انتصار شارون على الفلسطينيين يفتح شهيته على ضد العرب

بقلم ممدوح نوفل في 23/01/2002

بعد توصل الفلسطينيون والإسرائيليون إلى اتفاق “أوسلو” وقبل الإعلان عنه، نصح المفكر العربي اللبناني “محسن إبراهيم” “الخلية الفلسطينية” التي أدارت المفاوضات السرية في اوسلو بتجنب قدر المستطاع تهمة عمل “كامب ديفيد جديد” من خلف ظهر الزعماء والأحزاب العربية. وحذر من مفاجأتهم بالاتفاق خاصة انه يمس الجميع. وأشار لأهمية التصرف في المحطات الرئيسية بمسئولية قومية، واقترح أن يقوم ابوعمار بجولة عربية يطلع خلالها الزعماء العرب، أو الأساسيين منهم على الأقل، على نصوص الاتفاق ويطلب مباركتهم وإسناد الفلسطينيين في معركة تنفيذه الشاقة. في حينه، رفض أعضاء “الخلية”(ابومازن وياسر عبد ربه وأبو علاء وحسن عصفور) الاقتراح باعتباره يعرض الاتفاق الوليد لأخطار جسيمة ويخضعه لمناقصات ومزايدات عربية لا تنتهي. خصوصا أن مواقف بعض الحكومات العربية من الاتفاق معروفة سلفا، وتعديله متعذر. وحبذت “الخلية” توقيعه بأسرع وقت ممكن، والاكتفاء في المرحلة الأولى بإطلاع عدد محدود من الزعماء العرب على مضمون الاتفاق، وتأجيل الجولة الواسعة إلى وقت يحدد بعد التوقيع.
لاحقا وقع المحظور الذي حذر منه “محسن” أمين عام منظمة العمل الشيوعي في لبنان. وانقسم النظام السياسي العربي بعد توقيع الاتفاق في13 أيلول/سبتمبر 1993 بين مؤيد ومعارض له. ونشأ صراع فلسطيني داخلي وفلسطيني عربي حاد، كان يهدأ أحيانا ويثور من جديد عند توقيع الفلسطينيون والإسرائيليون أي اتفاق تفصيلي جديد اشتق من “أوسلو”. وحصد الفلسطينيون سلبيات هذا الصراع سنوات طويلة، وحملت حكومات وأحزاب عربية عرفات وقيادة م ت ف مسئولية الانقسام. وتسرع المعارضون “عرب وفلسطينيون” وقدروا أن عرفات سيفرط بالحقوق الفلسطينية وسوف يقدم التنازلات التي تطلبها الإدارة الأمريكية وإسرائيل وطعن بعضهم في شرعيته رغم انتخابة في عملية ديمقراطية، ولاحقا أكدت وقائع الحياة لاحقا خطا تقديراتهم.
ودفاعا عن الحقيقة، أعتقد أن ظلما كبيرا يلحق باتفاق أوسلو وصّناعه إذا حملناهم وحدهم مسئولية انقسام الساحة الفلسطينية وتشرذم النظام السياسي العربي الرسمي والشعبي في العقد الأخير من القرن الماضي. فالانقسام الفلسطيني والتشرذم العربي قائمين قبل “اوسلو” بزمن طويل، وتعمقا بعد حرب الخليج الثانية وغزو الجيش العراقي دولة الكويت عام1991. وتجذرا بعد أن قاتلت الجيوش العربية بعضها البعض، وعجز حكماء العرب عن معالجة ذيول تلك الحرب. وما تزال تعيق توحيد الموقف العربي وتفعيله في مواجهة الأخطار الكبيرة التي تحيط بالعرب جميعا، وتربك الدبلوماسية العربية في حقل السياسة الدولية. وتشل دور النظام الرسمي العربي في دعم نضال الفلسطينيين من أجل انتزاع حقوقهم المشروعة كما أقرتها الأمم المتحدة.
وإذا كان لا مجال لمراجعة شاملة لدور اتفاق أوسلو وما تلاه من مفاوضات في إضعاف التضامن العربي مع القضية الفلسطينية، فيجب الاعتراف أن هذا الاتفاق، بجانب إيجابيته الكثيرة التي يعمل شارون على تدميرها، وتر وشنج علاقة قيادة المنظمة والسلطة الفلسطينية بعدد لا بأس به من أطراف النظام السياسي العربي بشقيه الرسمي والشعبي. وتسبب بإضعاف مساندة أطراف في هذا النظام للقضية الفلسطينية، ووفر للبعض فرصة التحلل من التزاماته القومية، وتراجعوا عن اعتبارها”قضية العرب المركزية”. قابلة تراجع في اهتمام القيادة الفلسطينية بالموقف العربي، وركزت جهدها على نيل دعم الموقف الأمريكي والأوروبي في تنفيذ الاتفاق باعتبار ان ما يرضى الأمريكان يرضى به العرب. وتوسعت الفجوة بين الطرفين، وتحولت المساندة العربية الشعبية والرسمية للنضال الفلسطيني مجرد وجهة نظر. وتراجع دور مؤسسات م ت ف في تنظيم علاقة اللاجئين الفلسطينيين بالنظام السياسي العربي. واعتقد صنّاع القرار في إسرائيل والإدارة الأمريكية أنهم نجحوا في تجريد القضية الفلسطينية من عمقها العربي، وفككوا الصراع العربي الإسرائيلي إلى مجموعة أزمات متفرقة. وعزلوا القيادة الفلسطينية عن النظام العربي وأخضعوها لعملية ابتزاز طويلة عريضة.
