دروس مفيدة من الجولة الأولى من الحرب على الإرهاب

بقلم ممدوح نوفل في 18/11/2001

لم يصمد نظام “طالبان”، كما كان متوقعا، في مواجهة قوات “تحالف الشمال” المدعومة عسكريا وسياسيا وماليا من “التحالف الدولي” الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. وبصرف النظر عن مجريات فترة الفوضى والاضطراب التي ستمر بها أفغانستان، وطبيعة النظام السياسي الذي سيتم بناؤه في هذا البلد، فالمؤكد ان حركة طالبان وتنظيم “القاعدة” ستتآكل وتتلاشى حتى إذا بقي “أمير المؤمنين..” الملا محمد عمر وبن لادن على قيد الحياة. وسيدون المؤرخون ان مجموعة إسلامية متطرفة استولت على السلطة في أفغانستان بدعم أمريكي قدم في سياق تصفية بقايا الحرب الباردة. وان هذه المجموعة المتزمتة نشرت الجهل والظلام في أفغانستان وارتدت على الجهات الدولية والإقليمية التي رعتها وأوصلتها السلطة. واعتمدت الإرهاب وسيلة أساسية لتحقيق غاياتها، وحولت بلاد الأفغان مرتعا للإرهابيين والمتزمتين وبخاصة من يعتنقون الإسلام. وشوهت صورة العرب والمسلمين في كل مكان. وعماها تعصبها وتطرفها الديني عن فهم المتغيرات النوعية التي أحدثها سيادة نظام القطب الواحد في العلاقات الدولية.
ويخطئ من يعتقد أن قوات “طالبان” و”القاعدة” قادرة على شن حرب عصابات مؤثرة بعد الهزيمة التي منيت بها. فالعوامل السياسية الدولية والإقليمية والمحلية التي أسقطتها بسرعة، كفيلة مع الزمن شل قدرتها في البقاء على قيد الحياة. لقد نجح طالبان في السيطرة والتفرد بالحكم بعد انهيار “الاتحاد السوفييتي” وتمزقه إلى عدة دول مستقلة، وعدم اكتراث أعداء “السوفييت” بما يجري داخل أفغانستان. ونجحت المجموعات الأفغانية في شن حرب العصابات ضد “السوفيت” وأرهقتهم وأجبرتهم على الانسحاب من أفغانستان، بفضل: وجود قاعدة ارتكاز مجاورة “باكستان” استندت إليها. إضافة لتوفر دعم مادي وعسكري ولوجستي خارجي كبير استمر بالتدفق عليها طيلة فترة القتال. وجميع هذه العوامل لم تعد متوفرة. وإذا كانت طبيعة أفغانستان وقسوة مناخها ووعورة مناطقها الجبلية توفر جغرافيا مناسبة لحرب عصابات، فهذه العوامل الطبيعية وحدها لا تكفي لإدامة حرب فعّالة طويلة الأمد. ولا قيمة لها إذا لم يتوفر الدعم السياسي والمادي الداخلي والخارجي، ومثل هذا الدعم لن يحصل عليه “طالبان”، خصوصا ان تجربتهم في الحكم لم تكن ناصعة. ومصالح باكستان والأغلبية العرقية “البشتون” التي ينتمي إليها قادة وكوادر حركة طالبان يمكن تأمينها بصيغة مشابهة أو أفضل عبر “التحالف الدولي”، بما في ذلك منح زعماء قبائل “البشتون” حصتهم في السلطة.
إلى ذلك، لن يستطيع “تحالف الشمال” التفرد بالسلطة والتمرد على من يموله، وعلى من مكنه من النصر وأوصله إلى الحكم. لاسيما ان هذا التحالف كان ولا يزال مسيرا من الخارج وليس حرا في مواقفه السياسية وتصرفاته على الأرض. وتفرده بدخول كابول بالرغم من تحفظ الآخرين، لا ينطبق على ترتيب وضع افغانستان ووسط آسيا بعد النصر.
لا شك في أن المرحلة الأولى من الحملة الدولية على الإرهاب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية مليئة بدروس سياسية ثمينة. العرب والفلسطينيون أحوج من غيرهم لاستيعابها بسرعة وبلورة موقف موحد في مرحلتها الثانية. خصوصا ان وقائع الحياة بينت انهم لم يحصدوا ثمن مواقفهم وأفق المرحلة الجديدة لا يبشر بالخير، ومؤشرات كثيرة تؤكد أن العرب لن يبقوا بمنأى عن تفاعلاتها واستهدافاتها.
