العد العكسي لحكومة شارون يدفعه لارتكاب حماقات كبيرة

بقلم ممدوح نوفل في 07/03/2002

“لو كنت اعرف أن الوضع سيصل إلى ما وصل إليه لما كنت شاركت في هذه الحكومة لأننا لم نحقق أي هدف”. هذه جملة معبرة قالها “شمعون بيريس” للصحافة بعد اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي يوم 5 آذار”مارس” الجاري، تقيم بدقة سنة من عمر حكومة شارون. بيريس كان أبرز المنظرين لمشاركة حزب العمل في حكومة إتحاد وطني برئاسة شارون، وهو من السياسيين المخضرمين القادرين على استشفاف آفاق المستقبل وتحسس العاصفة قبل هبوبها والقفز من السفينة قبل غرقها. واعترافه بفشل الحكومة التي أرسى أسس قيامها، مؤشر إلى أن فترة العد التنازلي لوجود هذه الحكومة قد بدأ، وأن بيريس بدأ بالتكيف مع اتجاهات الرأي العام الإسرائيلي الذي بدأ يقصف شارون وحكومته بقذائف نقد ثقيلة.
قبل يومين فقط من مقتل 21 عسكري ومدني إسرائيلي مساء وصباح يومي الثاني والثالث من آذار “مارس” الجاري في القدس وحاجز “عيون الحرامية” على طريق نابلس القدس، أظهر استطلاع للرأي العام الإسرائيلي أجرته صحيفة “معاريف” واسعة الانتشار؛ تفوق نتنياهو على شارون بعشرة نقاط. وأن 68% من الإسرائيليين مقتنعون بأن وضع إسرائيل بعد عام من حكم شارون أسوء مما كان عليه. وقال 78% أن خطته حكومته الاقتصادية فشلت. وقال 61% أنها فشل في تحقيق الأمن، وزاد عدد العمليات “الإرهابية” في عهده وارتفع عدد القتلى، وليس من بارقة أمل بوقف هذا النزيف في عهد هذه الحكومة.
بيريس وشارون وجميع السياسيين الإسرائيليين المحترفين يؤمنون باستطلاعات الرأي العام ويتأثرون بها، ويتعاطى كل منهما معها حسب مصالحه الحزبية والشخصية. مصالح بيريس الشخصية والحزبية دفعته بعد عام من الشراكة إلى الشروع في تهيئة الرأي العام وتحضير قواعد الحزب لتقبل خروجه وخروج حزبه من حكومة الإتحاد الوطني. ومصالح شارون الشخصية ومصالح حزب الليكود تدفع شارون وأركانه من اليمين لتعديل النسب التي أظهرتها استطلاعات الرأي. ويركز شارون باتجاه الحقل الأمني الذي يفضله ويجيد اللعب فيه والأكثر حساسية عند الإسرائيليين. وقفز عن الحقل الاقتصادي لمعرفته الكاملة أن لا حلا سحريا لوقف تدهور الاقتصاد الإسرائيلي، وانتعاشه من جديد مرتبط بتخلص الاقتصاد العالمي من حالة الركود التي يمر بها.
ويعتقد شارون أن قدرات جيش الدفاع الإسرائيلي وخبرته في محاربة “الإرهاب” تكفي لتحقيق إنجازات سريعة في الحقل الأمني يوظفها في تحسين صورته. وأمر قادة أذرع الأمن تنفيذ خطة “رحلة بالألوان” التي وضعها الجيش للقضاء على “الإرهاب” المنبعث من المخيمات. وصادق على اقتحام مخيمي بلاطة جنين في المرحلة الأولى، باعتبارهما بؤرتان رئيسيتان. وحدد هدف العملية؛ ضرب البنية التحتية للإرهاب وتدمير معامل الذخائر والمتفجرات..اعتقال”المخربين” المطلوبين الذي لم يعتقلهم عرفات. تعطيل انطلاق “الانتحاريين” لتنفيذ عمليات في إسرائيل. وابلغ شارون إدارة بوش بقراره ونال موافقتها مرفوقة بتمنيات عدم إراقة دماء المدنيين.
