تفعيل العمق العربي مهمة فلسطينية ملحة

بقلم ممدوح نوفل في 27/01/2002

بعد انتهاء الحرب البارد مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، اعتمد العرب استراتيجية تقوم على حل نزاعهم مع إسرائيل بالطرق السلمية. واعتقدوا أن اعتماد “التحالف الدولي” الذي انتصر في تلك الحرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، مبدأ حل النزاعات الإقليمية بالطرق السلمية، يوصل آجلا أو عاجلا إلى سلام بين العرب وإسرائيل. وجاءت وقائع الحياة وبخاصة في العام الماضي 2001، وأكدت أن هذا الاستخلاص غير ثابت وغير دقيق. ولم تنجح الجهود الدولية والإقليمية الهائلة التي بذلت من اجل صنع السلام، ببناء سياج متين يحمي الاتفاقات وعلاقات السلام من عدوانية القوى المتطرفة، وفشلت في إرساء الأسس اللازمة لبقاء خيار السلام خيارا وحيدا لمعالجة هذا النزاع المزمن. وظهرت اللقاءات والاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية المتنوعة والمفاوضات العربية الإسرائيلية، العلنية والسرية، وكأنها خدعة كبيرة استمرت 10 سنوات لم تبني أخلاقية واضحة بين الطرفين ولم ترسي مبادئ ثابتة لعلاقة سلمية نامية ومتطورة بينهما.
وأيا تكن خلفيات انتخاب شعب إسرائيل شارون قبل قرابة عام (6شباط 2001) رئيسا للوزراء بأغلبية كبيرة، فوقائع الصراع أكدت أن انتخابه كان بمثابة ردة إسرائيلية عن السلام مع العرب. وانقلاب سياسي نوعي عكس تمرد أغلبية في المجتمع الإسرائيلي على الوفاق الدولي وعلى توجهات القوى الإقليمية والدولية الراغبة في استقرار أوضاع هذه المنطقة المضطربة من العالم وتسوية الصراع بالطرق السلمية. ساهم بصورة أساسية في وقوعه وفي نجاحه؛ فشل حزب العمل في تنفيذ برنامجه الانتخابي، وتخبط زعيمه رئيس وزراء إسرائيل السابق “باراك” في إدارة المفاوضات مع السوريين واللبنانيين والفلسطينيين، وانفجار”الانتفاضة” وتنفيذ رجال “المقاومة” الفلسطينية سلسلة عمليات دموية ضد المدنيين الإسرائيليين. ويشبه محللون عرب وإسرائيليون هذا الانقلاب بالانقلاب الذي وقع في إسرائيل عام 1977، عندما فاز اليمين الإسرائيلي بالسلطة واستمر في الحكم خمسة عشر سنة وقعت خلال تطورات دراماتيكية كثيرة.
ويمكن القول ان ما تشهده الأراضي الفلسطينية في هذه الفترة يمثل نهاية مرحلة وبداية أخرى جديدة شديدة التعقيد، من حياة ليس منظمة التحرير وعرفات والسلطة الفلسطينية فحسب، بل المنطقة العربية برمتها وبخاصة الدول والشعوب المحيطة بفلسطين. وبغض النظر عن حجم ومستوى مسئولية كل طرف من أطراف حركة التحرر الوطني العربية عن حالة الضعف والهوان التي يعيشها النظام السياسي العربي، فما يجري في الضفة وقطاع غزة امتحان مصيري عسير لها جميعها وليس للفلسطينيين وحدهم. فرضه على الجميع انحراف المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين واندفاعه بقوة خلف شارون والقوى المتطرفة المعادية للسلام، وفشل عملية السلام ورحيل كلينتون من البيت الأبيض، وتبدل الأولويات الأمريكية بعد زلزال 11 أيلول/ سبتمبر الماضي في واشنطون ونيويورك ، وتحول عدد من الدول والأحزاب العربية إلى هدف مباشر في توجهاتها الجديدة وإعلان إدارة بوش حربا مفتوحة ضد الإرهاب.
وبصرف النظر عن مدى رغبة أطراف النظام السياسي العربي في خوض هذا الامتحان ومدى تحضيرهم له فهو بناء على التوجهات الأمريكية الجديدة فحص إلزامي وليس اختياري لا مناص من خوضه. وسياسة شارون لم تترك لهم منفذا لتجنبه، ولا خيار لهم سوى النجاح، ومصير من يحاول الهرب لن يكون أفضل من مصير نعامة دفنت رأسها في الرمل هربا من صياد طاردها. لقد قرر شارون شطب عملية السلام التي عرفها العرب، وإلغاء الاتفاقات التي وقعتها إسرائيل مع الفلسطينيين، ولا أفق لإحيائها أو صنع عملية بديلة في عهد شارون إلا إذا وافق الفلسطينيون والسوريون واللبنانيين على شروطه المذلة. وإعلان الرئيس بوش، في خطابه أمام الكونغرس، حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله منظمات إرهابية يشجعه على المضي قدما تنفيذ توجهاته.
