صورة الشرق الاوسط عام 2025

بقلم ممدوح نوفل في 11/03/2002

تجمع القوى والحركات والأحزاب السياسية الفلسطينية والعربية والإسرائيلية،اليمينية واليسارية، على أن الشرق الأوسط، شعوبا وحكومات، دخل منذ مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، مرحلة جديدة تختلف نوعياً عن جميع المراحل التي مرت به منذ نكبة الفلسطينيين وقيام دولة إسرائيل عام 1948. وأظن أن لا خلاف بينها على أن استشفاف آفاق مستقبل المنطقة البعيد، عملية ليست هينة واقرب إلى مغامرة فكرية مجردة. فهذه المنطقة متقلبة ومليئة بالمفاجئات ودور الحاكم الفرد في الدول العربية لا يزال حاسما. والسؤال، الآن، حول صورة وضعها في عام 2025 مثلا، أشبه بنكتة تقال في مجالس العزاء تجرح شعور كثيرين. خاصة ان الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي مشغولان بتشيع أحبة يسقطون يوميا في الصراع الدامي المحتدم بينهما، ولا مجال لأي منهما التفكير في المستقبل البعيد. وبالكاد يستطيع المواطن الفلسطيني التفكير في أمنه الشخصي وحركته وتدبير لقمة عيشه، واستطلاعات الرأي العام تشير أن حالة المواطن الإسرائيلي ليست أحسن بكثير.
لكن النظر لهذا السؤال الكبير من زاوية أخرى والتعمق في أبعاده، يبين أن طرحه الآن مفيد ليس فقط لجهة التخطيط الإستراتيجي للمستقبل المشترك البعيد بل وأيضا في معالجة الوضع الراهن المؤلم الذي يعيشه الفلسطينيون والإسرائيليون ومعهم، بصيغة وأخرى، بقية شعوب المنطقة. ويمكن لقراءة مستقبل المنطقة ان تكون دقيقة أو قريبة من الدقة إذا تحرر صاحبها من ضغط الواقع ومن المواقف المسبقة، وقرأ المسالة بصورة موضوعية مجردة من الرغبات الذاتية. واستند إلى الحقائق التاريخية الثابتة التي لم تتغير رغم كل الظروف والتطورات الكبيرة والصغيرة التي مرت بها شعوب المنطقة. أهمها، أن تجربة الصراع العربي الإسرائيلي، الطويلة والمرة، أكدت للطرفين أن ليس بمقدور أيا منهم نفي وجود الآخر أو شطب هذا الوجود. وبعد ثلثي قرن من الصراع الدموي اقتنعا أن لا حل لخلافاتهما حول الوجود والحدود بالقوة. واستجابا لدعوة الرئيس الأمريكي الأسبق “جورج بوش” ووضعا السلاح جانبا، ودخلا عام 1991 مفاوضات مباشرة بأمل حل خلافاتهم بالوسائل السلمية.
وبغض النظر عن الآراء العربية والإسرائيلية،المتفائلة أو المتشائمة أو المتشائلة (حسب تعبير أميل حبيبي)، من آفاق عملية السلام، أعتقد أن لا أحد يستطيع إعادة هذه المنطقة إلى ما كانت عليه قبل انتهاء الحرب الباردة، وقبل انطلاق عملية السلام وتوصل منظمة التحرير والأردن، وقبلهما مصر، إلى اتفاقات ثنائية مع إسرائيل. وإذا كانت مسيرة مسارات المفاوضات الإسرائيلية العربية متعثرة الآن، فالمؤكد أن ملفات الحروب الشاملة في الشرق الأوسط قد أغلقت، وملف حالة اللاحرب واللاسلم لن يظل مفتوحا فترة طويلة. وسيضطر أطراف الصراع إلى إحداث تغيرات جذرية في استراتيجياتهم الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية وفتح ملفات جديدة لعلاقات من نمط جديدة.