ولا يستطيع أنصار طريق اوسلو (وأنا أحدهم) إنكار ان اتفاق اوسلو أضعف الوحدة الوطنية الفلسطينية. وأفرز تيارا انعزاليا دعا إلى اعتماد الثنائية الفلسطينية الإسرائيلية سبيلا لمعالجة النزاع. وعمل أركان هذا التيار بوسائل وطرق متعددة، على فك ارتباط القضية الفلسطينية بعمقها العربي، وتكريس الثنائية الفلسطينية الإسرائيلية منهجا ثابتا في مجالات العلاقات الاقتصادية والأمنية الثنائية. وسهل الاتفاق طريقهم وعززوا مواقعهم في إطار النظام السياسي الفلسطيني وتولى بعضهم مواقع قيادية هامة.
إلى ذلك، ظل توتر وتشنج علاقة السلطة ومنظمة التحرير بعدد من الحكومات العربية قائما حتى تأبين الرئيس الأمريكي السابق”كلينتون” مفاوضات الحل النهائي منتصف تموز2000. وبعد التأبين، تأكد العرب، شعوبا وحكومات، خطأ بعض التقديرات المتعلقة باستسلام الفلسطينيين. وتبين لمن يريد أن يرى الحقيقة أن عرفات لم يفرط بالحقوق الوطنية. ولاحظ العرب والإسرائيليون ورعاة عملية السلام أن موقف القيادة الفلسطينية في مفاوضات الحل النهائي اختلف في مفاوضات المرحلة الانتقالية، وخاصة بشأن قضايا الأرض والقدس واللاجئين. ولاحظ الجميع أن تساهل المفاوض الفلسطيني في الأولى قابله تشدد في الثانية، واعتبر بعضهم هذا الموقف تطرفا… وتأكدت قوى حركة التحرر العربية أن أنصار الثنائية الفلسطينية الإسرائيلية أقلية ضئيلة في الشارع الفلسطيني وفي الإطار القيادي المقرر. وأن بروز دورهم في مرحلة ما لا يعني ضعف التيار المؤمن بالتضامن العربي وقومية الصراع ضد إسرائيل.
وبعد انفجار”الانتفاضة الأقصى والاستقلال” أواخر أيلول/ سبتمبر2000، اهتز النظام السياسي العربي بشقيه الشعبي والرسمي، لمناظر المواجهات غير المتكافئة مع قوات الاحتلال. وظهرت بداية صحوة عربية من مرحلة السبات العميق التي عاشها العرب على مدى عقد من الزمن. وتحركت الشعوب العربية بقوة تضامنا مع ناس الانتفاضة. واستنكرت، من المحيط إلى الخليج، تدنيس شارون ساحة المسجد الأقصى وقتل الشيوخ والنساء والأطفال بدم بارد، واستعادت القضية الفلسطينية عمقها العربي. وأظن ان حركتها القوية كانت أيضا بمثابة رسالة احتجاج شعبية شديدة اللهجة على استمرار التمزق العربي. ودعوة لإحياء التضامن وإغلاق جميع الطرق أمام استفراد إسرائيل والاستعمار القديم والجديد بالشعب الفلسطيني وبأي من الدول العربية.
وأكدت المظاهرات العارمة التي اجتاحت شوارع جميع العواصم العربية في بداية الانتفاضة، وانعقاد القمة العربية مرتين خلال عام واحد..الخ للشعب الفلسطيني وقيادته، في الوطن والشتات، أن قضيتهم لا تزال حية في ذهن الشعوب العربية وحكوماتها. ولمس الفلسطينيون أنها لم تفقد موقعها المميز الذي احتلته في الفكر السياسي العربي من العام 1948وحتى عام1990. وظلت قضية العرب المركزية كما كانت دائما. وانتعش دعاة تنسيق الموقف الفلسطيني مع الدول العربية. ولام بعضهم نفسه على شعار “يا وحدنا”، الذي رفعوه إبان حصار إسرائيل مدينة بيروت عام 1982 وكرروه في بداية الانتفاضة.