الى ذلك، أظهرت أحداث العام الأخير أن إدارة الرئيس بوش ليست بصدد الضغط على الشارون وإجباره على التراجع عن توجهاته المدمرة للسلام بين العرب وإسرائيل، أو الانغماس في البحث عن حلول للنزاع العربي الإسرائيلي، خاصة أنها لم تتعرض لضغوط عربية جدية من عيار متوسط او ثقيل. وأقصى ما تسعى إليه في زمن حربها ضد الإرهاب هو منع تحول النزاع الفلسطيني إلى نزاع لإقليمي وإبقائه تحت السيطرة، واستيعاب الوضع في الضفة والقطاع عبر الضغط المتواصل على عرفات. وتبريد حدة التوتر المسلح على الجبهة اللبنانية السورية، والضغط على الحكومتين السورية واللبنانية للجم تصرفات حزب الله وتجريده من سلاحه، وإلزامه بتغيير برنامجه الجهادي ضد الاحتلال قبل انسحاب إسرائيل من بقية الأراضي اللبنانية المحتلة وقبل إطلاق سراح اللبنانيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية.
ويتصرف شارون باعتبار أحداث11أيلول/سبتمبر في واشنطن ونيويورك وما تلاها، وحالة الضعف والهوان التي يمر بها العرب، توفر له فرصه تاريخية لحل معضلة أمن إسرائيل الإستراتيجية، الديمغرافية والعسكرية. وفي معرض رده على سؤال حول المستقبل طرح في محفل مغلق من المقربين، قال شارون؛ أفكر في جلب مليون مهاجر يهودي خلال5 ـ10 سنوات من الأرجنتين ودول شرق أوروبا، وسأخلق بهم واقعا جديدا في يهودا والسامرة والجولان. وتفاخر بالوقائع التي صنعها في الجولان والضفة وقطاع غزة خلال فترة حكم الليكود التي استمرت من 1977 وحتى 1992. وعند سؤاله عن مصير الفلسطينيين قال بعضهم يبقى بيته والآخرون تستوعبهم بلاد العرب الواسعة وبعد10 سنين تتغير مواقفهم ومطالبهم، “ويخلق الله ما لا تعلمون”. ونجح في انتزاع موافقة أمريكية على شن حرب استنزاف ضد الفلسطينيين. وأرسل رئيس هيئة أركانه إلى واشنطون للبحث في دور إسرائيل في محاربة الإرهاب في الشرق الأوسط. ونجح ” الجنرال موفاز” بمساعدة اللوبي الإسرائيلي، في إقناع أركان الإدارة الأمريكية بان عرفات منبع الإرهاب في المنطقة. وبدلا عن الضغط على إسرائيل، ساند بوش إجراءات إسرائيل وانتهاكها المستمر لحقوق الإنسان الفلسطيني، وأبدى تفهما لمحاصرة مقر عرفات المنتخب من قبل شعبه. ويسعى شارون في زيارته لواشنطون في 6 شباط القادم إلى الحصول على ضوء أخضر لحسم الموقف عسكريا، وتدمير السلطة والإطاحة برئيسها، وفتح جبهة جديدة ضد حزب الله وضد الوجود السوري في لبنان وضد برنامج السلاح الاستراتيجي الإيراني. وتصريحات الرئيس بوش وأركانه في وزارة الدفاع والأمن والخارجية حول الشرق الأوسط تشير إلى انه سيحصل على معظم ما يريد.
أعتقد أن تراجع أوضاع النظام السياسي العربي لم يصل مستوى الخضوع والاستسلام لإرادة شارون. وبالرغم من حالة الضعف والهوان، لا تزال الحكومات والأحزاب العربية تملك مقومات خوض الامتحان المفروض عليها. ونجاحها في التأثير في الأحداث الدراماتيكية المتلاحقة يتطلب:
أولا/ استخلاص واقعي لدروس وعبر مرحلة التراجع التي مر بها النظام السياسي العربي في العقد الأخير، والقفز فورا عن جميع الحساسيات الخاصة التي واكبتها. ورسم توجهات سياسية جديدة تنطلق من إعادة النظر في المواقف والسياسات التي ثبت خطأها، والتخلص من صورة الرجل المريض العاجز عن الفعل. وإذا كان بعض الحكومات والقوى والأحزاب العربية العلمانية والإسلامية مقتنعون بأن السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير قصرتا في إشراك القوى العربية في بلورة السياسات الفلسطينية التي لها بعدا قوميا، فالفكر السياسي العربي يزدهر ويتقدم بمقدار ما يطلق العنان للحوار الجدي الرزين، والقيادة الفلسطينية لديها ما تقوله في سياق الدفاع عن النفس. ومثل هذه الملاحظات يمكن تأجيل بحثها إلى ما بعد انقشاع غبار المعركة. والخلاف حولها لا يبرر تراجع دور أطراف النظام السياسي العربي، بشقيه الرسمي والشعبي، في إسناد الانتفاضة ودعم صمود الشعب الفلسطيني وقيادته في محنته.