وإذا كان تشابك المصالح والتقدم العلمي وتطور الصناعة وبخاصة في مجال الاتصالات حوّل العالم الى”قرية كبيرة” فإقليم الشرق الأوسط حارة صغيرة في هذه القرية، لا يستطيع أهلها العيش بمعزل عن الآخرين. وبقاؤها مضطربة يتعارض مع مصالح واستراتيجية قوى دولية كبرى كثيرة، في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي باتت تهيمن على الوضع الدولي برمته وتقرر توجهاته السياسية والاقتصادية. وأظن أن أحداث 11 سبتمبر2001 في واشنطن ونيويورك وإعلان إدارة الرئيس الأمريكي بوش الحرب على الإرهاب في كل مكان تثبت هذا الاستخلاص، وتضغط على الطرفين للتوصل إلى اتفاقات تصنع سلاما دائما وثابتا بينهما. وقدر الفلسطينيين والعرب والإسرائيليين العيش معا في هذه المنطقة وخير لهم وقف النزيف البشري والاقتصادي الحاصل الآن، والتوصل إلى مثل هذه الاتفاقات بأسرع وقت ممكن قبل ان يمل العالم من صراعهم المزمن ويفرض عليهم حلا. والانطلاق سويا نحو معالجة المعضلات الطبيعية والبشرية التي سوف تواجههم، كمجموعة وأطراف، في المدى المنظور والبعيد.
أعتقد ان المسألة “الجيوسياسية” هي أعقد هذه المعضلات. حاولت إسرائيل حلها بالقوة، واحتلت في العام 1967 أراضي جيرانها الفلسطينيين والمصريين والسوريين واللبنانيين والأردنيين. وجاءت وقائع الحياة وأكدت فشل هذا الأسلوب في حل هذه المعضلة التاريخية، ودفعت شعوب المنطقة ثمنا باهظا على حساب تقدمها وتطورها. والمؤكد أن التأخر في حلها بصيغة مقبولة من الجميع يزيد في الخسائر ويعقد المشكلة أكثر فأكثر. ولا يمكن لأي باحث موضوعي تجاهل كيف لعبت حالة الحرب وحالة اللاسلم الطويلة بين العرب وإسرائيل في عسكرة المجتمع الإسرائيلي، وفي طمس نضال الشعوب العربية من أجل الديمقراطية وانتزاع حقوقها المدنية وتحسين مستوى تقدم حياتها اليومية.
وبصرف النظر عن آراء ومواقف القوى الإسرائيلية من مستقبل التعايش بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي على أرض واحدة، فسوف يكون على أرض فلسطين “الإنتدابية” قبل عام 2025 دولتان مستقلتان ذات سيادة لهما حدودا دولية واضحة ومحددة على أساس قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242؛ فلسطينية يصل عدد سكانها قرابة تسعة ملايين فلسطيني، عبر التكاثر الطبيعي وعودة أقسام واسعة من اللاجئين الذين أجبرتهم إسرائيل على الرحيل من بيوتهم ومدنهم وقراهم عام 1947 ـ 1948، وهريت من حل مشكلتهم طوال هذه السنين. وبجانب الدولة الفلسطينية سيكون هناك دولة إسرائيل يصل عدد سكانها إلى نفس عدد سكان الدولة الفلسطينية تقريبا. وأشك أن بامكان إسرائيل المحافظة على هويتها كدولة يهودية خالصة. خصوصا ان عدد الأقلية العربية يتوقع أن يصل في العام 2025 إلى أكثر من 300 ألف من دون عودة أي لاجئ، وهناك أعداد كبيرة تعتنق ديانات أخرى.
لن يكون في عهد السلام الشامل الذي سوف يتم التوصل إليه حتما، مشكلة اسمها أمن إسرائيل والإسرائيليين، أو حقوق الأقلية العربية في إسرائيل، وسوف تحصل هذه الأقلية على كامل حقوقها بالوسائل الديمقراطية وقد يصل إلى صيغة من الحكم الذاتي. وأتوقع أن يلعب العرب في إسرائيل ونسبة من اليهود الشرقين القادمين من المغرب والعراق وسوريا واليمن ولبنان دورا مهما في تنمية العلاقات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية بين إسرائيل والدول العربية.
إلى ذلك، ستواجه إسرائيل وجميع دول المنطقة وشعوبها مشكلات مختلفة عن التي يدور حولها الصراع الآن وتزهق فيه أرواح أبرياء من الطرفين. منها مشكلة مكافحة التطرف في الجانبين، ومشكلة المياه وشحة الموارد الطبيعية الأخرى بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. وإذا كانت كميات المياه المتوفرة تمثل مشكلة حقيقية لقرابة 13 مليون إنسان يعيشون على ضفتي نهر الأردن فليس عسيرا تصور تعقيداتها عندما يتضاعف عددهم قبل عام 2025.