لقد أتقنت الهند وباكستان إدارة المفاوضات مع الإدارة الأمريكية حول بناء التحالف ضد الإرهاب حيث فشل العرب. واشترطتا، كل على انفراد، تعاونهما مع الحملة الأمريكية ضد طالبان وتنظيم القاعدة الذي يتزعمه بن لادن، بالتزام الإدارة الأمريكية بعدد من المسائل الحيوية. وقبضتا مسبقا ثمن تعاونهما، ورفعت العقوبات المتنوعة التي فرضت عليهما بسبب تجاربهما النووية. وحصلتا على مساعدات اقتصادية ووعود أمريكية بأخذ مصالحهما الحيوية في أفغانستان بعين الاعتبار، بعد إلحاق الهزيمة بالطالبان والقاعدة.
أما العرب فقد خضعوا من بداية الحملة لابتزاز أمريكي، وتسرع بعضهم وأعلن استعداده حضور الحفلة قبل ان توجه له دعوة..وعاشوا هاجس الدفاع عن الذات كون الإرهابيين المتهمين بهجوم 11 أيلول /سبتمبر وتفجير مقر البنتاغون ومركز التجارة العالمية، ناس يحملون الجنسية العربية ودينهم الإسلام. وتحركت الحكومات العربية كل بمفردها، وأبدت استعدادها دخول “التحالف الدولي ضد الإرهاب” وتقديم جميع الخدمات المطلوبة دون مقابل، حتى انهم لم يشترطوا الاتفاق مسبقا على تعريف محدد للإرهاب المنوي محاربته. وفي غمرة التسابق على نفي تهمة الإرهاب وكسب رضى الإدارة الأمريكية، نسي الزعماء انهم اتفقوا في قمة عمان على تعزيز دور مؤسسة القمة، وتفعيل الجامعة العربية وتعزيز مكانتها الاعتبارية كإطار يوحد جهودهم في حقل السياسة الإقليمية والدولية، واختاروا وزير الخارجية المصرية السابق “عمرموسى” على هذا الأساس لهذه المهمة الكبيرة.
إلى ذلك، أبدت الحكومات العربية استعدادها المساهمة في حملة الإطاحة بالطالبان وبن لادن دون الاتفاق على تحرك أمريكي دولي محدد لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بحقوقهم المغتصبة في فلسطين والجولان وجنوب لبنان. ولم يصروا على إدانة الإرهاب الإسرائيلي الممارس تحت سمع وبصر الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية والأمم المتحدة، ضد السوريين واللبنانيين في الجولان وجنوب لبنان، وضد الفلسطينيين أرضا وشعبا وشجرا وممتلكات. وقبلوا بوعود لفظية قدمها مبعوثون أمريكيون وأوروبيون علنا وعبر القنوات السرية، ونسوا تجاربهم السابقة المؤلمة مع الوعود الشفهية الأمريكية.
وكانت النتيجة : اعتماد الحكومتين الأمريكية والبريطانية وجهة النظر الإسرائيلية في أمور عدة. منها عدم تمييزهما الإرهاب الدولي المنوي محاربته عن النضال المشروع ضد الاحتلال الإسرائيلي الذي يخوضه حزب الله في لبنان، وحركة المقاومة الإسلامية “حماس” وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين. علما ان هاتين الحكومتين ميزتا بين “الشين فين” “والجيش الجمهوري” في ايرلندا. ومواثيق الأمم المتحدة تجيز نضال الشعوب ضد الاحتلال الأجنبي. وقفزتا عن كون الحركات والمنظمات الفلسطينية واللبنانية أحزاب سياسية شكلت “اذرع مسلحة” بعد فشل العالم في إزالة الاحتلال عن كاهل شعوبهم. وأحيت أمريكا وبريطانيا قصة “القيادة العراقية والإرهاب” والرقابة على تسليح العراق، ولوحتا باستهدافه في الموجة الثانية من الحرب على الإرهاب. ومارس رئيس الولايات المتحدة عملية ابتزاز وترهيب ضد القيادة الفلسطينية وامتنع عن استقبال عرفات، وتراجع عن وعود قطعها بهذا الخصوص لأكثر من زعيم عربي. وتأبط شرا، مستشار الأمن القومي الأمريكي “كونداليسا رايس” رئيس السلطة الفلسطينية “ياسرعرفات” واتهمته علنا بعدم الجدية في محاربة الإرهاب، وبدعم “حزب الله” “وحماس”. وأظن أنها، كخبيرة باستراتيجية الأمن الدولي، ليست جاهلة بسلبية موقف هذين التنظيمين من السلطة الفلسطينية ورئيسها، وبمعارضتهما الشديدة لسياسته وتوجهاته السلمية ويتهمانه بالتفريط والاستسلام.. الخ