ثانيا/ إعادة الاعتبار للمصالح القومية العليا المشتركة ووضعها فوق الاعتبارات الأخرى. والتخلص من طغيان المفاهيم القطرية والحزبية الضيقة التي عطلت قدرة العرب على مساندة بعضهم بعضا، وأضعفت تأثير مواقفهم في حقل السياسية الدولية. وشلت قدرتهم على رسم مستقبل الإقليم الذي ينتمون إليه. علما أنهم الأغلبية المطلقة ويمتلكون طاقات متنوعة كبيرة وشبكة من العلاقات الدولية الواسعة، وبعضهم يحظى باحترام قطاع واسع من الجمهور الإسرائيلي. ومطالبون بحسم الموقف والتصميم على الدفاع عن وجودهم وكرامتهم. وعدم التردد في توحيد الجهود والطاقات وتوظيف الامكانات المتاحة في هذه المعركة المصيرية المفروضة عليهم. واستخدام ما تبقى من أوراق قوتهم في وجه من يساند مواقف إسرائيل المناقضة لقرارات الشرعية الدولية. وما لديهم يكفي، إذا توحد ووظف جيدا، للتأثير في السياسة الإسرائيلية ومواقف الدول الكبرى المعنية بحل النزاع العربي الإسرائيلي، وعلى رأسها الإدارة الأمريكية التي تملك القدرة على التأثير في المجتمع الإسرائيلي وفي سياسة الحكومات الإسرائيلية وضمنها حكومة شارون. خاصة أن المطالب الفلسطينية العربية منسجمة مع الشرعية الدولية. وتتركز حول وقف الأعمال العدوانية التي تشنها حكومة شارون ضد الفلسطينيين، وتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، وتنفيذ الاتفاقات التي وقعت معهم، واستئناف المفاوضات على المسارات الثلاث الفلسطيني والسوري واللبناني من حيث توقفت في عهد الحكومات الإسرائيلية السابقة.
ثالثا/لا يوجد فلسطيني عاقل يطالب العرب إعلان حرب شاملة ضد إسرائيل. ولكن هناك مساحة شاسعة بين شن الحرب على إسرائيل والصمت على الحرب الإسرائيلية المتواصلة ضد الفلسطينيين بشرا وشجرا وممتلكات. وهذه المساحة تكفي لتحرك عربي واسع وفعال. بإمكان الملوك والرؤساء والحكومات والنقابات العمالية والاتحادات الشعبية والمؤسسات الاجتماعية وجمعيات المحامين والكتاب والصحفيين تعبئة هذه المساحة بأعمال تضامنية متنوعة. ويمكنهم فعل ما هو أكبر من إصدار بضع بيانات تضامن ، وأكثر من بضع مظاهرات تحركها الأحزاب. فالبيانات والمظاهرات ليست الشكل الوحيد للتضامن ولم تعد تتناسب ومستوى تطور الأحداث. يمكنهم كسر الحصار السياسي والاقتصادي. والاتصالات التلفونية المتواصلة والزيارات التي يقوم بها الوزراء والرسل والمبعوثون الأوروبيون لمقر رئيس السلطة الفلسطينية في رام الله تمثل إدانة دامغة لزعماء النظام السياسي العربي بشقيه الرسمي والشعبي الذين يستطيعون أداء هذا الواجب القومي وقصروا في أدائه. وبامكانهم مقاطعة البواخر والطائرات ولو رمزيا، وتسكين جوع الجوعانين، وتضميد جراح المصابين، وتمكين الطلبة الفقراء من استكمال تعليمهم، وتحرير منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية من الابتزاز المالي الذي تمارسه الولايات المتحدة لأمريكية. ويمكنهم أيضا وأيضا…الخ
وفي جميع الحالات النتيجة النهائية للامتحان العسير سوف تظهر للجميع بعد انقشاع الظلام الحالك المهيمن على الأجواء الفلسطينية. وسيظهر معها ليس فقط مصير زعامة عرفات للشعب الفلسطيني، بل مستقبل الجيل الحالي من الفلسطينيين ومستقبل النظام السياسي العربي برمته. وقبل ظهور النتيجة لعل يفيد تذكير العرب ان تلكؤهم في نصرة الشعب الفلسطيني في أربعينات القرن الماضي ساهم في الكارثة الكبرى التي حلت بهم وبالفلسطينيين وعلى العرب التدقيق بمسئولية قومية في الوجهة التي تتحرك نحوها الأحداث وتحمل مسئولياتهم القومية قبل فوات الأوان. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وشكرا للجميع على ما قدموا وما قد يقدمون والتاريخ لن يرحم المقصرون…