وبصرف النظر عن مواقف القوى المتطرفة في الجانبين فإن إقفال ملفات الحروب وإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم في المنطقة سيؤدي بشكل مباشر إلى تراجع قضايا الصراع القومي والوطني ضد العدو الخارجي ممثلا بإسرائيل عند العرب، والعرب عند إسرائيل. وتراجع هذا الصراع يصب حتما في صالح نمو الصراع الاجتماعي والطبقي داخل ستة كيانات في المنطقة (إسرائيل وفلسطين ومصر والأردن وسوريا ولبنان) بأشكال ومستويات متفاوتة داخل كل كيان.
ولا تسرع في القول ان صنع السلام الحقيقي العادل والشامل والدائم في المنطقة يفسح في المجال على المدى المتوسط والبعيد، نحو إعادة رسم الخريطة “الجيوسياسية” للمنطقة. وإذا كان الحديث في مرحلة من مراحل المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية حول كونفدرالية ثلاثية؛ أردنية، فلسطينية، إسرائيلية، وثنائية أردنية ـ فلسطينية أعتبر في حينه حديثا خيالا أظن انه في عهد السلام يتحول إلى حديث واقعي له مقومات الانبعاث على ارض المنطقة. والشيء ذاته ينطبق على ارتباط إسرائيل بصيغة وأخرى بجامعة الدول العربية، أو أحد التجمعات الجديدة التي ستظهر في مرحلة السلام.
منذ العام 1991 اعتقدت ان “مؤتمر مدريد للسلام” وما انبثق وسينبثق عنه من اتفاقات سلام كان ولا يزال بمثابة محطة فاصلة بين حقبة قديمة عاشتها شعوب المنطقة وأخرى جديدة لا تزال في طور التشكل والتكوين. ومسار حركة التاريخ يؤكد أن انتقال الشعوب من حقبة تاريخية إلى أخرى نوعية جديدة، يستوجب المرور في مرحلة أو مراحل انتقالية، يتخللها جذب وصراع قد يطول وقد يقصر، بين الماضي القديم فكرا وأدوات، وبين الجديد القادم بفكرة والقادر على خلق أدواته وكل المستلزمات الضرورية لفرض الذات. ومستقبل أجيال الطرفين العربي والإسرائيلي تفرض على الجميع تحويل مسألة صنع السلام في المنطقة إلى استراتيجية ثابتة، وتوفير جميع مقومات ومستلزمات تحقيقها بأقل زمن ممكن، وبأقل قدر ممكن من الخسائر البشرية والاقتصادية أيضا. وخير لشعوب المنطقة تجاوز المرحلة الانتقالية الغارقين فيها وحولها بأسرع وقت، والتعامل مع الحقائق الموجودة على الأرض والجديدة التي ستظهر من الآن وحتى العام 2025.
اعتقد أن من حق إسرائيل أن تطالب الفلسطينيين والعرب بالاعتراف بها وتطبيع العلاقات معها، وبالأمن والأمان على مصيرها ومستقبلها، لكن هذا الطلب يندرج في باب المستحيل إذا استمرت القيادة الإسرائيلية في رفض الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، واستمرت في احتلال أراض عربية، ورفضت تحديد وترسيم حدودها مع جيرانها. وأيضا إذا لم تتم تصفية الماضي بمآسيه، وتصفيته تتطلب الوصول إلى مصالحة تاريخية بين الشعبين. تبدأ باعتراف القيادة الإسرائيلية بمسؤوليتها عن الظلم التاريخي والجرائم الفظيعة التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني وعدد من الشعوب العربية الأخرى منذ عام 1948 وحتى الآن، وينتهي بحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين حلاً عادلاً. والمطالبة بهذا النوع من الاعتراف حق مشروع للشعب الفلسطيني وله ضروراته النفسية والمعنوية. ألم تطالب القيادة الإسرائيلية وقيادات اليهود في العالم دولة ألمانيا بالاعتراف بجرائمها التي ارتكبتها النازية في الأربعينات؟ إن تأكيد الشعب الفلسطيني عدالة المطلب الإسرائيلي واليهودي من الدولة الألمانية، يمنح هذا الشعب حق مطالبة إسرائيل والصهيونيه العالمية بالاعتراف أنها ألحقت به ظلما تاريخيا والمطالبة بتصحيحه.