ويظن شارون أن اقتحام المخيمين ومخيمات أخرى وعرض صور الدبابات الضباط والجنود الإسرائيليين داخلها عبر شاشة التلفزيون، يعيد صورته أمام الجمهور، صانع المعجزات الأمنية، التي على أساسها انتخبوه العام الماضي بنسبة عالية أذهلت الجميع. ويعتقد أن اقتحام المخيمين يرهب القيادة الفلسطينية ويدفعها لوقف العمليات”الإرهابية”واعتقال قوائم المطلوبين. ويرعب القوى الوطنية والإسلامية والمواطنين، ويقنعهم أن أزقة المخيمات والشوارع الضيقة في المدن والقرى لا توفر الأمن الشخصي لأحد. وتلقف رئيس الأركان ونائبه القرار بحماس وشرعا في تنفيذه بأمل إنقاذ سمعة الجيش وسمعتهما. ورفض شارون وموفاز الأخذ بتحذيرات قائد المنطقة الوسطى في الجيش”الجنرال اسحق إيتان”، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية” الجنرال”أهرون ليفي”اللذان اعتبرا عملية “رحلة الألوان” خطيرة جدا ونتائجها ضئيلة لا تستحق المجازفة ويمكن الاستعاضة عنها بأساليب أخرى أفعل وأقل كلفة.
ورفض أيضا سماع تحذير خبراء ومحللين إستراتيجيين إسرائيليين ضمنهم سياسيين وعسكريين متقاعدين، من رد الفعل الفلسطيني. وتوقع بعضهم فشل العملية في تحقيق أهدافها الأمنية وإلحاق مزيدا من الأذى بسمعة الجيش. وشبهوا مهمة الجيش في المخيمين، وخصوصا اعتقال المطلوبين والانتحاريين ومصادرة الأسلحة، بأحمق أضاع وقته في البحث عن إبرة في كومة قش. وقالوا؛ إذا كان شارون عزا فشله في اعتقال المطلوبين، أثناء اقتحام مدينة طولكرم قبل بضعة أسابيع، إلى هروبهم للمخيم المجاور، فسيفشل في اعتقالهم في مخيمي بلاطة وجنين لأنهم يهربون إلى مدينتي نابلس وجنين الملاصقتين للمخيمين.
ما توقعه الخبراء والمحللون حصل. ولم يفلح الجيش الإسرائيلي باعتقال أيا من المطلوبين. وعثر على عدد محدود من الأسلحة الخفيفة والمتفجرات لا تؤثر في حجم ونوعية سلاح المخيمين. ودمر عديد المنازل بنتها وكالة غوث اللاجئين. وصبغ خطة”رحلة بالألوان” بلون الدم، وقتل 24 فلسطيني وجرح 150 في يوم واحد، بينهم أطفال وشيوخ ونساء أبرياء. وفي اليوم الثاني من اقتحام مخيم بلاطة تبجح جنرال عنصري وقال “شبهوا لنا مخيم بلاطة بالنمر الكاسر لكن النمر تحول إلى قط “. ولم يفكر شارون وأمثال هذا الجنرال برد الفعل ونتائج الرعب واليأس والحقد والكراهية التي زرعوها في نفوس الفلسطينيين، وأبعاد إحياء ذكرى مجازر صبرا وشاتيلا.
وقبل إكمال الجيش الإسرائيلي مهمته في المخيمين نفذ فلسطينيون في أقل من 24 ساعة عدة عمليات عسكرية؛ فجر أحد “الانتحاريين” من مخيم الدهيشة نفسه في حي “بيت يسرائيل” في القدس الغربية. وهاجم قناص حاجز “عيون الحرامية”، المشهور بتنكيله بالفلسطينيين. وهاجم مقاتلون قافلة عسكرية تحرس حركة المستوطنين في قطاع غزة. وقتل في العمليات الثلاث 22 إسرائيلي بعضهم نساء وأطفال أبرياء. وصمت الجنرال صاحب “قصة النمر الذي تحول إلى قط” بعد تمكن “قط” صغير ذكي بمفرده من قنص طاقم حاجز عسكري بأكمله. وذهل شارون وأركانه من فشل أذرع الأمن الإسرائيلية في منع وقوع هذه العمليات، وفشل أفراد جيش الدفاع في الدفاع عن أنفسهم. وارتفعت أصوات قوية يمينية طالبته بإعلان الحرب الشاملة ضد الفلسطينيين وتدمير تنظيم فتح وسلطة عرفات، باعتبار منفذي هذه العمليات ينتمون لفتح. قابلها أصوات من اليسار دعت لنبذ الحل العسكري والعودة لطاولة المفاوضات، بعضها طالب بإنهاء احتلال الضفة والقطاع. وكلا الاتجاهين، اليميني واليساري، اتهم شارون بالفشل في تحقيق الأمن.
