة ضد الفلسطينيين، سلطة وشعب وممتلكات وتنظيمات، حققت المعاني والأهداف التي تضمنها اسمها “الجدار الواقي”. صحيح أن الجيش الإسرائيلي نجح في قتل واعتقال عددا من كوادر القوى الوطنية والإسلامية التي تمارس العمل العسكري، ودمر إلى حد كبير البنية التحتية لما تسميه إسرائيل الإرهاب، إلا أن خبراء مكافحة الإرهاب في إسرائيل وفي كل مكان، يعرفون أن صناعة لغم في صيغة حزام ناسف، لا يحتاج إلى مصانع وورش حدادة طويلة عريضة. وبقاء بضع كوادر خبراء في صناعة المتفجرات الشعبية على قيد الحياة خارج السجون الإسرائيلية، يكفي لصناعة أحزمة ناسفة تكفي عشرات العمليات “الانتحارية. ولعل مفيد تذكير شارون وجميع من هلل “لعملية الجدار الواقي” أن قناصا ببندقية قديمة قتل وجرح جميع أفراد حاجز “عيون الحرامية”. وان “الانتحاريين” وصلوا قلب مدينة القدس ونتانيا في وقت كان الجيش الإسرائيلي يحاصر جميع المدن الفلسطينية، وكانت عملية الجدار الواقي في أوجها. ويعرف الواقعيون في المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية أن أمن إسرائيل والإسرائيليين يتحقق عبر سياج السلام وليس ببناء الجدران الواقية والأسلاك الشائكة. وبصرف النظر عن تقييم شارون وموفاز وبن اليعازر لنتائج عملية “الجدار الواقي” فالمؤكد أنها هدمت قواعد ومرتكزات توفير أمن حقيقي للشعبين، ولم تبنى جدارا يصون امن الإسرائيليين. وأشغلت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في مهام طويلة عريضة داخل المدن والقرى الفلسطينية على حساب مهامها الأمنية داخل إسرائيل. وتوسيع العمليات الحربية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية يزيد في غرق هذه الأجهزة في المستنقع الفلسطيني .
وإذا كان باول ورجال ال C I A والمبعوثين الأوروبيين وأركان المؤسسة الأمنية الإسرائيلية يقرون أن لا أفق لسلام بين الطرفين في مدى قريب، وأن عملية “الجدار الواقي” خلقت فراغا امنيا في الضفة الغربية، وأجهزة الأمن الفلسطينية غير قادرة على ملأ هذا الفراغ في الشهور القادمة، فالاستخلاص المنطقي والعملي الوحيد هو ملء الفراغ بقوات طرف ثالث، تفصل بين الطرفين ريثما يتم إعادة بناء قوات الأمن الفلسطيني، وإحياء عملية السلام. ويفضل الفلسطينيون أن تكون قوة دولية تتشكل بقرار من مجلس الأمن الدولي، ولا يعترضون على أن تكون أمريكية صرفة أو متعددة الجنسية من جنسيات ترضى عنها إسرائيل. وبديهي القول أن عشرة أو مئة مراقب أمريكي يوافق شارون على وجودهم لا يحل الإشكال. ولا احد يضمن أن تكون القوة الأمريكية هدفا للمتطرفين، بسبب انحياز إدارة بوش للموقف الإسرائيلي.
وإقرار الجميع ان السلام بين الشعبين بات بعيد المنال بعد عملية “الجدار الواقي”، يفرض تعجيل وصول هذه قوات الدولية. وسلفا يمكن القول أن تأخر وصولها يقود إلى أحد أمرين: استمرار الوضع الأمني على حاله، وبقاء الاحتلال بصيغته الجديدة القائمة على الأرض. أو انسحاب القوات الإسرائيلية إلى مواقعها السابقة وعودة الوضع الأمني إلى ما كان عليه قبل “الحرب الفلسطينية الإسرائيلية الثانية” التي لم تستكمل فصولها حتى الآن.