واستمد الناس في الضفة وقطاع غزة من الموقف العربي الشعبي والرسمي قوة وعزيمة جديدتين وصعّدوا مواجهتهم ضد الاحتلال. ورفعوا شعارات أكدت وحدة النضال والمصير العربي المشترك، وهتفوا في الشوارع؛ “من مراكش للبحرين شعب واحد لا شعبين” و”من غزة ورام الله إلى بيروت شعب واحد لا يموت”. وتراجع أنصار الثنائية الفلسطينية الإسرائيلية وأصيبوا بنكسة قوية، وبدل بعضهم جلده واختفى من الأخبار التي تبثها وكالات الأنباء وشبكات التلفاز العربية والعالمية.
مؤخرا، مع اشتداد الأزمة وتصعيد إسرائيل إجراءاتها العنصرية ضد الفلسطينيين سلطة وشعب، وصمت الإدارة الأمريكية على هذه الإجراءات، عاد النقاش حول دور العمق العربي في إسناد الموقف الفلسطيني ، يتصدر الندوات الكثيرة التي تعقدها مراكز الأبحاث والدراسات في الضفة والقطاع. ويتساءل الفلسطينيون في جلسات السمر الطويلة التي يفرضها الحصار على الناس في جميع قرى والمدن والمخيمات حول أسباب تراجع التحرك العربي لنصرتهم في مواجهة عدو لا يرحم مريضا أو ضريرا او تلميذا، ولا يميز بين شيخ أو طفل أو امرأة. ويركز الباحثون أبحاثهم حول سبل تفعيل الموقف العربي الرسمي والشعبي في إسناد الفلسطينيين في هذه الفترة العصيبة من محنتهم الجديدة القديمة. وإذا كانت قوى حركة التحرر الوطني العربية، من المحيط الى الخليج، وضمنها القوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية لم تتعود مراجعة مواقفها والاعتراف بأخطائها، فالمصلحة القومية المشتركة تفرض على الجميع إعادة النظر في المواقف التي ثبت خطأها، والشروع برسم توجهات سياسية تتلائم والمرحلة الجديدة التي عبرها المشروع الصهيوني في المنطقة، وعبرتها العلاقات الدولية بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر. وأظن أن استمرار التمترس عند حساسيات المرحلة السابقة وتبرير الأخطاء الصارخة يندرج تحت بند “فهلوة مرحلة التراجع والانحطاط” التي عاشها النظام السياسي العربي.
وبصرف النظر عن النوايا فان استمرار صورة النظام السياسي العربي بمظهر الرجل المريض العاجز عن الفعل، يساهم في تشجيع إسرائيل والقوى الإقليمية والدولية على رفع درجة استهتارها بالعرب، ويسهل على شارون المضي قدما في مخططه الرامي إلى استسلام الفلسطينيين وتركيعهم. ولا جدال في ان انتصار شارون على الفلسطينيين يفتح شهيته لإخضاع العرب لإرادته. وناس الانتفاضة بمختلف اتجاهاتهم من أصغر بالغ وحتى الشيخ أحمد ياسين زعيم حماس يعتبرون حصار شارون مقر عرفات في رام الله حصارا للحكومات والزعماء وقادة الأحزاب والنقابات والاتحادات الشعبية العربية، ولكرامة العرب في جميع عواصمهم. ونجاحه في كسر شوكة الفلسطينيين وقهرهم وتدمير مشروعهم الوطني لن ينقذ الكرامة العربية، وإنما يمرغها في وحول نكبة جديدة أكبر من نكسة حزيران 1967. ولا يخرج حركة التحرر العربية من دائرة الصراع مع إسرائيل، بل يغرقها في معالجة ذيول هذه الهزيمة لسنوات طويلة.
وإذا كانت صرخات نساء غزة والضفة أمام على شاشات التلفزيون تحرق أعصاب الوطنيين العرب فهي في الوقت نفسه تقطع أوصال الروابط القومية. والفلسطينيون شعبا وسلطة يعتقدون ان بإمكان الحكومات والأحزاب والنقابات العمالية والاتحادات الشعبية العربية والكتاب والمثقفين مساندتهم بصورة أفعل، وتعزيز صمودهم في هذه الجولة الحاسمة من الحرب الظالمة المفروضة عليهم. وهم مقتنعون ان الموقف أكثر خطورة مما يعتقد البعض والمطروح ليس مصير زعامة عرفات للشعب الفلسطيني، بل مستقبل الجيل الحالي من الفلسطينيين ومستقبل النظام السياسي العربي برمته. وهم لا يطلبون المستحيل. ومعركة بهذا الحجم تستحق عقد قمة عربية مصغرة فورا وعدم انتظار القمة العادية المقررة في آذار القادم في بيروت. وتسحق تشكيل وفد من الملوك والرؤساء يتوجه الى رام الله ومنها الى واشنطن وباريس ولندن.. ويؤكد للرئيس الأمريكي وللزعامة الأوروبية رفض منح شارون حق تعين قيادة الشعب الفلسطيني وتقرير مصير المنطقة.