أعتقد أن الأزمة الفلسطينية الإسرائيلية بلغت ذروتها، وبدا العد التنازلي للمرحلة حكم شارون. وأي استطلاع جديد للرأي العام الإسرائيلي يظهر خسارة شارون نقاطا إضافة للنقاط الأربعين التي خسرها في العام الأول من حكمه. وسيخسر في الأسابيع والشهور القليلة القادمة مزيدا من رصيده. ولن ينجح شارون في وقف خسارته، ووقف تدهور شعبيته وتدهور أوضاع حكومته. خاصة لا أفق لحسم المعركة ووقف عمليات الفلسطينيين بالعمل العسكري. ومسار الحرب على المخيمات ورفع معدل الشهداء من أربعة إلى عشرة يوميا يؤجج الصراع ويزيد العمليات ضد الإسرائيليين ويوسع دائرة المنخرطين فيها ويجعلها أثر دموية.
إلى ذلك، يخطئ من يعتقد أن فترة العد التنازلي لحكم شارون قصيرة، بل ستكون طويلة ودامية والعد فيها بطيء. لأسباب منها؛ شارون ليس من صنف البشر الذي يعترف بفشله ويعتكف في منزله، كما فعل “بيغن” وقبله “بن غوريون” عندما واجهوا أزمات كبيرة كالتي يواجهها شارون. بل من الصنف العنجهي العنيد المغامر الذي يرفض الاعتراف بالحقائق المرة، ويهرب دائما إلى الأمام بأمل تحقيق نجاحا جديدا يغطي فشله. وأقواله “هذا النمط من النشاط سيتواصل من مخيم إلى مخيم ومن مدينة إلى مدينة”، وأعماله الأخيرة في منطقة بيت لحم وطولكرم وغزة وقصف مقر عرفات في رام الله تؤكد انه يتصرف على قاعدة ما لم يتحقق بالقوة الحالية يتحقق بقوة أكبر. وهدفه كان ومازال تدمير السلطة الفلسطينية ونسف مقومات قيام دولة مستقلة.
السبب الثاني هو ضعف المعارضة. صحيح ان نسبة عالية من الإسرائيليين بدأت تتفهم حقيقة وأبعاد خطة شارون الأمنية العسكرية، إلا أن المعارضة المنظمة، خارج الحكومة، ليست في وضع يمكّنها تقصير فترة حكم شارون. وأوضاع حزب العمل مترهلة ولا يملك برنامجا بديلا يلتف حوله الإسرائيليون للخروج من المستنقع الدموي. وانسحابه من حكومة الإتحاد الوطني قد لا يتم في وقت قريب. والسبب الثالث يتعلق بموقف الإدارة الأمريكية الداعم لسياسة شارون والمحبط لقوى السلام في إسرائيل. لا تكتفي بالإمتناع عن توجيه لوم أو نقد لسياسة شارون يفيد المعارضة، بل تشجع بيريز وبن اليعازر على استمرار بالمشاركة في حكومة شارون وعدم الانسحاب منها.
حاليا، الوضع يتدهور بسرعة ويتجه نحو تصعيد نوعي، ولا أفق سياسي في الفترة القريبة القادمة، فقط قتل يقابله قتل. وفترة الأيام والأسابيع المعدودة التي تفصلنا عن زيارة نائب الرئيس الأمريكي “تشيني” للمنطقة وعن قمة العرب في بيروت أواخر آذار/مارس الجاري، تحمل في طياتها تطورات ومفاجئات كبيرة. يسقط خلالها ضحايا كثيرة في الطرفين وليس طرف واحد. وتسيل دماء ودموع بغزارة في الاتجاهين وليس اتجاه واحد. وقول شارون علنا “يجب ضربهم بقوة وإلحاق هزيمة بهم ثم مفاوضتهم” يشير ألا انه فقد توازنه. وقد يرتكب حماقات متنوعة على شاكلة مجازر صبرا وشاتيلا، وإصدار أوامر باغتيال مستويات قيادية فلسطينية عليا.
لا شك في أن الإدارة الأمريكية هي الجهة الوحيدة القادرة على وضع حد لتهور شارون في فترة نزوله من قمة الهرم السياسي. فهل ستتحرك بهذا الاتجاه وتدفع باتجاه وقف إطلاق النار ومراقبته من قبل طرف ثالث، أم أنها سوف تترك شارون يفعل ما يريد ؟ وهل سيمارس “تشيني” ضغطا على شارون لوقف مجازره ضد الشعب الفلسطيني والتراجع عن سياسته المدمرة لعملية السلام واستقرار المنطقة، أم انه سوف يشجعه على أعماله ويعتبرها حربا ضد الإرهاب..؟ وهل حالة شارون وتوجهاته الجديدة تدفع بيريس وقادة حزب العمل إلى الانسحاب بأسرع مما نتوقع ؟