وبديهي القول ان بقاء موقف النظام السياسي العربي بشقيه الرسمي والشعبي على حاله يشجع الإدارة الأمريكية على رفع وتيرة الضغط والابتزاز والتدخل في الشئون الداخلية للدول والأحزاب والحركات العربية. وزج عدد منها في خطوات وإجراءات عملية ضد أخرى، تؤدي حتما إلى صراع عربي عربي وتفجير الأوضاع الداخلية في أكثر من دولة. واتهام أمريكا، في المرحلة الأولى، العراق وبعض القوى الوطنية والإسلامية العربية بالإرهاب قد يتلوه في المرحلة الثانية؛ تصعيد العمليات الحربية ضد العراق، يرافقها ضغط أمريكي مكثف على الحكومتين السورية واللبنانية والسلطة الفلسطينية للقيام بإجراءات عملية ضد حزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي، لا تتوقف عند تجميد الأرصدة والحسابات المالية. ويخطئ اي طرف عربي، رسمي او شعبي، إذا اعتقد ان بإمكانه عزل نفسه عن نتائج هذه التطورات. خاصة ان أنصار إسرائيل في المؤسسات التشريعية والتنفيذية الأمريكية يعملون ليل نهار على توتير العلاقة الأمريكية العربية، وتوجيه الغضب الأمريكي من أحداث 11 أيلول/ سبتمبر نحو الدول العربية وبخاصة التي تربطها علاقات حميمة بالولايات المتحدة الأمريكية. ومفيد ان يتذكر الجميع ان حديث الرئيس بوش عن انسحاب القوات الإسرائيلية فورا من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها بعد مقتل وزير السياحة “زئيفي” تحول، بفعل دور اللوبي الإسرائيلي في أمريكا، إلى انسحاب متدرج ينفذه الجيش الإسرائيلي على مهله..
اعتقد ان حماية المصالح القومية المشتركة في المرحلة الثانية من الحرب ضد الإرهاب، يفرض على جميع أطراف النظام السياسي العربي، بشقيه الرسمي والشعبي، عدم استصغار الأخطار الكبيرة التي تحملها. وتوحيد رؤاهم حول سبل درئها، وتجاوز خلافاتهم والعمل معا في إطار الجامعة العربية ومؤسسة القمة على منع التفرد بأي منهم. وإذا كانت القمم العربية لم تفلح في معالجة ما اصطلح على تسميته “بالحالة العراقية”، فان العراق مطالب في هذه المرحلة بالقيام بمبادرة تمكن الجامعة العربية من طوي هذا الملف، وتجريد الإدارة الأمريكية من مبررات ضربه وإرباك الوضع العربي برمته.
وإذا كانت الإدارة الأمريكية ترهن مستقبل علاقتها بسوريا ولبنان والسلطة الفلسطينية بمدى عملها على تفكيك ما تسميه بالمنظمات الإرهابية، يصبح المطلوب موقفا عربيا موحدا يصر على تحديد مفهوم الإرهاب واعتبار النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي ليس إرهاب. وان تنفيذ قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي هو أقصر الطرق لحل الخلاف حول تعريف الإرهاب، وتحويل منطقة الشرق الأوسط إلى واحة سلام لا تنتج الإرهاب.
صحيح انه من الصعب مخاطبة العقل والتحدث بنبرة هادئة مع الشارع الفلسطيني في خضم تشييع الشهداء وفوق حطام المنازل التي تدمرها القوات الإسرائيلية، لكن ذلك لا يمنع من تذكير الجميع ان شارون يفضل ميادين الحرب على غرف المفاوضات. وان نجاح التحرك العربي في معركة التمييز بين الإرهاب ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي يفرض على القوى الفلسطينية، أنصار العمل العسكري ضد إسرائيل في كل مكان وزمان.. ان يستفيدوا من دروس المرحلة الأولى من الحرب على الإرهاب في أفغانستان ويجمدوا توجهاتهم العسكرية. ويفسحوا المجال للتحرك السياسي والدبلوماسي العربي وتجنيب المنطقة العربية أخطار المرحلة الثانية من هذه الحرب. وعملية “انتحارية” واحدة جديدة تستهدف مدنيين إسرائيليين تكفي لقطع الطريق أمام الجهود العربية المطلوبة، وتحول الحركة الفلسطينية إلى هدف رئيسي في الجولة الثانية من حرب التحالف الدولي ضد الإرهاب.